منذ عام 2003 وهناك أزمة في توليد منحى جديد للأداء الأمني قادر على الإنتقال بالأداء العسكري من النمطية التقليدية الى مستلزمات الحرب اللامتماثلة، فالجميع يدرك إن طبيعة الحرب على الإرهاب تتطلب وجود تشكيلات خاصة قادرة على إدارة مايسمى بحرب الشوارع، وبالرغم من الإنتقالات التطبيقية التي أنتجها العقل السياسي الوطني بشأن جهاز مكافحة الإرهاب والعمليات الخاصة في وزارة الداخلية، إلا ان فقدان العقيدة الأمنية وليست العسكرية جعلت التخطيط الأمني يتجه نحو الفوضى لاسيما في ظل التعددية النسبية في صناعة القرار الأمني وتداخل الصلاحيات بين الحكومة الإتحادية والحكومات المحلية، وهذا ما جعل سقوط الموصل في حزيران 2014 يكون الأكثر سهولة بالنسبة للجماعات الإرهابية بسبب غياب المركزية في القرار الأمني، وبالتالي فإن الإفتراض الأبرز هو الكيفية التي سوف يكون عليها الوضع الأمني في حال المزيد من اللامركزية في هذا المجال، ودعم الكونغرس الأمريكي قرارات تخص تمكين الجماعات الإجتماعية في العراق من إمتلاك أسلحة ومعدات تضاهي ماتمتلكه الدولة في هذا الشأن.
الجانب الكردي: طموحات غير مسؤولة
مع تعاظم إنتصارات القوات المسلحة والحشد الشعبي بدأت بعض الدول الإقليمية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ترى بأن مخطط توازن القوى الإقليمي بدأ بالميل نحو إيران على حسابها رغم أنها تدرك إنها تعيش وهم الزعامة الإقليمية، وبدأت تسعى أن توجد قنوات جديدة لخياراتها الإقليمية من بينها خطوات إقليمية كالحالة مع التحالف الذي قادته ضد الحوثيين في اليمن والسعي الى تأسيس جيش عربي يساهم في تنفيذ هذه الصياغات الإقليمية الجديدة لمواجهة التمرد والتهديدات الإقليمية وفقاً لرؤيتها، وأخرى دولية تحاول من خلالها تفتيت المنطقة الى أشكال جديدة تكون أكثر سهولة من حيث السيطرة. وتصاعدت اعلام هذه الإنتصارات بعد الزيارات التي قام بها أعلام من الوطن العربي في مصر من الفنانين والنخب الدينية في الأزهر الى العراق ومرافقة قوات الحشد الشعبي الى مناطق التحرير ورؤية مجازر داعش في سبايكر.
وبلا شك مارس اللوبي السعودي في الولايات المتحدة دوراً مهماً في هذا المجال، حيث إن التفكير بتسليح الجماعات الإجتماعية في العراق وفقاً لمسودة قرار لجنة الخدمات العسكرية في الكونغرس الأمريكي من شأنه أن يقوي النزعة الإنفصالية لدى هذه الجماعات لاسيما إذا ما أخذنا بعين الإعتبار وجود المحفزات السياسية لذلك. وهذه المحاولة جاءت لتدعم الطموحات السعودية في المنطقة بعد حرب اليمن.
وبالتالي فإنه من غير الممكن أن تمارس أي جماعة في العراق نشاطها من جديد من دون أن تأخذ بعين الإعتبار إتجاهات الإستراتيجية الأمريكية بشكل جدي حيال العراق والمنطقة. فضلاً عن تصورات القوى الإقليمية في المنطقة والتي تحكم خياراتها طبيعة محفزات الذهنية الأيديولوجية مع أطراف المنطقة.
إن إتجاهات التعامل بهذا المنحى هي لاتبدو مجرد معالجات تكتيكية للوضع الإقليمي بقدر ماهي إعادة تقسيم لنفوذ القوى الكبرى من جديد، فعجز التقسيمات الحالية التي ولدتها إتفاقية سايكس بيكو عن تلبية المصالح الأمريكية والإسرائيلية جعلنا أمام مقاربة الإنتقال التاريخية من الوسيلة الى الصياغة الإستراتيجية، إذ تحولت إسرائيل بموجب هذه الفرضية من كونها وسيلة في القرن العشرين على أثر وعد بلفور 1917 الى مشروع لصياغة نمط جديد للتفاعلات في القرن الحادي والعشرين.
ومع زيارة رئيس إقليم كردستان السيد "مسعود بارزاني" الى واشنطن بدأت لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأمريكي مناقشة مشروع قرار إضافي يجيز للرئيس الأمريكي تسليح قوات البيشمركة من دون الرجوع الى الكونغرس، وهذا الأمر يمنح اللوبي الكردي في واشنطن قوة على سياسة العراق الخارجية حيال الولايات المتحدة الأمريكية. فضلاً عن أنه يؤشر الى ملامح التواصل بينه وبين اللوبي السعودي في نطاق الإستراتيجية الإقليمية الجديدة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وبالتالي فإن هذا التحول في المسار العقيدي الدولي والإقليمي حيال الجماعات الإجتماعية في العراق يقدم تصوراً دقيقاً عن ملامح التوزيع الجديد للتفاعل الداخلي والذي سينعكس تأثيره بشدة على منطقة الشرق الأوسط بسبب شدة الترابط بين المحفزات الإجتماعية والمذهبية بين دول المنطقة.
العراق... الى أين؟
يقوم الإفتراض الأساس في أن قراري الكونغرس يسعى الى التعامل مع الجماعات الإجتماعات في العراق على حساب الدولة نفسها، وهذ من شأنه أن يحفز نوعين من الإنعكاسات: الأول يتعامل مع تشجيع النزعة الإنفصالية بالنسبة لهذه الجماعات، إذ إن إمتلاكها لخيارات عسكرية وسياسية توازي الدولة من حيث القوة يدعم أي خيار تتبناه في قرارها الإستراتيجي.
أما الثاني فهو يتعلق بإدارة القرار الأمني، حيث سوف يدعم قرار الكونغرس اللامركزية الأمنية التي تستهدف تحقيقها ليس في العراق فقط إنما على كامل المنطقة، وبالتالي فإن بداية العمل بتسليح الجماعات الإجتماعية في العراق سوف يعزز من مطالب الجماعات الإجتماعية الأخرى في المنطقة على سلك هذا النحو.
وبالرغم من أن مشاريع القرار داخل الكونغرس الأمريكي غير مقبولة من قبل إدارة البيت الأبيض وقد صرح بذلك البنتاغون بإعلان رسمي بأنه سوف يتعامل مع العراق كدولة موحدة، إلا أن ذلك لايلغي منحى التفكير الإستراتيجي المحتمل بعد سنوات أوباما أو خلال مرحلته، فكما يبدو أن من كان يؤيد القرار قبل سنوات كالحالة مع نائب الرئيس "جو بايدن" يرفض القرار اليوم، وبالتالي فإن إحتمالات التبدل في المواقف هي التي سوف تفرض نفسها على هذه الحالة.
إن واحدة من أهم الإنعكاسات المحتملة لهذين القرارين هو تشجيع اللامركزية في القرار الأمني، فتسليح العشائر أو البيشمركة من شأنه أن يخلق محفزات جدية للإستقلال بالقرار الأمني، وهذا الأمر سوف يقود الى إنهاك مؤسسات الأمن وغياب التوافق الإيجابي في تبني إستراتيجية الأمن الوطني، وسوف يضطر صانع القرار الى التعامل مع جميع المصالح الفرعية المتناقضة على حساب مصالح الدولة.
ومن زاوية أخرى وتأكيداً لهذه الحقائق التي تدور في مخيلة العقل السياسي الوطني، فإن الحديث داخل الكونغرس الأمريكي عن ضمانات أمنية ترافق عملية تسليح العراق، تتجه هي الأخرى نحو اللامركزية الأمنية خصوصاً من خلال مطالبة القرار بتشريع مجلس النواب العراقي لقانون الحرس الوطني، الذي يعتقد فيه البعض إنه ضمان لنفي تفوق أحد المكونات على الآخر متجاهلين تكريسه القانوني لللامركزية في القرارات الأمنية من خلال تأسيس مجلس لإدارة الأمن في المحافظات العراقية تأخذ على عاتقها رسم وصياغة الخطط الأمنية في المحافظة مع إشراف بعيد ومصادقات شكلية بروتوكولية للقائد العام للقوات المسلحة.
وبالتالي فإن غياب السلطة المركزية في القرار الأمني وضعف خيارات الحكومة الإتحادية سوف يجعل الوضع في العراق يتجه نحو تغييب المصالح العليا وبروز الجماعات الفرعية كقوة سياسية وعسكرية لها تأييد دولي وإقليمي، فضلاً عن إمتلاكها لمسوغات أيديولوجية ومذهبية تكفي لتعظيم التناقض والتصادم في المصالح الجمعية.
إن خيارات الحكومة العراقية حيال هذه الترتيبات تبدو صعبة جداً وهنالك ضرورة لإعادة بناء الدبلوماسية الشعبية عبر تفعيل الحراك الإجتماعي من خلال منظمات المجتمع المدني والمؤتمرات الوطنية ولجان متخصصة في المصالحة الوطنية قادرة على صياغة مشروع للمصالحة وليس إستراتيجيات وقتية لاتمتلك أي مجال وطني لتنفيذها.
اضف تعليق