المجتمعات الإنسانية بطبعها، تعيش حالة التنوع والتعددية، وفك الارتباط بين مفهوم الاختلاف ومفهوم المساواة، هو الذي يقود ويؤسس إلى علاقة سلبية بين مختلف المكونات والتعبيرات. لهذا فإن المشكلة الجوهرية ليست وليدة الاختلاف والتمايز بين الناس، بل هي وليدة خلق الفجوة والمسافة بين الاختلاف والمساواة لهذا...
المقدمة
ثمة علاقة عميقة، وعلى أكثر من مستوى، تربط قيمة الاستقرار السياسي والاجتماعي في أي تجربة إنسانية، وقيمة العدالة.. بمعنى أن كل المجتمعات الإنسانية، تنشد الاستقرار، وتعمل إليه، وتطمح إلى حقائقه في واقعها، إلا أن هذه المجتمعات الإنسانية، تتباين وتختلف في الطرق التي تسلكها، والسبل التي تنتهجها للوصول إلى حقيقة الاستقرار السياسي والاجتماعية.
فالمجتمعات الإنسانية المتقدمة حضاريا، تعتمد في بناء استقرارها الداخلي السياسي الاجتماعي على وسائل الرضا والمشاركة والديمقراطية والعلاقة الايجابية والمفتوحة بين مؤسسات الدولة والسلطة والمجتمع بكل مؤسساته المدنية والأهلية وشرائحه الاجتماعية وفئاته الشعبية.. لذلك يكون الاستقرار، هو بمثابة النتاج الطبيعي لعملية الانسجام والتناغم بين خيارات الدولة وخيارات المجتمع.
بحيث يصبح الجميع في مركب واحد، ويعمل وفق أجندة مشتركة لصالح أهداف وغايات واحدة ومشتركة.
لذلك غالبا ما تغيب القلاقل السياسية والاضطرابات الاجتماعية في هذه الدول والتجارب الإنسانية. وإن وجدت اضطرابات اجتماعية أو مشاكل سياسية وأمنية، فإن حيوية نظامها السياسي ومرونة إجراءاتها الأمنية وفعالية مؤسساتها وأطرها المدنية، هي العناصر القادرة على إيجاد معالجات حقيقية وواعية للأسباب الموجبة لتلك الاضطرابات أو المشاكل.
وإذا تحقق الاستقرار العميق والمبني على أسس صلبة في أي تجربة إنسانية، فإنه يوفر الأرضية المناسبة، لانطلاق هذا المجتمع أو تلك التجربة في مشروع البناء والعمران والتقدم.
فالتقدم لا يحصل في مجتمعات، تعيش الفوضى والاضطرابات المتنقلة، وإنما يحصل في المجتمعات المستقرة، والتي لا تعاني من مشكلات بنيوية فيه طبيعة خياراتها، أو شكل العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع والعكس.
فالمقدمة الضرورية لعمليات التقدم الاقتصادي والعلمي والصناعي، هي الاستقرار السياسي والاجتماعي. وكل التجارب الإنسانية، تثبت هذه الحقيقة. ومن يبحث عن التقدم بعيدا عن مقدمته الحقيقية والضرورية، فإنه لن يحصل إلا على المزيد من المشاكل والمآزق، التي تعقد العلاقة بين الدولة والمجتمع وتربكها وتدخلها في دهاليز اللاتفاهم واللاثقة.
وفي مقابل هذه المجتمعات الحضارية – المتقدمة، التي تحصل على استقرارها السياسي والاجتماعي، من خلال وسائل المشاركة والديمقراطية والتوسيع الدائم للقاعدة الاجتماعية للسلطة.
هناك مجتمعات إنسانية، تتبنى وسائل قسرية وتنتهج سبل قهرية للحصول على استقرارها السياسي والاجتماعي.
فالقوة المادية الغاشمة، هي وسيلة العديد من الأمم والشعوب، لنيل استقرارها، ومنع أي اضطراب أو فوضى اجتماعية وسياسية. وهي وسيلة على المستوى الحضاري والتاريخي، تثبت عدم جدوائيتها وعدم قدرتها على إنجاز مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بمتطلباته الحقيقية وعناصره الجوهرية.
لأن استخدام وسائل القهر والعنف، يفضي اجتماعيا وسياسيا، إلى تأسيس عميق لكل الأسباب المفضية إلى التباعد بين الدولة والمجتمع وإلى بناء الاستقرار السياسي على أسس هشة وضعيفة، سرعان ما تزول عند أية محنة اجتماعية أو سياسية.
وتجارب الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا والعراق، كلها تثبت بشكل لا مجال فيه للشك، أن العنف لا يبني استقرارا، وإن القوة الغاشمة لا توفر الأرضية المناسبة لبناء منجزات حضارية وتقدمية لدى أي شعب أو أمة.
فلا استقرار بلا عدالة، ومن يبحث عن الاستقرار بعيدا عن قيمة العدالة ومتطلباتها الأخلاقية والمؤسسية، فإنه لن يحصد إلا المزيد من الضعف والهوان.
فتجارب الأمم والشعوب جميعها، يثبت أن العلاقة بين الاستقرار والعدالة، هي علاقة عميقة وحيوية. بحيث أن الاستقرار العميق هو الوليد الشرعي للعدالة بكل مستوياتها. وحين يتأسس الاستقرار السياسي والاجتماعي، على أسس صلبة وعميقة، تتوفر الإمكانية اللازمة لمواجهة أي تحد داخلي أو خطر خارجي.
فالتحديات الداخلية لا يمكن مواجهتها على نحو فعال، بدون انسجام عميق بين الدولة والمجتمع. كما أن المخاطر الخارجية، لا يمكن إفشالها بدون التناغم العميق بين خيارات الدولة والمجتمع. وكل هذا لن يتأتى بدون بناء الاستقرار السياسي والاجتماعي على أسس العدالة الأخلاقية والمؤسسية.
وإن الإنسان أو المجتمع، حينما يشعر بالرضا عن أحواله وأوضاعه، فإنه يدافع عنها بكل ما يملك، ويضحي في سبيل ذلك حتى بنفسه. وأي مجتمع يصل إلى هذه الحالة، فإن أكبر قوة مادية، لن تتمكن من النيل منه أو هزيمته.
فالاستقرار السياسي والاجتماعي المبني على العدالة، هو الذي يصنع القوة الحقيقية لدى أي شعب أو مجتمع.
لهذا فإن المجتمعات التي تعيش الاستقرار وفق هذه الرؤية والنمط، هي مجتمعات قوية وقادرة على مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية.
ونحن كمجتمعات عربية وإسلامية اليوم، وفي ظل التحديات الكثيرة، التي تواجهنا على أكثر من صعيد ومستوى، بحاجة إلى هذه النوعية من الاستقرار، حتى نتمكن من مجابهة تحدياتنا، والتغلب على مشاكلنا والتخلص من كل الثغرات الداخلية التي لا تنسجم ومقتضيات الاستقرار العميق..
ومقتضى العدالة في واقع مجتمعاتنا، التي تحتضن تعدديات عمودية وأفقية، هو العمل على إرساء حقائق ومتطلبات العيش الواحد أو المشترك بين جميع المكونات..
وهذا الكتاب، هو محاولة لتعزيز خيار التعايش السلمي بين مكونات مجتمعنا وتعبيرات وطننا..
ونرجو من العلي القدير، أن نكون قد وفقنا في ذلك، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب..
في معنى التعايش
تسود العالم المعاصر أسئلة ملحة حول الراهن بحقوله المختلفة، والمستقبل بآفاقه العديدة. إذ إننا نجد أن جميع الأمم والشعوب تسعى جاهدة بكل ما أوتيت من قوة وإمكانات لتؤكد نفسها وإرادتها في هذا العالم المتشابك والمليء بالطموحات والتطلعات والإرادات المتباينة. لذلك فإن من أهم الأعمال، التي نتمكن من خلالها من بناء راهننا بما ينسجم وطموحاتنا، هو العمل على تطوير مستوى الوفاق الداخل والعيش المشترك بين مكونات الوطن والمجتمع.
وذلك لأنه خيارنا المتاح والممكن لتوطيد أركان الوحدة الوطنية وتعزيز موجبات التلاحم الداخلي. وهذا من الشروط الأساسية لتظهير الإمكانات الذاتية وبناء القوة الوطنية.. فالوحدة هي حجر الأساس في مشروع البناء والتقدم، وحدة وطنية لا تعسف فيها ولا إسفاف، وحدة القضية الوطنية، والوطن الواحد، وحدة المصير المشترك، وحدة البناء والتطوير، وحدة الإنسان من أقصى الوطن إلى أقصاه. بهذه المعالم والمعطيات، نبني الذات الوطنية، ونعمق أسباب الوئام الاجتماعي والوطني، ونؤسس لحقبة وطنية جديدة. وذلك لأن الوطن ينهض بنهوض قيم التقدم والسلم المجتمعي والشراكة الوطنية، ويسقط ببروز قيم التخلف والتعصب والانغلاق على الذات.
وإن قيم الشراكة الوطنية، هي التي توفر الظروف الذاتية والموضوعية، لإنهاء الانغلاق الداخلي، وتحبط مؤامرات الخارج التي تسعى نحو التفتيت والتقسيم. وإن الوطنية الحقة تبدأ بالقبول النفسي والعقلي بالآخر المغاير على قاعدة الوطن الواحد والمصير المشترك. وهذا القبول بدوره يبلور صيغ التفاعل والتضامن والمشاركة مع الآخر اجتماعيا وسياسيا وثقافيا ووطنيا. لذلك فإن السديم البشري يتحول إلى مجتمع، أمة، حينما تتحقق مواطنية أبناءها في كل الأبعاد والجوانب. وبدون ذلك ليست ثمة وطنية وإن تاجر البعض باسمها. وإنما جزر اجتماعية مغلقة، متحاجزة، وتشظيات ثقافية، فكرية، تسوغ هذا التحاجز والتنافر.
من هنا فإن تطور الأوطان، مرهون بمدى القدرة النظرية والعملية، على بلورة رؤية أو نظرية وطنية، تستوعب كل الخصوصيات، وتدفع بإرادتها تجاه البناء الوطني الشامل. فالوطن في المحصلة النهائية، هو إرادة جميع الخصوصيات في العيش المشترك. وفي هذا المعنى يبدو الوطن وعاءا فريدا وضروريا، لأنه وطن التعايش والتعدد، واستيعاب التنوع وإعادة إنتاجه وحدة وطنية متينة.
ولنتذكر دائما: أن التنوع إذا أحسن إدارته والتعامل معه، تحول إلى ثروة فعلية، تزيد من آفاق المجتمع وروافده الإنسانية.
ووفق هذه الرؤية، ينبغي أن نتعامل مع كل تنوع أو تعدد متوفر في الفضاء الوطني.
ووحدتنا وتلاحمنا الداخلي، بحاجة بشكل دائم إلى هذه الرؤية التي تثري مضامين الحوار والوحدة على الصعيدين الوطني والإنساني.
إذ إننا نعتقد أن الوحدة التي تبنى على قاعدة الحرية والمشاركة والمسؤولية المتبادلة، هي الوحدة الصلبة والقادرة على إفشال كل مخططات التفتيت والتجزئة، كما أنها هي التي تؤهل المجتمع للانخراط في مشروع بناء قوته وعزته على أسس حضارية وإنسانية متينة.
والتعايش الذي نقصده لا يعني الذوبان أو الإنهاء القسري للاختلافات والتباينات أو تجميدها، وإنما يعني وببساطة شديدة الاعتراف بحق الاختلاف وواجب المساواة.
فالاختلافات بين البشر حالة طبيعية وجبلة إنسانية، وينبغي أن لا تقود هذه الاختلافات إلى انتهاك الحقوق أو التعدي على حقوق الآخرين المادية والمعنوية، وإنما ينبغي أن تضبط بواجب المساواة. بحيث لا تكون الاختلافات والتباينات تشريعا للانتقاص أو الانتهاك أو الظلم والعدوان وإنما إلى المساواة في الحقوق والواجبات. فالتعايش هو الموازنة الفذة والضرورية والدائمة لحق الاختلاف وواجب المساواة. إن هذه المعادلة التي توازن بين الاختلاف والمساواة هي حقيقة التعايش في المجتمعات الإنسانية.
فالمجتمعات الإنسانية بطبعها، تعيش حالة التنوع والتعددية، وفك الارتباط بين مفهوم الاختلاف ومفهوم المساواة، هو الذي يقود ويؤسس إلى علاقة سلبية بين مختلف المكونات والتعبيرات. لهذا فإن المشكلة الجوهرية ليست وليدة الاختلاف والتمايز بين الناس، بل هي وليدة خلق الفجوة والمسافة بين الاختلاف والمساواة. لهذا فإن كل جهد يبذل في سبيل تجسير الفجوة بين الاختلاف والمساواة هو جهد تعايشي، ويخدم قضية التعايش بين أبناء الوطن الواحد.
لهذا كله ومن أجل تعزيز خيار التعايش في مجتمعنا ووطننا، نود التأكيد على النقاط التالية:
1- تعرية كل التصرفات والممارسات التي تعمق الفجوة بين الاختلاف والمساواة.
فالاختلاف بكل مستوياته، ليس مبررا لعدم المساواة في الحقوق والواجبات. وكل ممارسة تستهدف خلق الفجوة والمسافة بين الاختلاف والمساواة، هي ممارسة على النقيض من مشروع التعايش، لذلك ينبغي تعريتها وفضحها ورفع الغطاء الديني والاجتماعي عنها.
2- العمل على تنقية البيئة الاجتماعية والوطنية من أمراض القطيعة والفئوية الضيقة وحالات الانغلاق والانكفاء والانطواء.
فلا يمكن أن ننجز مفهوم التعايش في مجتمعنا في ظل سيادة نزعة التعصب والقطيعة والانكفاء المتبادل. فالعزلة الشعورية والعملية، لا تقود إلى تعايش، بل إلى تحاجز بين أبناء المجتمع الواحد لاعتبارات فكرية أو سياسية أو اجتماعية، يستهدف ويقتضي العمل على إنهاء الحواجز النفسية والثقافية بين المواطنين، وتفكيك مبررات الانطواء والانكفاء.
والتعايش يقتضي أيضا تنشيط حالات الانفتاح والتواصل، وخلق الثقافة الداعمة والمعززة لهذا الخيار والتوجه. فلا تعايش بدون انفتاح وتواصل، فهما بوابة التعايش الأساسية.
3- حينما نتحدث عن (التعايش بين أبناء الوطن الواحد) فإننا نتحدث عن السياسات التعليمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي ينبغي أن تساهم في تعزيز خيار التعايش، وتنهي كل المفردات والقضايا المضادة لمشروع التعايش على مستوى المناهج أو الأداء والممارسة.
وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى مشروعات الدمج بين المكونات الوطنية المتعددة، لأنه وببساطة شديدة المجتمع السعودي متعدد ومتنوع، ولا يمكن بناء هوية وطنية مشتركة، إلا على قاعدة الاعتراف بحقيقة التنوع في المجتمع السعودي، والعمل على بناء مشروع متكامل للاندماج الوطني.
أي إننا في الوقت الذي نعترف فيه بحقيقة التعددية، في ذات الوقت، لا ندعو إلى التحاجز بين هذه التعدديات أو الانحباس المتبادل، وإنما ندعو إلى بناء مشروع وطني للاندماج يستوعب جميع التعدديات، ويعلي من شأن الانتماء الوطني المشترك لجميع المواطنين.
رؤية في العيش المشترك
ثمة سؤال مركزي تثيره الأحداث والتطورات في أكثر من بلد عربي وإسلامي. وهو كيف نعيش معا ونحن مختلفون؟ وذلك لأن الاختلاف في أي دائرة من دوائر الحياة والفكر، من الحقائق الثابتة والشاخصة في حياة الإنسان بصرف النظر عن بيئته أو تكوينه المعرفي والعقدي. ولكن في ذات الوقت لا يمكن للإنسان أن يعيش وحده، وإنما هو مجبول على أن يعيش حياة اجتماعية وإنسانية مع آخرين قد يختلفون معه كليا أو جزئيا. وكل المحاولات التي بذلها الإنسان الفرد أو الجماعة لتعميم قناعاته ومواقفه، واستخدام القهر والغلبة لسيادة أفكاره ومعتقداته، لم تفض إلا المزيد من الاختلاف والاحتقان.
لذلك فإننا بحاجة أن نبحث عن إجابة أو صيغ حضارية للتعامل بين حقيقة الاختلاف الإنساني وضرورات العيش المشترك. فلا يمكن أن ندحر الاختلافات أو نطمسها بين البشر، كما أنه لا يمكن أن ينعزل الإنسان وينكفئ عن غيره بدعوى الاختلاف والتباين في وجهات النظر.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن طبيعة الإجابة على هذا السؤال، هي التي ستحدد بشكل أو بآخر طبيعة المستقبل السياسي والاجتماعي للعديد من الدول والبلدان العربية والإسلامية. وإن مظاهر العنف والفوضى التي تشهدها بعض البلدان، هي ليست من جراء وتداعيات حقيقة التنوع والتعددية الموجودة في هذه البلدان، وإنما هي لغياب صيغة حضارية تجمع بين حقيقة الاختلاف الذي لا يمكن نبذه وإنهاؤه من الوجود الإنساني وبين ضرورات العيش المشترك. لهذا فإن الوصول إلى صيغة سياسية وثقافية ومجتمعية لهذا الأمر هو الذي سيحدد شكل المستقبل السياسي للعالم العربي. فكيف يمكن بناء رؤية وطنية في كل بلداننا وأوطاننا العربية لا تغفل حقيقة التعدد والتنوع والاختلاف، ولا تتجاوز متطلبات الوحدة والعيش المشترك.
وإن التغافل عن هذه الحقيقة، أو عدم احترام متطلباتها، هو الذي ساهم بشكل أو بآخر بحالات الفوضى والعنف التي سادت في بعض البلدان العربية والإسلامية. فلا يمكن قهر الناس على رأي وطريقة واحدة، وإن أية محاولة في هذا الإطار لم تنتج إلا المزيد من التشبث بالخصوصيات الذاتية. فلا يمكن تعميم الخصوصيات الذاتية بالقهر والقسر، وإنما بالتوافق والحوار والانفتاح وخلق المساحات المشتركة بين جميع الخصوصيات والمكونات. فالمجتمعات لا تدار بالقسر، والاستقرار لا يتأتى بالقهر، والأمن بكل مستوياته ودوائره، لا ينجز إلا بالتوافق واحترام الخصوصيات وتوطيد أركان العيش المشترك. ومن يبحث عن الأمن والاستقرار بعيدا عن مقتضيات السلم الأهلي وخلق التفاهمات والتوافقات الضرورية بين مختلف الخصوصيات والمكونات، فإنه لن يحصل إلا المزيد من تشبث الناس بخصوصياتهم الذاتية. ولا يمكن لاعتبارات ذاتية وموضوعية، أن تنجح تلك المحاولات والممارسات التي تستهدف تعميم خصوصية واحدة بوسائل قهرية على بقية الخصوصيات.
فالأوطان فضاء مشترك لكل الخصوصيات والمكونات، ولا تبنى هذه الأوطان إلا بإعادة صياغة طبيعة العلاقة بين هذه المكونات والتعبيرات. بحيث تخرج من سياق الاستعداء والتحريض على الكراهية والمفاصلة الشعورية والعملية، إلى حقائق التفاهم والتقارب والاحترام المتبادل.
ومهما كانت قناعة الإنسان بصوابية أفكاره ومعتقداته، فإن هذا لا يبرر له ولا يشرع له، أن يمارس الفرض والقهر وأدوات السلطة لتعميم أفكاره وقناعاته. فلكل إنسان الحق في الاعتزاز بأفكاره والتشبث بقناعاته والاعتزاز بعقائده، ولكنه ليس له الحق في قهر الناس عليها، وممارسة أساليب قسرية لتبنيها.
ولعلنا لا نبالغ حينما نقول: أن الكثير من المشاكل السياسية والثقافية والأيدلوجية، التي تعاني منها بعض البلدان العربية والإسلامية، هي من جراء هذه الرؤية والممارسة. حيث التعصب الأعمى والمقيت بالذات وأفكاره، مما يقود إلى التوسل بوسائل القهر والظلم لتعميم هذه الأفكار والقناعات على بقية المواطنين. فالأحزاب الأيدلوجية التي حكمت في بعض البلدان العربية، وعملت بوسائل سلطوية وقهرية لتعميم أيدلوجية الحزب. هي بهذه الطريقة لم تعالج مشاكل المجتمع والوطن الذي تنتمي إليه، وإنما فاقمتها وبنت حواجز إسمنتية بين مختلف مكونات شعبها.
ونظرة واحدة إلى الدول العربية، التي حكمت من قبل أحزاب أيدلوجية، يجعلنا نكتشف هذه الحقيقة، ونكتشف أن قهر الناس على فكرة ما، وأيدلوجية ما، لا ينتج إلا الحقائق المضادة لتلك الفكرة والأيدلوجية. كما أن التشكيلات الأيدلوجية والسياسية التي لا تمتلك سلطة سياسية، وتمارس في مجتمعها ووطنها هذه الممارسات وتتوسل بوسائل وأساليب إقصائية، تنم عن تعصب أعمى للذات وأفكارها. فهي لا تنتج الأمن والاستقرار، وإنما على العكس من ذلك تماما.
فلكل إنسان على وجه هذه البسيطة، الحق في أن يحمل فكرة أو يقتنع برؤية ومشروع، ولكن ليس له الحق في قهر الناس على هذه الفكرة أو الرؤية أو المشروع. لذلك نجد أن الباري عز وجل والذي اصطفى أنبياءه ورسله، وحملهم مسؤولية النبوة وهداية البشر إلى الطريق المستقيم، لم يعطهم سلطة القهر والسيطرة على الناس، وإنما حدد مهمتهم ووظيفتهم بالتذكير والتبليغ. قال تعالى [فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر] (سورة الغاشية، الآية 21 – 22).
فالمهمة كما يقول بعض المفسرين أن تطرح الكلمة التي تهز سمع الناس، لتنفذ إلى عقولهم، لتفتح في داخلها نافذة للتفكير في حساب كل تلك الاحتمالات ليعيشوا قلق المعرفة في مسؤولية المصير. وأن تحرك الأسلوب الذي يتفاعل مع فطرتهم ومشاعرهم وتطلعاتهم، ليثير اهتماماتهم حول الفكرة التي تقدمها، والخطر الذي يتهددهم، في الأجواء التي يحبونها ويرغبونها ويقبلون على الاندماج فيها. كما أن الإنسان مهما علت رتبته العلمية والاجتماعية، فإنه لا يملك في طريق تكوين قناعات الناس أو إقامة الحجة عليهم، إلا الجهد والكلمة. فإذا بذلهما الإنسان فقد قضى ما عليه. ولم يسلط الباري عز وجل أحد على قلوب الناس، ولم يجعل مشاعرهم خاضعة لقدرة أحد الذاتية.
ولم يمكن الخالق عز وجل لأحد الأمر في تغيير ذهنيات الناس وقناعاتهم بطريقة قسرية – قهرية. فدور الأنبياء والرسل وهم أصفياء الله عز وجل هو الإبلاغ والدعوة إلى الله بالكلمة الواعية المذكرة، ليأخذ البشر بعد ذلك حريتهم في الإيمان والكفر ليكون حسابهم على الله.
فالله سبحانه وتعالى لم يشرع لأحد، أن تكون لديه سلطة على قناعات الناس وأفكارهم. ومسؤولية صاحب الفكر والرؤية، أن يعرض فكرته على الناس ويتوسل بوسائل الدعوة والتبليغ، ولكن ليس لأحد السلطة على قهر الناس وفرض الآراء قسرا عليهم.
فالاختلاف الديني والمذهبي، الفكري والسياسي، لا يشرع لأحد انتهاك حقوق الطرف الآخر بدعوى الاختلاف والتباين في العقيدة أو المذهب أو الفكر أو السياسة. فالاختلافات بكل مستوياتها، لا تشرع الظلم والعدوان وانتهاك الحقوق. بل على العكس من ذلك تماما. إذا أن المختلف في الرؤية الإسلامية له حقوق كاملة وعلى الطرف الآخر أن يصونها ويحترمها. وهذه المسألة هي حجر الزاوية في مشروع خلق السلم الأهلي والعيش المشترك في مجتمع متعدد ومتنوع.
وهذا بطبيعة الحال، يقودنا إلى التأكيد على النقاط التالية:
1- إن التعصب الأعمى لأفكار الذات وقناعاتها، يضر بمستوى انتشار وقبول الآخرين لهذه الأفكار. فالتعصب بكل مستوياته، يضر بالأفكار والمعرفة، وينفر الناس منها، ويحول دون توسيع المقتنعين بها.
كما أن هذا الداء النفسي والعقلي والسلوكي الخطير، يحول دون الاستقرار والأمن الاجتماعي. وهناك بونا شاسعا ينبغي الالتفات إليه، بين ضرورات ومتطلبات الدفاع والتبشير بالأفكار والقناعات التي يحملها الإنسان، وبين التعصب الأعمى. فالدفاع عن الأفكار لا يقتضي العدوان على الآخرين، بينما التعصب شكل من أشكال العدوان. ودعوة الآخرين إلى تبني قناعات ومواقف الذات، لا تتطلب وصم الآخر بأشنع الصفات واتهامه بأسوأ الممارسات، بينما التعصب الأعمى يشرع ذلك ويقود صاحبه إلى ممارسات إقصائية وعنفية لا تنسجم ومقتضيات الدعوة بالتي هي أحسن، ولا تتناغم مع حاجات الاستقرار والأمن الاجتماعي.
لذلك فإن إزالة الآثار السلبية للاختلافات، تحتاج إلى الوقوف بحزم ضد ظاهرة التعصب الأعمى. لأن هذه الظاهرة، بمثابة الوعاء الحقيقي للكثير من الآثار السلبية التي تمنع العيش المشترك بين المختلفين. من هنا فإن الوصول إلى حقيقة العيش المشترك والسلم الاجتماعي، يتطلب محاربة ظاهرة التعصب الأعمى وكل النزعات الإقصائية التي لا ترى إلا ذاتها الضيقة.
2- في إطار السعي والعمل المتواصل، لبناء حقائق العيش المشترك في الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي، من الضروري الفصل بين احتكار القوة واحتكار الحقيقة. فليس كل من يمتلك القوة بالضرورة يمتلك الحق. كما أنه ليس بالضرورة أن من يمتلك الحق، يمتلك القوة التي تدافع عن هذا الحق.
والحقائق المطلقة لا يمكن أن يقبض عليها إنسان. لذلك فإن كل محاولات ادعاء امتلاك الحقيقة، هي محاولات لا تستهدف على الصعيد العملي إلا تبرير وتسويغ عمليات النبذ والتهميش والتمييز تجاه الآخرين المختلفين معه. ومن الخطايا المميتة على هذا الصعيد المماهاة بين القوة والحقيقة. وإن كل من يمتلك القوة قادر فعلا على امتلاك الحقيقة.
وهذا هو الذي يهيأ الأرضية الاجتماعية لكل المقولات والممارسات التي تهدم وتمنع بناء أركان وقواعد العيش المشترك في المجتمع المتعدد. فالحقيقة ينبغي أن تكون غاية الجميع، ولا يمكن أن يقبض عليها أحد بوسائل العنف والتعصب والغلو والنفي. فالخدمة الحقيقية التي يمكن أن يقدمها أي إنسان لفكره وقناعاته، هي حينما يبتعد عن كل نزعات التعصب والغلو، لأن هذه النزعات تحول دون المعرفة العميقة والحقيقية لمضامين تلك الأفكار، كما أنها (أي نزعات التعصب والغلو) تمنع إقبال الناس تجاه تلك الأفكار والقناعات.
فالتعصب يميت صاحبه، دون أن يحيا الفكر والمبدأ. لأن هذه النزعة المقيتة تطمس كل نوازع الخير وموجبات العدالة من نفس وكيان المتعصب سواء كان المتعصب فردا أو جماعة.
3- إن العيش المشترك يقتضي من كل المكونات والتعبيرات، العمل على إعادة صياغة علاقتها بأفكارها وقناعاتها العامة. فالعيش المشترك لا يعني أن تنحبس كل فئة في إطارها الفكري الضيق، بل يعني الانفتاح والتواصل المستديم مع بقية المكونات، وذلك من أجل نسج العلاقات الإيجابية، وتجاوز كل الأوهام والهواجس تجاه بعضنا البعض. وهذا بطبيعة الحال يتطلب إعادة صياغة العلاقة مع الأفكار والقناعات الخاصة بكل مكون وفئة. بحيث تصبح العلاقة حيوية ومرنة وفعالة.
والأمم والمجتمعات الإنسانية التي استطاعت أن تطور في واقعها نهج العيش المشترك، هي التي تمكنت من إعادة بناء علاقتها مع أفكارها. بحيث لا تكون العلاقة جامدة ومتخشبة. وإنما علاقة تفاعلية بكل ما لكلمة التفاعل من معنى ومضامين عميقة.
وجماع القول: أن العيش المشترك في أي تجربة إنسانية، ليس وصفة جاهزة، وإنما هو رؤية واضحة وإرادة صلبة وعمل مستديم باتجاه خلق الحقائق وتعزيز متطلبات التلاقي والتفاهم بين مختلف الفئات والشرائح والمكونات.
معاً من أجل التعايش الإسلامي
تعاني المنطقة من نزعات طائفية مقيتة، ساهمت في تأجيج الفتن وقتل الأبرياء في مناطق عديدة وعلى رأسها (العراق) حيث عانى ولا زال يعاني من عمليات قتل وترويع وتفجير للأبرياء. وأغلب هذه الممارسات تتم في سياق الهجمة الطائفية التي تتعرض إليها المنطقة. وفي بعض المجتمعات وصل الحال فيها إلى الحرب المفتوحة، التي يستخدم فيها القتل والتفجير، وفي مجتمعات أخرى هي أشبه ما تكون بالحروب الباردة حيث الشائعات والحروب الكلامية والاتهامات المتبادلة.
وأمام هذا الواقع، نحن جميعا أحوج ما نكون إلى مبادرة مؤسسية تعمل على تعزيز خطاب الاعتدال في مجتمعاتنا، وتفكيك كل الحوامل الفكرية والثقافية والاجتماعية المسئولة عن عمليات القتل والحروب المتنقلة التي تجري تحت غطاء طائفي بغيض.
ولا ريب أن الخطوة الأولى في مشروع إنضاج وخلق المبادرة المؤسسية، هو تداول الأمر ومناقشته بصوت مسموع، لعلنا نصل مجتمعين إلى مبادرة عامة، تشعل شمعة بدل لعن الظلام. فالطائفية من الأمراض الخطيرة، التي بدأت تستشري في عموم البلدان العربية والإسلامية.
ولا ريب أن هذا المرض، يشكل خطرا محدقا بأمن واستقرار كل المجتمعات العربية والإسلامية.
لذلك فإننا في عموم الدول العربية والإسلامية، بحاجة إلى كتلة تاريخية تتشكل من كل المعتدلين والوسطيين والنابذين إلى الطائفية بكل عناوينها، للعمل على محاصرة هذا المرض الفتاك، والقيام بمبادرات، تستهدف رفع الغطاء الديني والاجتماعي والسياسي عن كل الممارسات والخطابات التي تفرق بين الناس وأبناء المجتمع والوطن الواحد لاعتبارات مذهبية وطائفية.
فما يجري في باكستان والعراق، ينبغي أن يدان من الجميع. فالقتل اليومي للأبرياء في هذه الدول، لا تقره كل الشرائع السماوية ولا تقبل به كل المواثيق الدولية.
وصمت المسلمين جميعا عن ما يجري في هذه الدول والمجتمعات على عمليات التفجير والقتل، يثير الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة الحائرة التي تبحث عن إجابات حقيقية عن الصمت المريب.. إننا نرفض عمليات القتل والتفجير بصرف النظر عن ملابسات الاقتتال في كل هذه البلدان.
ومن الضروري للعلماء والفقهاء والمعاهد والجامعات والحوزات الدينية، أن ترفع الغطاء الديني عن كل هذه العمليات الإرهابية التي تجري باسم الإسلام.
ومن الضروري أن يدرك الجميع، أن استمرار الفتن الطائفية بمستوياتها المختلفة، يهدد وبشكل عميق استقرار مجتمعاتنا وأوطاننا، كما يهدد الأمن القومي والاستراتيجي لمنطقتنا كلها. لذلك فإن الوقوف بحزم ضد هذه العمليات الإرهابية ورفع الغطاء الديني والاجتماعي عنها، هو الخطوة الأولى في مشروع مواجهة الفتنة الطائفية التي بدأت تطل برأسها في العديد من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية.
فالظروف التي تعيشها المنطقة على أكثر من صعيد حساسة ودقيقة، وفي تقديرنا أن تبرير أو الصمت على الفتن الطائفية أو التحريض عليها بعناوين مواربة، تزيد الأوضاع سوءا وتدهورا.
وإن المطلوب ليس تبرير عمليات القتل الطائفي أو زيادة وتيرة خطابات التسويغ وبث الكراهية والتحريض، وإنما تعزيز خطاب الاعتدال والوسطية، الذي يجنب الوطن والمنطقة الكثير من التداعيات والمخاطر.
وفي سياق العمل على محاربة الفتن الطائفية التي بدأت بالبروز في أكثر من موقع وبلد عربي وإسلامي، أود التطرق إلى النقاط التالية:
1- إذا كان التناحر والتنازع والتقاتل بين المسلمين من المحرمات والكبائر، فإن كل ما يقود إلى ذلك من قول أو فعل فهو محرم، ويدخل في خانة تهيئة المناخ لاقتتال المسلمين مع بعضهم. لهذا فإننا سنة وشيعة يجب أن نرفض كل الممارسات والأقوال التي تقود إلى الفتنة والتقاتل بين المسلمين.
ووجود وقائع وممارسات طائفية في هذا البلد أو ذاك، ينبغي أن لا يقودنا إلى تبرير الأقوال والممارسات الطائفية، وإنما يؤكد لنا أهمية العمل على نبذ كل ما يشين ويسيء إلى وحدة الأمة وتلاحمها الداخلي.
وأدعو هنا وبكل محبة علماء ومشايخ المدرسة السلفية إلى خلق وبلورة وصياغة مقاربة جديدة في التعامل مع حقيقة التعددية المذهبية، نتجاوز من خلالها الكثير من عناصر الضغط في العلاقة مع المدرسة الإمامية.
كما أدعو جميع الأطراف السنية والشيعية من علماء وفقهاء ودعاة ومفكرين إلى الحفر المعرفي والتاريخي في كل المقولات التي تغذي بشكل مباشر أو غير مباشر حالة العداء والكراهية بين أتباع المذاهب الإسلامية. فتعالوا جميعا نعمل على تنقية فضائنا الوطني والاجتماعي من كل البؤر الطائفية التي تدمر الاستقرار وتدخلنا جميعا في نفق مظلم وخطير.
2- لا ريب أن العلاقة السنية–الشيعية في كل مناطق المجال الإسلامي، تتغذى سلبيا في علاقاتها وحساسياتها، من جراء تباين الرؤية والموقف من التاريخ وأحداثه ورجاله.
ونحن اليوم لا نستطيع أن نلغي أحداث التاريخ، كما إننا لا يمكن أن تتطابق وجهات نظرنا في كل أحداث التاريخ ورجالاته. لذلك فإن المطلوب على هذا الصعيد هو أن يحترم كل منا قناعات الآخر..
ومن أبرز مصاديق هذا الاحترام هو عدم الإساءة إلى الرموز التاريخية لبعضنا البعض. نحن مع الحوار وحرية البحث العلمي والتاريخي، ولكننا ضد الإساءة إلى رموز ومقدسات الآخرين، ونرفض سرا وعلانية نهج السب والشتيمة سواء صدر من طرف شيعي أو سني.
3- إن الأسئلة والتحديات التي تطلقها النزعات الطائفية، لا يمكن الإجابة عليها إلا في سياق إشاعة وتعميم ثقافة التسامح والحوار وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.
والمواطنة بمؤسساتها وقيمها وروحها، هي القادرة على دمج مختلف التنوعات والتعدديات في بوتقة واحدة، بحيث تتحول التنوعات والتعدديات من مصدر قلق، إلى رافد من روافد الإثراء والتمكين.
وحدها المواطنة بكل آفاقها ومسؤولياتها، هي القادرة على دمج التعدديات في سياق وحدة وطنية واجتماعية قائمة على احترام كل مقتضيات التعدد والتنوع.
حق العيش المشترك
عديدة هي الأسئلة الكبرى، التي تتطلب رؤية وإجابة حقيقية عليها. وذلك لأن وجود الأسئلة الملحة في حياة الإنسان، دون توفر إمكانية بلورة رؤية واضحة وإجابة صريحة عليها، يزيد من غبش الرؤية ويدخل المرء في متاهات ودهاليز التردد والضياع. لذلك فنحن بحاجة ماسة باستمرار إلى الإجابة على أسئلة راهننا، والبحث في صياغة رؤية متكاملة عن تحديات واقعنا، وسبل الخروج من مأزق وأزمات الحاضر.
ولعل من أهم هذه الأسئلة المطروحة اليوم: هل يمكن أن يعيش الإنسان حياة مشتركة وسليمة مع الآخر بغض النظر عن هويته ونقاط التمايز العديدة بينهما. فلا يمكن على الصعيد الواقعي أن تكون هويات البشر واحدة أو رؤيتهم للأمور والقضايا متطابقة. إذ أن الاختلاف في الهوية والرؤية والنظرة إلى الأشياء من نواميس الحياة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور الحياة من دون هذه الاختلافات والتمايزات والتنوعات. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن للإنسان أن يعيش وحده، منعزلاً عن الآخرين، ومنكفئاً عن المغايرين. فالتعايش مع الآخرين أضحى اليوم ضرورة، ولا فكاك منها.
لذلك كيف يمكن صياغة حياتنا الاجتماعية والعامة وفق هاتين الحاجتين: حاجة الاختلاف والتمايز على صعيد الهوية ونظام المعنى والتفكير. وحاجة التعايش المشترك مع الآخر المختلف والمغاير. فلا يمكن للإنسان أن يهرب من حقائق واقعه وعصره، كما أنه ليس بمقدوره أن يعيش وحده، بعيداً عن الآخرين وشؤونهم المختلفة. فدمج الهويات العميقة في حياة الإنسان، ليس ممكناً لأن كل طرف يرى في هويته العميقة الجدارة وأهلية الاستمرار والغلبة والتفوق والتمكن. كما أن الانحباس في هذه الهويات، يضر بحالة الوحدة والتعاون بين بني الإنسان في دوائر حياتهم المختلفة.
فمحاولات الدمج والتذويب، لا تفضي على الصعيد العملي، إلا للمزيد من التشبث بالخصوصيات وكل ما هو مميز للذات عن الآخر. كما أن مشروعات الاستغناء عن الآخرين ليست مواتية وغير ممكنة في آن.
لهذا نحن بحاجة إلى أن نبحث في صياغة أخرى للحل والمعالجة، لا تلغي حق الاختلاف والتنوع والتعددية، كما أنها لا تشرع للانحباس والعزلة أو للفوضى والانفلاش.
ولفهم هذه الظاهرة (كما يعبر جوزيف ياكوب) وما تنبئ به، لابد من إدراك معنى الانقلاب التاريخي الذي تشتمل عليه فبعد حركة توحيد طويلة أدت إلى انتصار الدولة -الأمة في القرن العشرين- سيكون القرن الواحد والعشرون، دون شك، قرن تحطيمها، لأن السعي إلى الدمج المتعارض مع التفتيت، يدفع، من الآن فصاعداً التمايز قدماً أمامه.
إذاً، فهذا المنعطف التاريخي الحقيقي، المترافق بشكل متناقض مع تحرك نحو الكونية، يفرض تقلباً في مفهوم الدولة القومية، والاعتراف بإمكانية توزيع سلطة الدولة، والحكم الذاتي في إطارها، والتمايز المحلي.
ومرتكزات الصيغة التي نراها ضرورية، وقادرة في آن واحد على ضبط العلاقة بين حق الاختلاف وضرورات العيش المشترك، هي الأمور التالية:
1- نبذ المساجلات والمماحكات:
لعلنا لا نأت بجديد حين القول: أن حوار الهويات مع بعضها، مع ضرورته وأهميته، إلا انه لا يستطيع صياغة العلاقة بين حق الاختلاف وضرورات العيش المشترك. لأن التراكم التاريخي، يحوّل الحوار إلى سجال ومماحكة، كل طرف يحاول إثبات صوابية رأيه وموقفه. فتضيع في معمعة السجال الجوامع المشتركة، وتشحن النفوس والعقول بحقائق الخلاف والنزاع والصدام.
لذلك فإننا نرى أن من مرتكزات صياغة العلاقة بين حق الاختلاف وضرورات العيش والوحدة، هو الخروج من شرنقة سجالات الهوية ومماحكات الأنا والآخر إلى رحاب المواطنة بكل ما تعني من مشاركة ومسؤولية وتجاوز للإحن التاريخية. وهذا لا يعني بطبيعة الحال إنهاء الحوارات العقدية والأيدلوجية، وإنما ما نريد قوله في هذا الصدد هو: أن الحوارات العقدية والأيدلوجية تؤتي ثمارها الايجابية، حينما يتحقق مناخ من الفهم والتلاقي على قاعدة مشتركة صلبة. لذلك فإننا نشعر بأهمية أن تكون حوارات المختلفين بعضهم مع بعض على قاعدة الوطن والمواطنة بعيداً عن التمايزات والاختلافات العقدية والأيدلوجية والمذهبية.
وحينما تتعمق حقائق الوطن وثوابت المواطنة، يكون الحوار العقدي والأيدلوجي طبيعياً ومثمراً وبعيداً عن كل حالات السجالات العقيمة والمماحكات التي تزيد الإحن وتفاقم من سوء الفهم والظن. إننا نشعر بأهمية العيش المشترك، وتوطيد أسس التلاقي والتعاون، ولكن طريق ذلك لا يمر عبر المماحكات والسجالات العقيمة، وإنما عبر تعزيز قيم المواطنة ومتطلبات العيش المشترك. فصخب السجالات الأيدلوجية، تضيّع كل فرص التفاهم والتلاقي. لذلك نحن بحاجة إلى تجاوز كل حالات السجال والمماحكة، من أجل إرساء دعائم للحوار والتلاقي، لا تنطلق من التباينات الأيدلوجية، بل من الجوامع الإنسانية والعقدية والثقافية.
2- صيانة حقوق الإنسان:
لا يمكننا على المستوى العملي من صياغة العلاقة على نحو ايجابي بين حق الاختلاف وضرورات العيش المشترك، إلا بالإعلاء من شأن حقوق الإنسان، والعمل على صيانة هذه الحقوق، بعيداً عن التمايزات الأيدلوجية أو الاختلافات الفكرية والسياسية. فالعلاقة جد عميقة بين مبدأ العيش المشترك ومفهوم حقوق الإنسان، حيث أن حقوق الإنسان بكل ما تحتضن من قيم ومتطلبات وحاجات، هي الحاضن الأكبر للمشروع المشترك.
لذلك من الضروري أن نعتني بخلق الوعي الحقوقي، القادر على صيانة كرامة الإنسان.
ولابد أن يدرك الجميع أن قيم الدين العليا لا يمكن أن تشرع للعسف والإكراه وانتقاص حقوق الإنسان. فالدين الإسلامي بكل نظمه وتشريعاته، جاء من أجل تحرير الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته. لذلك فإن الدين هو الرافد الأول الذي ننتزع منه حقوق الإنسان الأساسية.
فبوابة العيش المشترك في كل الأمم والمجتمعات، هي صيانة حقوق الإنسان وحماية كرامته وتعزيز حضوره ودوره في مشروعات التنمية والعمران.
والاختلاف في الهوية أو الانتماء الأيدلوجي أو القناعات الفكرية والسياسية، لا يشرع بأي حال من الأحوال إلى انتهاك الحقوق. فالاختلافات ليست سبباً أو مدعاة لنقصان الحقوق، وإنما تبقى حقوق الإنسان مصانة وفق مقتضيات العدالة ومتطلبات العيش المشترك.
فالعيش المشترك ليس ادعاء يدعى، وإنما هو مجموعة من الحقائق والمتطلبات تفضي إلى صياغة الواقع الاجتماعي المتعدد على أساس الحوار والاحترام المتبادل ونبذ ثقافة الكراهية والمفاضلة الشعورية، وتعميق ثقافة العفو وحسن الظن والتسامح، فالعيش المشترك هو مشروع مفتوح على كل المبادرات والخطوات الايجابية، التي تستهدف تنقية الفضاء الاجتماعي والثقافي من كل الشوائب، التي تعكر صفو العلاقة وتحول دون تنميتها على الصعد كافة.
وان طبيعة الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة، تدفعنا إلى القول: أن من الأهمية القصوى أن نتعامل مع حق العيش المشترك في داخل مجتمعاتنا، بوصفه من الحقوق المقدسة، التي ينبغي أن نقبض على متطلباتها، ونعمق موجباتها، ونمنع أي محاولة (من أي جهة كانت) لخدشها أو محاربة أسسها ولوازمها. وان المرحلة بكل تحولاتها المتسارعة وتحدياتها الشاخصة بحاجة إلى تعزيز خيار ومشروع العيش المشترك، لأنه القاعدة الصلبة التي تمنع اختراقنا، وتحول دون نجاح مشاريع الهيمنة والتفتيت.
الاحترام المتبادل
ان احترام التعدديات المذهبية والاجتماعية والفكرية والسياسية، هي من أسس الاستقرار الاجتماعي والسياسي. صحيح انه ليس مطلوباً أن تتطابق وجهات النظر في كل شيء. ولكن من المهم أن يتم الاحترام العميق لأسس العيش المشترك، بحيث يمتنع كل طرف من الإساءة إلى الطرف الآخر.
ولاشك أن ظاهرة التنوع الاجتماعي والتعدد المذهبي والفكري والسياسي، تثير العديد من الأسئلة والتحديات، ولابد من بلورة إجابات حقيقية وواقعية لهذه الأسئلة والتحديات. فليس صحيحاً أن نهرب من أسئلة التنوع وتحديات التعدد برفضهما والركون إلى الفكر الأحادي والرؤية الأحادية.
لذلك فإننا ينبغي أن نتعامل مع هذه الظاهرة الإنسانية باعتبارها من الظواهر التي تثير الكثير من الأسئلة، وتطلق جملة من التحديات، وواجبنا الفكري والأخلاقي يقتضي احترام هذا التنوع والتعدد، والبحث عن إجابات عن الأسئلة والتحديات التي تطلقها هذه الظاهرة الإنسانية الثابتة.
فإقامة الجدار العازل بيننا وبين حقيقة التعدد المذهبي والفكري والسياسي، يمنعنا من الاستفادة من بركات هذه الحقيقة الإنسانية، ويحول دون بلورة إجابات دقيقة وعميقة لجملة التحديات التي تطلقها هذه الحقيقة.
لذلك كله فإننا باستمرار بحاجة إلى مبادرات فكرية وخطوات قانونية وسياسية وجهد ثقافي متواصل، لتأصيل هذه الحقيقة في فكرنا وواقعنا الاجتماعي أولاً، ومن ثم العمل على بلورة حلول عملية وممكنة لكل التحديات التي تبرز في واقعنا من جراء التزامنا بخيار الاعتراف الكامل بحقوق كل التعدديات التقليدية والحديثة في ممارسة دورها ووظيفتها في الحياة الوطنية العامة.
وإننا بحاجة إلى مواطنة مبنية على انتماء متكافئ بين متطلبات الخصوصيات وضرورات العيش والانتماء الوطني المشترك. فالتنوع بكل مستوياته، ينبغي أن لا يقود إلى الانقسام والتشظي، بل ووفق الرؤية القرآنية ينبغي أن يقود إلى التعارف والوحدة.. إذ يقول تبارك وتعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (الحجرات، الآية 13).
والتعارف في الآية القرآنية الكريمة، يختزن كل أبعاد وشروط التواصل الحقيقي بين مختلف التنوعات الإنسانية. كما أن هذه المقولة (التعارف) تشمل جميع الشرائح والفئات الاجتماعية. فالنظرة القرآنية تؤكد أن الاختلاف ينبغي أن يقود إلى التعارف والاحترام لا إلى الخصومة والتباغض.
فالتنوع وسيلة من وسائل التعارف باعتبار حاجة كل فريق من هذه الدائرة إلى ما يملكه الفريق الآخر في الدائرة الأخرى، من خصوصياته الفكرية والعملية ليتكاملوا في الصيغة الإنسانية المتنوعة ليكون التعارف غاية للتنوع، بدلاً من التحاقد والتناحر والتنازع.
ويبقى التعارف غاية إنسانية من أجل إغناء التجربة الحية المنفتحة على المعرفة المتنوعة، والتجربة المختلفة للوصول إلى النتائج الايجابية في مستوى التكامل الإنساني.
وإن إلغاء الخصوصية لا يمثل نهجاً واقعياً في التعاطي مع الواقع الاجتماعي والثقافي، لأن الإلغاء من قبل أي طرف لا يغير شيئاً من المسألة في طبيعتها الذاتية، أو من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار أنها تمثل بعداً في عمق الذات، لا مجرد حالة طارئة، على الهامش مما يجعل من مسألة الإلغاء مشكلة غير قابلة للحل، بل ربما تضيف إلى المشكلة مشكلة أخرى على صعيد الحالة النفسية والعملية.
وعلى ضوء ذلك فإن الدين الإسلامي يشجع على تحرك الخصوصية في دائرتها الداخلية في الجانب الايجابي الذي يدفع الإنسان للتفاعل عاطفياً وعملياً مع الذين يشاركونه هذه الخصوصية في القضايا المشتركة. ولكن بشرط ألا تتحول إلى عقدة عصبية ذات بعد عدواني تجاه الآخرين. لذلك فإن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين. وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن أن يعين قومه على الظلم.. فإلغاء خصوصيات الإنسان الذاتية والدينية والمذهبية، لا يعد نهجاً صحيحاً وواقعياً، لأنه لا يزيد الإنسان إلا تمسكاً وتشبثاً بهذه الخصوصيات، وذلك لأنها ليست حالة طارئة وهامشية، وإنما من صميم الذات الإنسانية.
لذلك نجد انه على المستوى التاريخي لم يكن التعدد الفقهي والمذهبي في التجربة التاريخية الإسلامية مظهراً من مظاهر الانقسام والتشظي في الدائرة الإسلامية، بل دليل حيوية عقلية وفكرية ومناخ اجتماعي حر ومنفتح أدى إلى تطوير عملية الاجتهاد ونشوء الاتجاهات الفكرية والسياسية في الدائرة الإسلامية.
لذلك فإن احترام هذا التعدد والتنوع، يعني فيما يعني حماية لأنه نتاج الحوار والبحث المضني والمتواصل عن الحقيقة. وحينما نقول بضرورة حماية التعدد في الدائرة الوطنية، فإننا نقصد حماية تلك القيم والمبادئ التي أنتجت ثراءً فقهياً وفكرياً وعلمياً في التجربة التاريخية الإسلامية. فلا يمكن أن نفصل ظاهرة تعدد المدارس الاجتهادية والفقهية في تجربتنا التاريخية عن قيم الحوار والاعتراف بالآخر وجوداً ورأياً، وتوفر المناخ الاجتماعي المواتي للاجتهاد بعيداً عن ضغوطات السياسة أو مسبقات التاريخ.
وان دعوتنا الراهنة إلى حماية هذا المنجز التاريخي، يستدعي إحياء هذه القيم والمبادئ وإطلاقها على مستوى حياتنا كلها، حتى نتمكن من انجاز فرادتنا التاريخية والحضارية.
وهذا بطبيعة الحال، يقتضي انفتاح المدارس الإسلامية على بعضها في مختلف المستويات، وإزالة كل الحواجز والعوامل التي تحول دون التواصل الفعال بين مختلف المدارس الفقهية والمذهبية.
لهذا كله نحن بحاجة اليوم، إلى إعادة بناء وصوغ العلاقة بين أتباع المدارس والمذاهب الإسلامية على أسس الاحترام المتبادل، وذلك حتى يصاغ من التعدد الفقهي والمذهبي واقع للإثراء وتعزيز الوحدة والاندماج، وليس سبباً للفرقة والتشظي. فالتعدد الفقهي والتنوع الاجتماعي، ينبغي ألا يقودا إلى بناء كانتونات اجتماعية متحاجزة وبعيدة عن بعضها البعض، وإنما لابد أن يقودنا هذا التنوع إلى بناء وطني جديد على أسس لا تحارب التعدد ومقتضياته، ولا ترذل التنوع وحاجاته بل تتعاطى بوعي وحكمة مع هذا التنوع. الوعي الذي يؤسس لحالة حضارية من التعايش السلمي على أسس الفهم والتفاهم والحوار والتلاقي وتنمية الجوامع المشتركة وصيانة حقوق الإنسان.
والحكمة التي تمنع اندفاع أي طرف للقيام بأي تصرف يضر بمفهوم المواطنة أو يؤسس لخيارات اجتماعية لا تنسجم ومقتضيات الوحدة.
إننا نتطلع إلى مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، لا تبنى على أنقاض خصوصياتنا التاريخية والفكرية، وإنما تبنى على أساس احترام هذه الخصوصيات والاعتراف بمتطلباتها والعمل على حمايتها من كل التهديدات والمخاطر.
لذلك فإن المنهج الصحيح الذي ينبغي أن نتبعه في التعامل مع حقائق التنوع الإنساني والخصوصيات الثقافية للمجتمعات هو تشجيع هذه الخصوصيات للعمل في الفضاء الاجتماعي والوطني في الجوانب الايجابية التي تدفع الإنسان عاطفياً وفكرياً، نفسياً وعملياً، إلى المشاركة الايجابية في شؤون الوطن والمجتمع المختلفة.
وبهذه الطريقة ننزع عن كل الخصوصيات كل العقد، التي تفضي إلى الانكفاء أو التعصب الأعمى للذات. فالتعدد الفقهي في إطار سياق ثقافي واجتماعي يحترم التعدد ويضمن حق الاختلاف وحقوق الإنسان الجوهرية، هو من الروافد الأساسية لبناء مواطنة غنية في ثقافتها وخياراتها المجتمعية.
لهذا كله فإننا مع المعاقبة القانونية، لكل شخص أو طرف يمارس الإساءة بكل مستوياتها إلى الأطراف الأخرى.
وذلك لأنه لا يمكن أن يبنى السلم الاجتماعي والعيش المشترك على أسس صلبة ومتينة، إلا بالاحترام المتبادل والعميق بين مختلف المكونات والتعبيرات. صحيح أنه ليس ممكناً أن تتطابق وجهات النظر في كل شيء، ولكن من الضرورات القصوى لاستقرارنا ووحدتنا أن نصونهما بالاحترام المتبادل.
لذلك فإننا نقف ضد كل الأقوال والممارسات التي تسئ إلى رموز ومقدسات الآخرين.
كما نطالب الآخرين أن يحترموا رموزنا ومقدساتنا.
إننا مع الاحترام المتبادل بكل متطلباته ومقتضياته، وذلك لأن تسفيه مشاعر الآخرين، لا يقود إلى التضامن والوحدة، بل إلى الشقاء والمحنة.
ولنا في التجربة النبوية في المدينة المنورة خير مثال ونموذج. إذ إن المواطنة التي شكلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تلغ التعدديات والتنوعات، وإنما صاغ قانوناً يوضح نظام الحقوق والواجبات ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك.. إذ جاء في صحيفة المدينة: "وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً، ولا يؤويه، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل" (راجع سيرة ابن إسحاق).
فسبيل المواطنة الصادقة، ليس تسفيه مشاعر الآخرين والحط من رموزهم وتاريخهم، وإنما بالاحترام المتبادل الذي يصون الحقوق والحرمات، ويحول دون التطاول المتبادل.
وإننا وفي هذه اللحظة الزمنية الحساسة والخطيرة، أحوج ما نكون إلى سيادة نهج الاحترام العميق والمتبادل بين مختلف مكونات المجتمع. وذلك لأنه سبيلنا لتعزيز تلاحمنا الداخلي وصون وحدتنا الوطنية.
ثقافة السؤال
إن المنجز الفكري الإنساني، كان له الدور الأساسي في تطور الفكر النقدي في اللحظة المعاصرة. لذلك فإننا لن نتمكن من تعميق الثقافة النقدية في محيطنا الاجتماعي، بدون الانفتاح والتفاعل الخلاق مع المنجز الفكري الإنساني.
الواقع الذي نعيشه ونتأثر بقضاياه وهمومه، لا يتطلب فقط أجوبة وحلولاً ومعالجات صحيحة وعميقة. وإنما أيضاً هو بحاجة إلى أسئلة صحيحة ودقيقة. وذلك من أجل المعرفة الدقيقة بالواقع بدون أوهام والتباسات.
وهذه العمليات (معرفة الواقع) على ضوء اختبار الأسئلة الصحيحة، والبحث عن إجابات عنها عميقة، ليست مسألة بسيطة، وسهلة المنال، بل هي عملية شاقة وطويلة ومتواصلة، وتتطلب يقظة فكرية مستديمة، وتواصلاً مستمراً مع حركة الواقع في كل أبعاده ومجالاته.
ولعل القاعدة المعرفية التي تمكننا من إنجاز هذه العملية، هي شيوع ثقافة السؤال والنقد في الثقافة بكل وسائطها وآلياتها والمجتمع بكل مؤسساته وشرائحه.
لذلك فإن الشرط الأساس لمعرفة الواقع بكل ديناميته ومتغيراته المتلاحقة، بشكل دقيق وعميق، هو وجود ثقافة السؤال والنقد في الفضاء الاجتماعي. لأن هذه الثقافة بكل متوالياتها وتأثيراتها العقلية والمجتمعية، لا تكتفي بالظاهر من الأمور، بل تبحث في القاع الاجتماعي والثقافي، وتسائل السائد الثقافي والمعرفي، وتزحزح على قاعدة الوعي والمعرفة الكثير من البديهيات والمسلمات المستوطنة في المحيط الاجتماعي. من هنا فإن المجتمعات التي استطاعت التحرر من قيود التخلف وأغلال الانحطاط، هي تلك المجتمعات التي توفرت في بيئتها ومحيطها ثقافة النقد والمساءلة، ليس من أجل تفكيك كل شيء قائم. بل من أجل بناء الواقع الاجتماعي والثقافي على أسس صحيحة ومتينة، وقادرة على مواكبة التطورات والاستجابة إلى التحديات الكبرى التي تعيشها.
أما المجتمعات التي حاربت النقد، وابتعدت عن ثقافة السؤال، وقبلت بالجمود والسكون وغياب الدينامية الذاتية، فقد تعمق فيها فعل التخلف وتحكمت بها مقتضيات الانحطاط والجمود في مختلف أبعاد الحياة.
ذلك فإننا نستطيع القول: إن الفضاء الاجتماعي، لا يتمكن من الانعتاق من قيود التخلف، والتخلص من أغلال الجمود، إلا بثقافة نقدية، تحفز الجميع على مساءلة الواقع، بغية اكتشاف الخلل، وصولاً إلى بلورة الرأي والموقف لكيفية إنهاء هذا الخلل، والانطلاق في بناء الواقع الاجتماعي على ضوء وهدى المعرفة الواعية والنقد البناء والسؤال الذي يقود دائماً إلى العلم والإبداع والمبادرة.
ولعلنا في الفضاء الاجتماعي، الذي يعيش اليوم أكثر من تحد، ويتواصل مع الكثير من الثقافة وروافد الإعلام والتقنية الحديثة، أحوج ما نكون إلى غرس ثقافة السؤال، التي هي ضد ثقافة التلقين والتكرار المميت.
وانفتاح واقعنا الاجتماعي اليوم، على الكثير من وسائل الإعلام والتواصل، يخلق جملة من التحديات والهواجس ولكن لا يمكننا مواجهة هذه التحديات أو إنهاء الهواجس بالمزيد من المنع والحضر. لأنها وسائل غير فعالة وغير شاملة. وإنما نحن بحاجة اليوم إلى وسائل حضارية، تحول دون خضوع واقعنا الاجتماعي بأسره تحت تأثير خيارات ثقافة وأيدلوجية وافدة.
إن بناء واقعنا الاجتماعي، على أساس الوعي والعلم والنقد، هو الخيار القادر على مواجهة التحديات ومقاومة الهواجس. ولا سبيل أمامنا إلا غرس ثقافة السؤال في فضائنا الاجتماعي، لأنها هي الثقافة القادرة على مساءلة الوافد الثقافي والاجتماعي والإعلامي وممانعته على مختلف المستويات.
أما سياسات المنع فإنها تقود إلى إبداع وسائل لكسرها ومنع تأثيرها. ولقد أبانت تجارب الكثير من الأمم والشعوب، أن لغة المنع وحدها غير مجدية. وذلك وببساطة شديدة، لأن كل ممنوع مرغوب. لذلك تتجه إرادة الكثير من الناس على مقاومة المنع وكسر قيوده بوسائل مختلفة. وهذا بطبيعة الحال، يقود إلى تأثيرات سلبية ومفارقات اجتماعية خطيرة.
صحيح أن الخيار الثقافي والحضاري، ليس سهلاً، وهناك من سيلتف عليه. ولكنه الخيار الصحيح الذي يجنبنا الكثير من المساوئ والتأثيرات السلبية.
وذلك لأن ثقافة النقد والسؤال في الفضاء الاجتماعي، تمارس وظيفة مزدوجة. فهي تعيد ترتيب الوقائع والمعطيات والمنجزات المتحققة، وتساعد من جهة ثانية في محاصرة العناوين والقضايا التي تضر بالمنجز الاجتماعي، وتحول دون التطور الموضوعي الذي يولده التراكم. فالنقد كممارسة ليس هدماً للمنجز، وإنما بناءً عليه. كما أن السؤال ليس رفضاً للثوابت، وإنما تجلية لها وتظهير لعناصرها ومرتكزاتها الحيوية.
لذلك كله فإن السؤال الهام الذي يُطرح في هذا السياق هو: كيف نخلق ثقافة نقدية في فضائنا الاجتماعي؟
1- حرية الرأي والتعبير:
على الصعيد العملي، لا يمكن أن تسود ثقافة نقدية في مجتمع يحارب الرأي وحق التعبير عنه. وذلك لأن الثقافة النقدية هي في جوهرها حصيلة أو نتاج تراكم ممارسة حرية الرأي والرأي الآخر. ذلك الرأي الذي يتم تداوله وتقويمه في فضاء المجتمع. لذلك فإن المجتمع الذي يحول دون ممارسة أبنائه لحقهم الأصيل في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم، فإنه لن يتمكن من بناء ثقافة نقدية، تسائل السائد، وتطرد الجمود من الحياة الاجتماعية.
فالنقد وليد حرية الرأي والرأي الآخر، ونتاج حق التعبير عنهما. وإذا أردنا أن نؤسس لثقافة نقدية في فضائنا الاجتماعي، فعلينا بتشجيع أبناء المجتمع بالبوح بآرائهم وقناعاتهم وأفكارهم، وصيانة حقهم في التعبير عن ذواتهم وتصوراتهم.
ولو تأملنا قليلاً في تجارب الشعوب والأمم، التي توفرت فيها ثقافة النقد والسؤال، لاكتشفنا أن هذه المجتمعات صانت حق أبنائها في التعبير عن آرائهم. فتراكم هذا الحق، وهذه الممارسة، فأضحى النقد حالة طبيعية في حياة تلك الشعوب والأمم.
لذلك فإننا نقول: إن قوة المجتمعات في ممارسة أبنائها لحرية الرأي والتعبير. وإذا أردنا أن نقبض على أسباب المنعة، والقوة، فعلينا بتشريع حرية الرأي والتعبير وصيانتها، ومنع التعدي عليهما.
2- الفعالية الاجتماعية:
من الطبيعي القول، أن الثقافة النقدية، لا تنمو وتتبلور إلا في مجتمع حي ودينامي، ويمتلك فعالية متواصلة.
لأنه لا يمكن أن تنمو ثقافة النقد والسؤال في ظل جمود اجتماعي وسكون ثقافي وتراجع معرفي.
إن البيئة الخصبة المولدة لثقافة النقد والسؤال، هي تلك البيئة الحيوية والفعالة. لذلك فإن خلق ثقافة نقدية، يتطلب فعالية اجتماعية، تتجه صوب البناء والتطوير والتقدم.
من هنا فإنه لا ثقافة نقدية مجتمعية، إلا في ظل فعالية وحيوية. حيث إن النقد صنو وتوأم الحركة والسؤال نتاج الفحص والحيوية.
لهذا نجد أن المجتمعات الحية والحيوية، والتي تحتضن أنشطة نوعية متعددة، هي التي تبرز فيها ثقافة نقدية حقيقية.
أما المجتمعات الجامدة والراكدة، فإنها طاردة لثقافة السؤال، ومحاربة لمقتضيات ومتطلبات النقد. فالفعالية الاجتماعية ضرورة، من أجل خلق ثقافة نقدية في الفضاء الاجتماعي. وهذه الفعالية بكل ما تحمله من آفاق معرفية ومكاسب حياتية، هي التي تساهم في توظيف القدرات والطاقات على أحسن وجه، وتضيء الطريق، وتبلور المقصد، وتشحذ الهمم البناء والعمران.
3- الانفتاح الايجابي على مكاسب الفكر الإنساني:
من الحماقة بمكان، حينما نقرر الانعزال، والانكفاء وعدم التفاعل الايجابي مع منجزات الفكر الإنساني.
وذلك لأن هذه المنجزات، أفادت الإنسان، ونقلته من مرحلة إلى أخرى أكثر حرية وتقدماً وتطوراً. لذلك فإننا مطالبون بالانفتاح على منجزات الفكر الإنساني، لأنها تساهم في تطوير واقعنا، وتجاوز الكثير من الإخفاقات ودواعي الفشل.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن المنجز الفكري الإنساني، كان له الدور الأساسي في تطور الفكر النقدي في اللحظة المعاصرة. لذلك فإننا لن نتمكن من تعميق الثقافة النقدية في محيطنا الاجتماعي، بدون الانفتاح والتفاعل الخلاق مع المنجز الفكري الإنساني.
فهذه المنجزات كما أفادت الأمم والشعوب الأخرى في تطوير واقعها وضبط نزاعاتها وتغيير عقليتها ونمط تفكيرها، هي كذلك تفيدنا وتطور من واقعنا.
فالحاجة ماسة اليوم للانفتاح والتواصل مع المنجز الفكري الإنساني. وإن طموحاتنا في التطور والتقدم، تقتضي عدم غلق أبوابنا والتفاعل الخلاق مع كل المنجزات الإنسانية والحضارية.
وجماع القول: إن ثقافة السؤال، ليس إدعاءً يدعى، بل هي وقائع وحقائق في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية.
وإن المطلوب اليوم، هو العمل على إرساء قواعد الثقافة والممارسة النقدية في واقعنا ومجتمعنا، لما لها من دور في تطوير حياتنا في مختلف المجالات.
السلم الاجتماعي
إن التخلف الحضاري الذي تعانيه شعوبنا العربية والإسلامية بنسب مختلفة، يلقي بظله الثقيل على مجمل مرافق الحياة ومجالاتها.
ومن المجالات الحيوية التي يصيبها داء التخلف، ويؤثر في حركتها ونمط تكوينها الداخلي (المجال الاجتماعي).
حيث أن الضعف الاقتصادي، وغياب الاستقرار السياسي، واهتزاز القيم الأخلاقية والمعيارية. كل هذه الأمور تعكس آلياتها وتأثيراتها على الحقل الاجتماعي، ولعل في غياب مفهوم الاستقرار الاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية، ما يعكس عمق هذه الأزمة، ويبرز تأثير التخلف الحضاري في هذا الحقل الحيوي و الهام.
إذ أن السمة الغالبة للكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هي بروز جملة من الظواهر والنتوءات، التي تعكس وجود خلل خطير في مسيرة المجتمعات العربية والإسلامية. وبإمكاننا أن نفسر مقولة غياب الاستقرار الاجتماعي، بالحروب الاجتماعية المغلفة (الكامنة) والصريحة التي تعانيها مجتمعاتنا تحت عناوين ومسميات مختلفة. مما أفقد العالم العربي والإسلامي ظاهرة السلم الاجتماعي وثمارها العميقة على مستوى الداخل العربي والإسلامي والخارج الدولي.
وحينما يفقد التوازن والسلم، تتجه كل الطاقات إلى الهدم لا البناء، وإلى التقوقع والانطواء على الذات لا الانفتاح والانطلاق الرحب.
وبهذا تتضخم التناقضات الداخلية، ويصبح هم كل طرف إلغاء خصمه من الخريطة الاجتماعية. ومن ثم يدخل المجتمع بقواه المختلفة في لعبة الصراع المكشوف والتصفية الجسدية والمعنوية.
وفي المحصلة النهائية: إهدار كل الطاقات والإمكانات في أمور وقضايا تزيد المحنة الداخلية وتعمق القيود التي تمنع استعادة المجتمع لحيويته وفاعليته التاريخية.
ولهذا فإننا كشعوب عربية وإسلامية، أحوج ما نكون إلى توطيد دعائم السلم المجتمعي، وإنهاء كل الأسباب والمظاهر التي تحول دون انطلاقة المجتمع في عملية البناء والتطوير.
وإن النواة الأولى لتحقيق سلم اجتماعي، هي إشاعة ثقافة السلم والتسامح ونبذ التعصب في أرجاء المجتمع. وينبغي أن نستفيد من المنابر الإعلامية والمؤسسات التعليمية في إشاعة هذه الثقافة، التي تهيئ الأرضية المناسبة لمشروع السلم الاجتماعي.
وثمة حقيقة أساسية في هذا المجال وهي: أن إشاعة ثقافة التسامح والسلم، هي التي تؤسس مفهوم الوحدة الوطنية. لأن الثقافة الواحدة التي تقبل الآخر كما الذات، هي المقدمة الطبيعية للوحدة العملية والاجتماعية. لهذا فإنه من الضروري الاهتمام بمسألة إشاعة الثقافة التي تغذي مفاهيم السلم الاجتماعي.
ولا بد من القول أن الأوطان المتقدمة سياسيا واقتصاديا وتقنيا، لم تبن بلون تاريخي أو قبلي أو عرقي واحد، وإنما هي عبارة عن مجموعة من المجتمعات التاريخية أو القبلية أو العرقية، التي اندمجت مع بعضها البعض على قاعدة السلم الاجتماعي والوطن الواحد والمصلحة المشتركة، ولم تقف هذه الأوطان عند هذه الحدود، وإنما عملت على تطوير التجربة، وتعميق الوحدة الوطنية بنظام قانوني يكفل للجميع حريتهم، ويتعاطى مع الجميع على القاعدة الوطنية المشتركة. وبهذا تم إبطال المفعول السلبي للتمايز التاريخي أو العرقي أو القبلي. عبر نظام يؤسس السلم الاجتماعي، الذي يصنع عند المواطن حالة نفسية وعملية تتجه نحو إعلاء المشترك مع الإنسان الآخر، واحترام نقاط التمايز وإبقائها في حدودها الطبيعية التاريخية والثقافية.
فالولايات المتحدة الأمريكية مثلا، لا تتكون من شعب واحد أو عرق واحد أو ديانة واحدة، وإنما هي مجموعة من الشعوب انصهرت في إطار قانوني–سياسي، وفر للجميع المساحة الخاصة التي يعبر فيها كل شعب أو مجموعة بشرية عن عقائدها وأفكارها.
وفي الإطار العام تسود المجموعات البشرية علاقة السلم الاجتماعي على قاعدة قانونية ووطنية مشتركة. مما يدفع جميع المجموعات البشرية إلى الدفاع عن هذا النموذج والسعي نحو إبراز قيمه الأساسية.
وحينما نتمعن في التاريخ وعوامل نشوء العصبيات، ومن ثم تأثيرها السيئ في الوجود المجتمعي. نجد أن ظروف القهر والنفي والإقصاء والاستعلاء، هي التي تدفع الآخرين إلى التخندق والتمترس في إطار عصبوي ضيق. وإن المزيد من الاستعلاء، لا يؤدي إلى تلاشي العصبوية التاريخية والاجتماعية، وإنما يزيدها أوارا واشتعالا. فالنفي لا يولد إلا نفيا مثله، والعنف يصنع عنفا مضادا. وهكذا يصبح خيار القفز التعسفي على التنوع المجتمعي لا يحل المسألة بل يزيدها تعقيدا.
والمنظور السليم للتعامل مع العصبيات التاريخية، هو المزيد من السلم الاجتماعي والتسامح الثقافي، الذي يسمح لتلك العصبويات من ممارسة دورها الايجابي في البناء والتلاحم الاجتماعي.
وإن إنهاء تأثير العوامل الخارجية على الوضع الداخلي المتنوع، ليس بالمزيد من قرارات المنع والحظر، وإنما بتوفير الأمن الاجتماعي والثقافي والسياسي. فالمجموعة البشرية التي يتوفر أمنها الاجتماعي والثقافي والسياسي، لا تضحي به من أجل علاقة متميزة مع الخارج أو تأثير مفتوح من الخارج بعوامله المختلفة، على الداخل بآفاقه وحقوله المتعددة.
أما المجموعة البشرية التي تفقد الأمن بكل صوره، فهي لا تخاف على شيء تخسره. لذلك فهي تكون مهيأة لاستقبال التأثير بكل صوره من الخارج.
وتأسيسا على هذا نقول: أن الفريضة التي ينبغي تأكيدها والعمل على تكريسها في واقعنا الاجتماعي والوطني هي فريضة السلم الاجتماعي. لأنها العاصم من المتاهات والحروب المجهولة المصير. ولابد من تعميم الوعي والثقافة، التي تؤكد على هذه الفريضة وتعتبرها من المشاريع الحيوية والأساسية.
وإن التعايش والسلم المجتمعي، لا يعني تطابق وجهات نظر المواطنين حول مختلف القضايا والأمور. لأن تطابق وجهات النظر بين مختلف المواطنين من الأمور المستحيلة، ولا تتناغم والنواميس الاجتماعية.
فما دام الإنسان يمتلك عقلا وقدرة على التفكير، فهذا يعني أنه يمتلك إمكانية الاختلاف في الفكرة ووجهات النظر والمواقف. وليس من الطبيعي لعقول مختلفة في الخلفية والرؤية، أن تتطابق وجهات نظرهم ومواقفهم على كل القضايا والأمور.
ولكن اختلاف الناس في أفهامهم وأفكارهم وتصوراتهم ومواقفهم تارة يكون سببا أساسيا من أسباب النزاع والتصادم والصراع. إذ يسعى كل واحد بإمكاناته وقواه، على فرض فكره ورؤيته على الآخرين. والآخرون بما أن أفكارهم ومواقفهم مختلفة، فهم يقاومون عملية الفرض والقسر هذه. وبهذا تتأسس عملية الصراع في الوسط الاجتماعي.
وتارة أخرى يكون الاختلاف المذكور، أحد العوامل المساعدة لعملية التعايش الاجتماعي باعتباره هو الخيار الحضاري الوحيد الذي يكفل للمجموع حريته، ويحترم اختياراته التصورية والفكرية.
وبهذا فإن السلم الاجتماعي، لا يعني انطباق أفكار وآراء كل المجتمع. وإنما هو احترام الاختيار الفكري الذي التزم به كل واحد، والعمل على تشكيل مجموعة من القواعد والمبادئ التي تحترم هذا الاختيار، وتسمح لجميع الشرائح والقوى الاجتماعية على التعايش على قاعدة المشترك الأيدلوجي والوطني، مع وجود اختلاف في وجهات النظر، وتباين في الأفكار والمواقف.
قواعد السلم المجتمعي
إن السلم المجتمعي هو الذي يصنع الجسم الاجتماعي المتماسك والذي يسعى نحو الوصول إلى مطامحه الحضارية على قاعدة مجموعة من المبادئ، التي تسمح لجميع الشرائح والفئات الاجتماعية على التعايش الاجتماعي، مع وجود اختلاف في وجهات النظر وتباين في الأفكار والمواقف.
والقواعد والمبادئ التي نقترحها كأرضية صلبة للسلم المجتمعي هي كالآتي:
- الحوار الاجتماعي:
دائما النمط الاجتماعي المغلق والذي لا يمد جسور التعارف والانفتاح مع الآخرين، يتحول إلى واقع اجتماعي يحتوي أو يتضمن الكثير من عوامل الخطر والتقسيم الاجتماعي. لأن هذا الواقع الاجتماعي المغلق يغذي نفسه بعقلية التميز والعداء والصراع مع الآخرين كمبرر دائم لاستمرار عقلية الكانتونات الاجتماعية. ونظرة واحدة إلى خريطة الدول العربية الاجتماعية لنرى كيف أن عقلية الكانتون والقطيعة الاجتماعية مع الآخرين هي القاعدة الصلبة التي كرست مفهوم التقسيم والتفتيت الاجتماعي.
لهذا فإن السلم المجتمعي لا يتحقق على قاعدة هذه العقلية، التي تصنف وتفرق، ولا تؤسس وتجمع. وإنما السلم المجتمعي يتحقق على قاعدة عقلية نبوية تجمع ولا تفرق، وتبحث عن القواسم المشتركة قبل أن تبحث في نقاط التمايز والافتراق.
ولنا في تجربة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بناء المجتمع الإسلامي الأول خير مثال. إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلغ الخصوصيات الاجتماعية كشرط لتحقيق السلم المجتمعي. وإنما حقق السلم المجتمعي على قاعدة احترام تلك التنوعات الاجتماعية. ولكنه احترام لا يدفعها إلى الانغلاق والدوغما الاجتماعية، وإنما هو احترام يدفع إلى تأسيس عمليات الحوار الاجتماعي التي هي المدخل الأساسي لتحقيق مفهوم السلم المجتمعي في مجتمع تتعدد فيه العقليات التاريخية والفكرية والثقافية.
وفي المقابل فإن الجفاء والجهل بالآخرين، هو الذي يؤسس إلى كل عمليات التقسيم الاجتماعي في حدودها الدنيا والقصوى، لأن غياب الحوار الاجتماعي يعني غياب المصالح المشتركة وعدم تشابك العلاقات والمصالح مع بعضها البعض. وهذا بطبيعة الحال يعجل في بروز التناقضات الاجتماعية.
ومقتضيات الحوار الاجتماعي هي النقاط التالية:
1- التعارف وفتح الأجواء الاجتماعية المختلفة، بحيث تنعدم نفسيا واجتماعيا مسألة الكانتونات والمجتمعات المنغلقة. لأنه لا يعقل أن يتم حوار اجتماعي بدون تعارف وأجواء اجتماعية مفتوحة. فشرط الحوار ومقدمته الضرورية التعارف الاجتماعي بكل ما تحمل كلمة التعارف من معنى ومدلولات اجتماعية.
2- الانفتاح ونبذ الانطواء على النفس مهما كانت مسوغات هذا الانطواء التاريخية والاجتماعية.
إن الإنسان (الفرد) المنطوي على نفسه، لا يمكنه أن يوسع علاقاته الاجتماعية وينظمها. كذلك الإنسان (المجتمع) لا يمكنه أن يوسع من علاقاته ويعرف الآخرين بأفكاره ومعتقداته ورموزه التاريخية ومغزاها الثقافي والحضاري وهو منغلق على نفسه. فالانفتاح وإلغاء الحدود المصطنعة والوهمية في بعض الأحيان، هو الذي يؤسس لمنظور حوار اجتماعي متقدم، يزيد في إثراء الساحة الاجتماعية، ويعمق كل مقولات الوحدة الوطنية في الواقع الخارجي.
وينبغي ألا نفهم الانفتاح في هذه العملية الاجتماعية الشاملة بوصفه مقايضة تاريخية-ثقافية لكل الخصائص الذاتية والتاريخية. وإنما هو في حقيقة الأمر دفع وإعادة فهم لتلك الخصوصيات، من أجل إيصالها إلى مستوى الحقائق الموضوعية التي يستفيد منها أي إنسان. ولعل أزمة الكثير من المجتمعات المغلقة تبدأ حينما تصر هذه المجتمعات على إبقاء تلك الخصوصيات ذاتية. بينما المجتمعات الإنسانية المتقدمة هي التي استخدمت إمكاناتها المختلفة، من أجل إعطاء الخصائص الذاتية البعد الموضوعي التي يجعلها قابلة للتطبيق في فضاءات اجتماعية أخرى.
وإن الانفتاح الذي نقصده ونراه ضرورة للحوار الاجتماعي، هو الذي ينطلق من هذه العقلية التي تدفع باتجاه أن تعطي لمضامين مفاهيمها الذاتية بعدا موضوعيا جامعا. بحيث تغذي هذه المفاهيم العالية مجموع الوحدات الاجتماعية. ووفق هذا المنظور نتمكن من الوصول إلى مفهوم الحوار الاجتماعي الحيوي والهادف إلى تفعيل القواسم المشتركة بين مجموع الوحدات الاجتماعية.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن الكثير من الحروب الأهلية التي تجري في العديد من البلدان، ترجع بالدرجة الأولى إلى إصرار كل طرف على جعل مفاهيمه الذاتية، هي المفاهيم الحاكمة والسائدة دون أن يطور (كل طرف) في مضمون هذه المفاهيم ويعطيها أبعادا موضوعية. وهذا الإصرار هو الذي يزاوج بشكل قسري ومتعسف بين المفهوم الذاتي والشخص أو الفئة السياسية أو الاجتماعية التي تحمل لواء ذلك المفهوم الذاتي. وهذا ما يفسر لنا ظاهرة أن الكثير من الأحزاب السياسية في العالم الثالث وبالذات في الدول التي تخوض حروبا أهلية، هي غطاء حديث لمضامين اجتماعية تقليدية سواء قبلية أو جهوية أو ما أشبه.
وخلاصة الأمر: أن السلم المجتمعي لا يتحقق إلا بحوار اجتماعي مستديم. لا يبحث في لاهوتيات كل طرف ومواقفه التاريخية، وإنما يؤسس لحياة اجتماعية ووطنية سليمة.
- تطوير الخطاب الاجتماعي والسياسي:
بادئ ذي بدء نقول: أن المقصود بالخطاب الاجتماعي والسياسي هو مجموع الأنماط والأدوات المستخدمة في صناعة الرأي العام أو صياغة المضمون الثقافي والاجتماعي للحركة الاجتماعية. فهو أداة حيوية في التأثير المباشر على الإنسان الفرد والجماعة.
وعلى هدى هذه الحقيقة نقول: أن استمرار الخطاب الاجتماعي والسياسي في التغذية المعكوسة لتلك التمايزات التاريخية والاجتماعية، يؤدي إلى أن يمارس هذا الخطاب دورا تقسيميا في الوطن والمجتمع. بينما من الضروري أن يتطور هذا الخطاب ويتجه نحو صياغة منظومة قيمية ومفاهيمية جديدة تحترم التمايزات التاريخية دون الانغلاق فيها، وتؤسس لواقع اجتماعي جديد يستمد من القيم الإسلامية والإنسانية العليا منهجه وبرامجه المرحلية.
ومن هنا فإننا نرى أن الكثير من التناقضات الاجتماعية كان للخطاب الاجتماعي والسياسي السائد الدور الكبير في تغذية هذا الشعور الذي يبلور كل عوامل التناقض الاجتماعي بشتى صوره وأشكاله. فالسلم المجتمعي لا يتحقق على قاعدة الحوار الاجتماعي فحسب، وإنما لابد من وجود مظلة اجتماعية سياسية تغذي وتكرس مفاهيم السلم المجتمعي والوحدة الوطنية.
وتطوير الخطاب الاجتماعي والسياسي يعني:
1- إعادة صياغة مضمون الخطاب الاجتماعي والسياسي بما ينسجم وضرورات الوحدة الوطنية والتلاحم الاجتماعي. وهذا يعني نبذ كل المقولات والعناوين التي تكرس واقع العداء والتقسيم في الوسط الاجتماعي.
2- توسيع القاعدة الاجتماعية لهذا الخطاب، بحيث أنه لا يكون معبرا عن مصلحة فئة اجتماعية محدودة. وإنما من الضروري أن يعكس الخطاب واقع المصلحة الاجتماعية العامة. وهذا لا يتأتى إلا بتوسيع القاعدة الاجتماعية، وتوفير كل مستلزمات ومقتضيات مجتمعية الخطاب الاجتماعي والسياسي.
3- إلغاء كل الحواجز المصطنعة، التي تحول دون تفاعل الوسط الاجتماعي العام مع مضمون الخطاب السياسي والاجتماعي.
4- تشجيع ورعاية كل القواسم المشتركة، التي تدفع باتجاه تمتين الوحدة الوطنية، وإنهاء كل أسباب القطيعة الاجتماعية.
وعن طريق هذه المفردات نحقق مفهوم تطوير الخطاب السياسي والاجتماعي. وبهذا التطوير الذي يلحظ ما هو اجتماعي وما هو سياسي ينجز مفهوم السلم المجتمعي وتتحول كل التمايزات التاريخية والاجتماعية إلى عوامل بناء وإثراء للتجربة الوطنية بأسرها.
الطريق إلى التعايش
حين الحديث عن التعايش بين مكونات وتعبيرات المجتمع والوطن الواحد، فإننا حقيقة نتحدث عن قيمتين أساسيتين وهما قيمة الاختلاف وقيمة المساواة.
فينبغي أن نعترف بحقنا جميعا بالاختلاف، وهذا الاعتراف ينبغي أن لا يقود إلى التحاجز وبناء الكانتونات الاجتماعية المنعزلة عن بعضها، كما أنه ينبغي أن لا يقود إلى التعدي على الحقوق.
فالتعايش هو حصيلة بناء علاقة إيجابية بين حق الاختلاف وضرورة المساواة. وأي خلل في هذه المعادلة، يضر بحقيقة التعايش في أي مجتمع ووطن.
ومفهوم التعايش بطبيعته ومضمونه، لا يلغي التنافس أو الخلافات بين المكونات والتعبيرات والأطياف، وإنما يحدد وسائلها، ويضبط متوالياتها.. فالتعايش لا يساوي السكون والرتابة، وإنما يثبت الوسائل الإيجابية والسلمية لعملية التنافس والاختلاف، ويرفض الوسائل العنيفة بكل مستوياتها لفض النزاعات أو إدارة الاختلافات والتباينات.
كما أن مفهوم التعايش، لا يرذل الاختلافات والتباينات بكل مستوياتها، وإنما يعتبرها حالة طبيعية وجزء أساسي من الوجود الإنساني، ولكنه يرفض أن تتحول عناوين الاختلاف والتباين، لوسيلة لامتهان كرامة المختلف أو التعدي على حقوقه الخاصة والعامة. فالتعايش كمفهوم وممارسة، لا يشرع بأي نحو من الأنحاء، لأي طرف مهما كان الاختلاف والتباين، إلى التعدي على الحقوق أو تجاوز الأصول والثوابت في التعامل مع المختلف وفق ضوابط العدالة والمناقبية الأخلاقية. لذلك يقول تبارك وتعالى في محكم كتابه [ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى].
لذلك فإن خلق معادلة متوازنة وحيوية بين مفهومي الاختلاف والمساواة، هو جذر التعايش وجوهره النوعي. فالاختلاف لا يقود إلى الظلم والافتئات، بل يؤكد قيم العدالة والمساواة.
إذا تحققت هذه المعادلة، تحقق مفهوم التعايش في الفضاء الاجتماعي والوطني. وبدون هذه القيم والحقائق لا ينجز مفهوم التعايش في أي مجتمع وفضاء إنساني.
ووفق هذه الرؤية فإن التعايش، لا يساوي أن يتنازل أحد عن ثوابته ومقدساته، وإنما يساوي الالتزام بكل مقتضيات الاحترام والعدالة لقناعات الطرف الآخر، بصرف النظر عن موقفك الحقيقي أو العقدي منها.
وهذه ليست حفلة تكاذب أو نفاق، كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، بل هي جهد إنساني متواصل لتدوير الزوايا ومنع تأثير العوامل السلبية، التي توتر العلاقات بين المختلفين أو تعيدها إلى المربع الأول.
فالتعايش لا يقتضي الانشقاق أو التفلت من الثوابت أو الأصول لدى الأطراف، وإنما يقتضي الإصرار على خيار التفاهم وتوسيع المشترك وإدارة نقاط التباين وموضوعات الاختلاف بعقلية حضارية، توفر للجميع حق التعبير عن قناعاتها ووجهة نظرها، بعيدا عن الإساءة إلى الطرف أو الأطراف الأخرى.
وعليه فإننا نعتقد وبعمق أن خيار التعايش بين مختلف الأطياف والمكونات، التي يتشكل منها المجتمع والوطن الواحد، هو من الضرورات الدينية والأخلاقية والوطنية، لأنه السبيل لضمان حقوق الجميع بدون تعدي وافتئات، كما أنه الإمكانية الوحيدة وفق كل الظروف والمعطيات لصيانة الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي والوطني. ومن يبحث عن الحقائق الأخيرة بعيدا عن مفهوم التعايش ومقتضياته، فإنه يساهم في تأسيس بذور الكثير من الأزمات والكوارث الاجتماعية والسياسية.. فالمجتمعات المتعددة والتي تحتضن تنوعات عمودية وأفقية إذا صح التعبير، بحاجة إلى جهد لإدارة هذه التنوعات بعيدا عن إحن الماضي أو هواجس الخصوم.
فالاستقرار العميق في كل الأوطان والمجتمعات، هو وليد شرعي لحقائق التعايش ومتطلباته حينما تسود المجتمع بكل فئاته وشرائحه وأطيافه.
وعليه فإن صناع الوعي والمعرفة والكلمة في مجتمعنا، يتحملون مسئولية عظيمة في هذا الصدد. فهم معنيون راهنا ومستقبلا، بصناعة المعرفة التي تؤكد خيار التعايش، وتعمق أواصر التفاهم بين مختلف الأطياف. وهذا لا يتأتى إلا باشتراكهم الفعال في محاربة كل الأفكار التي تزرع الشقاق والأحقاد بين أبناء المجتمع والوطن الواحد.
لهذا فإن خطابات التحريض والتشدد والغلو ضد المختلف في الدائرة الوطنية والاجتماعية، لا تبني تعايشا ولا تحافظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، لأنها وببساطة شديدة، تؤدي إلى خلق الحواجز النفسية والاجتماعية ضد المختلف، كما تساهم في إذكاء أوار التوتر والصدام. لهذا فإن الحديث عن التعايش، أو بالأحرى تبني هذا المفهوم وهذه المقولة، يقتضي الوقوف بحزم ضد كل مقولات التعصب والغلو والتشدد ضد المختلف.. لأن الآثار الخاصة والعامة المترتبة على نزعة التعصب والغلو، كلها آثار مناقضة ومهددة إلى أسس وحقائق التعايش في الفضاء الاجتماعي.
لهذا فإن الصمت إزاء نهج التعصب والمقولات التحريضية، يعد مساهمة مباشرة وغير مباشرة في إفشال نهج التعايش في المجتمع والوطن.
وعليه فإننا نعتقد وبعمق أن التعايش هو وليد منظومة مفاهيمية واجتماعية وثقافية متكاملة.. وإن من يتبنى نهج التعايش عليه أن يضيع منظومة فكرية واجتماعية متكاملة، حتى يكون سلوكه وكل مواقفه منسجمة ومقتضيات التعايش، وحتى يتمكن من موقع الأنموذج والقدوة للتبشير بهذا الخيار، ودعوة أبناء المجتمع إلى تبني هذا النهج كنهج يحفظ حقوق الجميع، ويصون استقرارهم، ويحافظ على مكتسباتهم. ومن الضروري أن ندرك جميعا أن نقص أو ضمور حقائق التعايش في أي مجتمع وتجربة وطنية، يساهم في تقويض مشروعات التنمية البشرية، ويزيد من الفجوات العمودية والأفقية بين مختلف التكوينات الاجتماعية مما يجعل الأرضية الوطنية مهيأة للكثير من الانقسامات و التشظيات.
وبمقدار ما نتمسك بقيمة المواطنة كوعاء حاضن لنا جميعا بذات القدر نعيد صياغة علاقتنا بانتماءاتنا الخاصة. فالمواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية، هي القادرة على استيعاب كل التنوعات والتعدديات. وهي التي تحول دون انحباس احد في انتمائه الخاص. وهذا يتطلب منا جميعا مواطنين ومؤسسات رسمية وأهلية، العمل على صياغة مشروع وطني يستهدف تعزيز قيمة المواطنة. وإن تعزيز هذه القيمة في فضائنا الاجتماعي والوطني، يقتضي العمل على تفكيك كل الحوامل والحواضن الثقافية لظواهر التعصب والغلو والتشدد بكل مستوياتهما. لهذا فإننا مع كل مبادرة، تعزز قيمة التفاهم بين الأشخاص والأطياف، ومع كل خطوة تساهم في تدوير الزوايا الحادة بين مختلف الفرقاء.
رسالة إلى أهل الحوار والتعايش
عديدة هي المؤشرات والمعطيات، التي تجعلنا نعتقد أن دائرة المؤمنين بالحوار والانفتاح والتواصل بين مختلف مكونات المجتمع السعودي في ازدياد مضطرد. وإن هؤلاء يعبرون عن أفكارهم وقناعاتهم في العديد من المناسبات الاجتماعية والوطنية، ويعمل البعض منهم على القيام بمبادرات اجتماعية أو ثقافية، تستهدف كسر حاجز القطيعة والجفاء بين تعبيرات الوطن.. وهم بهذه الأعمال والمبادرات، يكسروا العديد من الحواجز النفسية، ويزيلوا من نفوسهم وعقولهم الركام الذي ساد في حقب زمنية سالفة، ومؤداه المفاصلة والابتعاد وخلق الحواجز بين المواطنين لاعتبارات مذهبية أو قبلية أو مناطقية.
لهذا فإن هذه الخطوات والمبادرات، تساهم في تفكيك الثقافة التي صنعت موقف الجفاء والقطيعة، كما تساهم في إزالة الرين الذي بقى في النفوس، وتدثر بمقولات جاهزة واتهامات وسوء ظن، وكلها تفضي إلى التباغض والابتعاد عن بعض.. ولكن ومنذ انطلاق مشروع خادم الحرمين الشريفين حفظه الله تعالى للحوار الوطني، وتأسيس مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، أضحت الأصوات المطالبة بالحوار والتواصل وتجاوز الخلافات وبناء مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات عالية.
لهذا فإننا نعتقد أن دائرة الحوار والتواصل والتعايش في داخل المجتمع السعودي، بدأت بالاتساع، وأضحت هذه الدائرة أو هذا الخيار، يمتلك زخما هائلا، من جراء اتساع دائرة المطالبين بهذه القيم والمبادئ. لهذا فإنه مهما علت الأصوات المتشددة والنابذة لخيار الحوار والتعايش، فإن حركة الحوار والتعايش، أضحت حقيقة قائمة، وأصبح المعبرون عنها من كل الأطراف والأطياف كثر ومتعددون في مواقعهم وحيثياتهم الاجتماعية والمعرفية والثقافية.
واعتزاز كل طرف أو طيف بذاته وخصوصياته، لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية.. وقد جاء في الحديث الشريف [العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم].
وفعالية الحوار في المجتمع وبين جميع الأطياف وعلى مختلف المستويات، تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول، لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث أنها تحرك الراكد، وتساءل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة وممكنة. وفي المحصلة النهائية تكون عملية الحوار فعالية مجتمعية متميزة.
وأود في هذا السياق، أن أوجه حديثي المباشر، إلى الأطراف الوطنية من مختلف المواقع، التي تؤمن بخيار الحوار والتعايش، وتدافع عنه، وتعمل عبر وسائل الإعلام والثقافة والمبادرات الاجتماعية إلى تعزيز هذا الخيار على المستوى الوطني.
وإن الدرس العميق الذي ينبغي أن ندركه وبعمق، أن طريق الحوار والتعايش، ليس معبدا بالورود، وإنما هو طريق مليء بالأشواك والصعوبات. وإن ارتفاع صوت التشدد والمفاصلة ونكران أهمية الحوار والتعايش، ينبغي أن لا يدفعنا إلى اليأس أو العودة إلى المربع الأول، حيث الجفاء والمفاصلة الشعورية والعملية.
إننا نعتقد وبعمق، إن الحوار والتعايش، هو وسيلتنا لصون الحرمات، وحل المشكلات، ومحاصرة نزعات الفتنة والتشدد. وإن الهويات الثقافية لدى أي جماعة بشرية، لا تقوم على المطابقة والتماثلية المميتة، وإنما على التعدد والتنوع المفضي إلى إثراء المضمون الإنساني لمفهوم الهوية الثقافية.
ففي فضاء الحوار، يتكامل منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولا إلى تأسيس دينامية اجتماعية – وطنية جديدة، تتجه صوب التعايش على أسس الاحترام المتبادل..
ولنتذكر دائما وصية الحكيم لقمان لأبنه حينما قال: يا بني، كذب من قال أن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر، هل تطفئ أحدهما الأخرى، بل يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار. فمهما علت الأصوات النابذة للحوار، والمانعة للتعايش، ينبغي أن نتشبث بهما.
فالاستقرار الاجتماعي والوطني، مرهون بمدى قدرتنا على الحوار والتعايش على أسس العدالة والمساواة.
وصعوبات الواقع ليست مبررا للتنازل عن هذا الخيار، بل على العكس من ذلك تماما. فمهما كانت الصعوبات، ينبغي أن نبذل كل الجهود لتذليلها ومعالجتها.
وفي سبيل مواجهة صعوبات الواقع، من الضروري أن يلتفت أهل الحوار والتعايش إلى ضرورة العمل لزيادة وتيرة التعاون والتنسيق مع بعضهم البعض.
فمواجهة الصعوبات تقتضي العمل على بناء كتلة وطنية ممتدة على مستوى الوطن كله، تطالب بالحوار والتعايش، وتعمل معا من أجل تعزيز فرص نجاح هذا الخيار على الصعيد الوطني.
فالحوار ليس إدعاء يدعى، بل هو ممارسة مستديمة وفعالية مجتمعية، تستهدف خلق حقائق ومقتضيات الحوار في الفضاء الاجتماعي والوطني.
والتعايش ليس سكونا وانزواء، وإنما مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، وتفكيك ومحاصرة لنزعات الغلو والتطرف والتشدد، وإعلاء لقيم التسامح والاعتراف بالمختلف والمغاير وجودا ورأيا وحقوقا. وكل هذه لا تتأتى تلقائيا، وإنما بحاجة إلى جهد ومثابرة ومبادرة وتعاون وتعاضد.
من هنا فإننا نتطلع أن تتكاتف الجهود الرسمية والأهلية، من أجل تعزيز خيار الحوار والتعايش في مجتمعنا ووطننا.. وذلك لأن تعزيز هذا الخيار، في أي فضاء اجتماعي، يتطلب الكثير من الجهود والمبادرات وصناعة الحقائق والوقائع، وإن أي تراخي عن هذا الطريق، سيفضي إلى ارتفاع صوت التشدد ونبذ الحوار والتعايش. لهذا فإن الكتلة الوطنية الرافعة لمشروع الحوار والتعايش، والعاملة من أجل تنفيذ بنوده وصنع حقائقه، هي سبيلنا لمحاصرة التطرف وتفكيك موجباته ومقتضياته. وهو الخيار الذي يضمن حقوق الجميع، ويحافظ على أمننا الاجتماعي واستقرارنا السياسي.
فآن الأوان بالنسبة إلى المؤمنين بمشروع الحوار والتعايش الوطني، أن يرفعوا صوتهم، ويبشروا ببركات هذا الخيار، ويعملوا من أجل غرس مستلزماته في كل دوائر ومستويات الحياة الاجتماعية والوطنية.
والأوطان لا تبنى بإيقاظ الفتن وحروب الأوراق الصفراء، وإنما بالإرادات الوطنية الصادقة والمخلصة، والتي تسعى لاستيعاب كل التنوعات والتعدديات، وتعمل لبناء حقائق الألفة والوحدة على أسس الحوار الذي لا يقصي أحدا، ولا ينبذ مكونا، والتعايش الذي لا يلغي التنافس وسنة التدافع، وإنما يوفر لها الفضاء المدني والسلمي، الذي يفسح المجال للجميع، لكي يمارس حقه وواجبه، في تعزيز أواصر التلاحم الاجتماعي والوطني، ويطرد كل القيم والحقائق المضادة لقيم الحوار والتعايش والوحدة.
خطر الانقسام المذهبي
حذر وزير الخارجية التركي السيد (أحمد داود اوغلو) في حوار مع جريدة الحياة بتاريخ (4/ مايو / 2010) من خطر الانقسام المذهبي في العراق ولبنان وعموم منطقة الشرق الأوسط. ودعا [إلى عدم اعتماد سياسات مذهبية أو أثنية. لا أحد يمكنه أن يغير عرقه. الله خلقنا إما عربا أو أتراكا أو إيرانيين أو أكرادا، لا يمكننا تغيير ذلك. ولذلك فإن السياسة يمكن تغييرها، لكن الأثنية لا يمكن تغييرها. الاعتقاد يمكن تغييره، ولكن لا يمكنك أن ترغم الجميع على تغيير معتقداتهم الدينية، فهم إما مسلمون، سنة أو شيعة، أو مسيحيون. ولذلك فإن علينا ألا نعتمد سياسات مبنية على أساس عرقي أو ديني، بل علينا اعتماد سياسات وطنية أو إنسانية.. الهوية العراقية مثلا يجب أن تكون أكثر أهمية من أن يكون الشخص سنيا أو شيعيا، وإلا فإنه ستكون هناك دائما مواجهات وتوترات في العراق. في منطقتنا، نحن ضد أي مواجهة سنية–شيعية].
إننا نعتقد أن هذه الرؤية التي قدمها السيد أحمد داود أوغلو، تساهم في إخراج العراق ومنطقتنا من الكثير من عناصر التوتر التي تفضي إلى نزاعات وحروب مذهبية وطائفية، تهدد استقرار الجميع، وتخضع المنطقة برمتها إلى الهيمنة الأجنبية، التي من مصلحتها الاستراتيجية، استمرار حالة الانقسام والتشظي في الدائريتين العربية والإسلامية.
فالخطوة الأولى في مشروع صياغة القوة العربية والإسلامية، لمواجهة تحديات ومخاطر المرحلة، هو رفض الانقسامات المذهبية والطائفية، والعمل على تبني سياسات وطنية وإنسانية، لا تفرق بين المواطنين، وإنما تعمل عبر السياسات والبرامج والمشاريع على استيعاب الجميع على قاعدة المواطنة الجامعة.
وإننا كعرب ومسلمين، بدون الخروج من مآزق الانقسامات الطائفية والمذهبية، لن نتمكن من مواجهة تحديات واقعنا، ولن نتمكن من الوصول إلى حقوقنا المشروعة.
فقوتنا الحقيقية وهيبتنا الواقعية، مرتبطة بشكل أساسي في قدرتنا على إيجاد حلول ناجعة لمشكلاتنا المذهبية والطائفية التي بدأت تستشري في كل جسمنا العربي والإسلامي.
وإن استمرار السياسات الطائفية والمذهبية سواء في العراق أو لبنان أو أي منطقة عربية وإسلامية، لن يفضي إلى الأمن والاستقرار، وإنما إلى المزيد من خلق مبررات ومسوغات الانقسام الأفقي والعمودي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
فالسياسات الفعالة والمؤثرة، لا تبنى على قاعدة إدامة التشظي المذهبي في المنطقة، وإنما في استيعابها وتجاوزها بسياسات وطنية وإنسانية، لا تفرق بين المواطنين، وتعمل على إشراك الجميع في تحمل مسؤولياتهم الوطنية والقومية.
فالطريق إلى استقرار العراق وغيره من بلداننا العربية والإسلامية، ليس في استمرار نهج المحاصصة الطائفية، وإنما في العودة إلى الهوية الوطنية العراقية، التي تجمع وتستوعب العراقيين بصرف النظر عن مذاهبهم وطوائفهم. فالعراق لكل العراقيين، ولا تستقر أوضاعه الأمنية والسياسية، إلا بمشاركة جميع الطيف العراقي في عمليات البناء وإدارة الشأن العام.. وما نقوله بحق العراق، ينطبق على أي بلد عربي وإسلامي. فالاستقرار يبنى بتكاتف الجميع، ومنع كل الممارسات التي تفرق بين الوطن الواحد على أسس طائفية أو مذهبية.
فالخطر الذي يتهدد الأوطان واستقرارها، ليس من جراء التعددية المذهبية أو الطائفية، بل هو من جراء سياسات التفريق والتمييز التي تعمل على تفتيت المجتمع والوطن على أسس طائفية ومذهبية مقيتة..
فالتعدد المذهبي والطائفي، ليس حالة مضادة للمواطنة، بل هو الجذر الثقافي والاجتماعي لبناء مواطنة حقيقية بعيدا عن الشعارات الشوفينية واليافطات الشعبوية والعدمية. فاحترام التعدد المذهبي وحمايته القانونية والسياسية، هو الذي يوفر الشروط المجتمعية الحقيقية لبناء مواطنة متساوية في مجتمع متعدد مذهبيا وطائفيا.
وإن خيارات الاستئصال والتغييب لهذه الحقيقة، لا تنتج على الصعيد الواقعي، إلا المزيد من التوترات المذهبية والطائفية.
وإصرار الجميع على عناوينهم الفرعية، دون التمسك بأهداب المواطنة الجامعة، أيضا يؤدي إلى المزيد من التشظي والتفتت الأفقي والعمودي.
فالمقاربة الفعالة والتي تخرج المنطقة العربية والإسلامية، من خطر الانقسام المذهبي والاحتراب الطائفي، هو تبني الخيارات والسياسات الوطنية، التي تعتمد على مبدأ المواطنة الجامعة في كل شيء.
أما المقاربات والسياسات والخيارات، التي تعمل على التغييب القسري لهذه الحقائق، أو تعلي من شأن انتماءات ما دون المواطنة الجامعة، فإن محصلتها النهائية، هو إضافة عناصر جديدة لإدامة التوتر والانقسام، وجعل المنطقة برمتها مكشوفة على مخاطر وتحديات جسيمة.
ولكي ترتفع العناوين الفرعية عن دوائرها التقليدية وكياناتها الذاتية إلى مستوى المواطنة الجامعة، هي بحاجة إلى عوامل موضوعية وسياسية، تساهم في إشراك هذه العناوين في بناء وتطوير مفهوم الوطن والأمة.
ولقد علمتنا التجارب العربية والعالمية أن التعامل القهري مع التعدديات المذهبية والطائفية، لا ينهي الأزمة، ولا يؤسس لمفهوم حديث للوطن والأمة، وإنما يشحن المجتمع بالعديد من نقاط التفجر والتوتر، ويدفع هذه التعدديات إلى الانكفاء والانعزال، وبهذا تتراجع حقيقة ومشروع المواطنة الجامعة.
فالأمن الشامل والدائم، هو وليد العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. وإن الاستقرار السياسي والمجتمعي، القائم على احترام تعديات المجتمع وتنوعه الفكري والسياسي، هو الذي يؤدي إلى نضوج خيار التمازج والتداخل والتواصل المتبادل بين مجموع تعبيرات المجتمع والوطن.
وإن تحصين أوطاننا جميعا، من مخاطر الانقسام المذهبي والاحتراب الطائفي، يتطلب العمل بشكل سريع على الانفتاح والتواصل مع جميع التعدديات، والإنصات إلى همومها وآمالها، والعمل على تفكيك عناصر الاحتقان والتوتر وصياغة أنظمة وتشريعات، تستند على مبدأ المواطنة مع الاحترام التام لكل التعدديات الموجودة في الفضاء الثقافي والاجتماعي. فاستمرار التوترات المذهبية والطائفية، لا يخدم إلا أعداء الأمة وأوطاننا. وإن المصلحة الوطنية والقومية والدينية، تقتضي من جميع الأطراف الرسمية والأهلية، العمل على معالجة جذور التوترات المذهبية والطائفية، وبناء رؤية وطنية وإسلامية متكاملة، في الطريقة الحضارية المناسبة للتعامل مع واقع التعددية المذهبية الموجود في أغلب أوطاننا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية.
فلنقف جميعا ضد الفتن الطائفية والمذهبية، ولنعمل على تنقية فضائنا السياسي والثقافي والاجتماعي من كل العناصر التي تساهم بشكل أو بآخر في استمرار التوترات المذهبية.
فالمصلحة العليا لأوطاننا ومجتمعاتنا، تقتضي الوقوف بحزم ضد كل من يساهم في إثارة الفتن الطائفية، أو التمييز والتفريق بين أبناء الوطن الواحد على أسس طائفية ومذهبية.
وقفة مع الإعلام الفضائي الديني
ثمة حقيقة شاخصة اليوم في المشهد العالمي، وهي أن العالم من أقصاه إلى أقصاه، يعيش ثورة في وسائل الاتصال والتواصل والإعلام. ولهذا انتشرت الفضائيات وتعددت المحطات التلفزيونية، وعملت كل الشعوب والأمم والجماعات باختلاف منابتها وأيدلوجياتها للحضور الفضائي.
ونفسر اندفاع جميع الخصوصيات للتعبير عن ذاتها فضائيا في الإطار العربي، إلى أن الوضع السياسي والإعلامي العربي، استند خلال عقود عديدة إلى إستراتيجية تغييب الخصوصيات الدينية والمذهبية والقومية والجهوية والقبلية لصالح رؤية مركزية واحدة. ومع التطورات السياسية والإعلامية الجديدة، شعرت جميع الخصوصيات أن بإمكانها التعبير عن نفسها فضائيا. فتسارعت كل الخصوصيات الموجودة في الفضاء العربي إلى الحضور التلفزيوني. ولعلنا لا نجانب الصواب، حين القول أن أغلب حالات التسارع تمت بدون رؤية واضحة، وإستراتيجية إعلامية مدروسة. وإنما هو تسارع عفوي، يستهدف الوجود الفضائي بذاته. وبطبيعة الحال أن الاندفاع السريع نحو تأسيس فضائيات كان التحدي الرئيسي الأساسي الذي يواجهه هو إثبات الوجود والذات.
بمعنى أن المشروع الإعلامي يمر بمرحلتين أساسيتين على هذا الصعيد:
1- مرحلة أثبات الوجود و الذات سواء كانت دينية أو قومية أو مذهبية أو قبلية. وعادة في هذه المرحلة تتراجع شروط الجودة على مختلف المستويات لصالح الحضور كيفما كان.
ولكن غياب الاستراتيجية الإعلامية الواضحة، وكذلك الكادر البشري المؤهل، يجعل مرحلة إثبات الوجود كيفما كان طويلة والثمن الذي تدفعه المجتمعات من جراء هذا الإعلام كبيرا.
2- مرحلة إدارة الوجود الإعلامي بما ينسجم ومشروع القاعدة الاجتماعية التي انطلقت منه هذه الفضائية التلفزيونية أو تلك.
وأعتقد أن الفضائيات الدينية في غالبها، لا زالت تعيش المرحلة الأولى بكل التباساتها وهواجسها. وهذا يتطلب من القائمين عليها، التفكير الجاد في إيجاد آليات مدروسة، في سبل تجاوز الإعلام الهاوي إلى الإعلام المحترف. وهذا يتطلب الاهتمام بالنقاط التالية:
1- الإعلام والمشروع الثقافي والسياسي:
على الصعيد الواقعي هناك علاقة وظيفية بين الإعلام والسياسية.. بمعنى أن الإعلام هو أحد روافد العمل السياسي، كما أنه هو وسيلة الترويج والتسويق للمثل و المشروعات والشخصيات. ولكن وجود هذه العلاقة ينبغي أن لا يقلل من شروط المهنية والاحتراف الإعلامي.
فكل المحطات التلفزيونية لها أجندتها، ولكن تختلف عن بعضها في طبيعة التعامل مع هذه الأجندة.
فهناك التعامل المباشر الفج الذي لا يوسع من دائرة المشاهدين والمتابعين.
وهناك التعامل الذكي المحترف، الذي يعمل للوصول إلى أجنديته وغاياته عن طريق أنشطة إعلامية متعددة، تلتزم بشروط العمل الإعلامي الصحيح والمتقن.
2- التدريب والتكوين المهني:
لا يكفي أن تكون أهداف المحطة التلفزيونية وغاياتها نبيلة، وإنما من الضروري الاهتمام بكل مسائل التدريب والتأهيل المهني والعلمي لكل الكوادر الإعلامية.
وأعتقد على هذا الصعيد أن أغلب الفضائيات الدينية بحاجة إلى الكثير من الجهود النوعية التي ينبغي أن تبذلها على هذا المستوى.
إضافة إلى إنه لا يمكن أن يتقدم الأداء التلفزيوني في أي محطة تلفزيونية، بدون مؤسسات إنتاج فني وبرامجي، قادر على رفد الفضائية بالعديد من المشاريع التلفزيونية والبرامج الإعلامية المتميزة.
3- الفضائيات الدينية وروح المسجد:
لا ريب أن للفضائيات الدينية إيجابيات ومكاسب عديدة، ولكن ما أود أن أثره في هذا السياق هو إصرار أغلب هذه الفضائيات على الخطاب الذي يفرق بين الناس، ويشحن نفوسهم بالحقد والبغضاء على مخالفيهم في الرأي أو المعتقد.
مما حول أغلب هذه الفضائيات إلى مصدر في إشاعة خطاب الكراهية والفتنة.
لذلك فإننا ندعو هذه الفضائيات إلى العودة والالتزام بروح المسجد.. فهي روح جامعة وحاضنة للجميع، وتلبي حاجات الجميع.
ولا يمكن أن تقترب هذه الفضائيات من روح المسجد إلا بخلق مبادرة من قبل القائمين عليها للاجتماع وتدارس الأمر وصياغة ميثاق إعلامي متكامل، ينبذ الفرقة والشقاق، ويؤكد على قيم الحوار والوئام والتسامح والمحبة وحقوق الإنسان.
وبكلمة: إن التزام جميع هذه الفضائيات بروح المسجد الجامع والحاضن، هو الذي يخرجها من مأزقها الحالي.
ففي لحظة زمنية وجيزة، توالدت وانتشرت الفضائيات الدينية، وأصبحنا يوميا نكتشف قناة إعلامية-دينية جديدة، وأضحى الجميع في زمن انفجار الهويات الفرعية، يحدث نفسه وجماعته الأثنية أو القبلية أو المذهبية حول ضرورة التواجد الفضائي.
ونحن نعتقد أن ظاهرة انتشار الفضائيات الدينية، بحاجة إلى دراسة عميقة ومتأنية، حتى نستطيع أن نصل إلى حكم نهائي حول مسارها ومسيرتها وتجربتها.
ولكن ما نستطيع قوله في هذا السياق أن أغلب هذه الفضائيات تتبنى خطاب وسياسة إعلامية مغلقة وعاطفية وشوفينية وإن هذه الفضائيات تعمل على إبراز مفاهيمها الخاصة وشخصياتها المقربة، والتغافل التام والتجاهل الكلي عن كل المفاهيم والقيم والشخصيات الأخرى، التي لا تلتقي بشكل أو بآخر وهذا الطرح. أي إنها فضائيات فئوية – مغلقة، لا تمارس الانفتاح مع الرأي الآخر.
ولا تكتفي بذلك، بل تقوم بشحن الساحة العربية والإسلامية شحنا قبليا أو طائفيا. لهذا نجد وفي زمن الفضاء المفتوح، ازدادت الإحن والأحقاد بين القبائل والطوائف، وأضحت الحرب الإعلامية المفتوحة على كل الاحتمالات، هي السمة البارزة في المشهد الإعلامي العربي والإسلامي.
والذي يثير الغرابة في هذا الإطار، هو أن الفضاء والإعلام المفتوح، لم يساعد جميع الأطراف على التعرف على بعضها البعض، وإنما تمترس كل طرف وراء إعلامه الخاص، وبدأ يطلق السهام والنبال ضد الأطراف الأخرى. فأصبحنا جميعا نعيش هذه المفارقة، حيث الإعلام المفتوح الذي يصل إلى كل بيت، مع جهل عميق بالآخر وتغييب متعمد إلى تلك الحقائق والقضايا التي تنصفه. فالإعلام الفضائي الإسلامي، لم يؤد إلى أن يتعارف المسلمون على بعضهم البعض، وإنما أدى إلى التخندق والتخندق المضاد.
فغابت الحقيقة الجامعة، واضمحلت المساحة المشتركة، وازدادت الإحن والأحقاد، وتراجع الفهم والتفاهم بين جميع الأطراف في الدائرة الإسلامية.
وفي هذا السياق، تحول الفضاء الإسلامي المفتوح من فرصة للتواصل والتعارف، إلى منصة لزرع الفتن والأحقاد بين المسلمين. ونماذجنا على ما نقول كثيرة وعديدة. ونعتقد أن استمرار هذا النهج والتوجه، سيفضي إلى المزيد من الكوارث على صعيد الأمن الاجتماعي والسياسي.
وإننا هنا ندعو جميع القائمين على الفضائيات الدينية إلى مراجعة استراتيجياتهم الإعلامية، والعمل على بناء إعلام تلفزيوني، يساهم في تعميق الوفاق بين المسلمين، ولا يشحن النفوس والعقول للمزيد من التشظي والفتن.
فالإعلام مسئولية والالتزام، وما يجري اليوم على الشاشات الإسلامية، يتجاوز الحدود بكل مستوياته. حيث الألفاظ النابية، والتهريج المفجع الذي يعيد أحقاد التاريخ، ويهيئ الأرضية للمزيد من الحروب والفتن في كل المجتمعات والدول العربية والإسلامية إننا ندعو أصحاب هذه الفضائيات إلى أن يتقوا الله في أمتهم ومجتمعاتهم، وإن ما يمارسوه عبر العديد من برامجهم التلفزيونية، لا يخرج عن نطاق، تهيئة المناخ والأرضية للفتنة بكل صورها بين المسلمين. لذلك نحن بحاجة إلى وقفة جادة لإعادة هذه الفضائيات إلى جادة الصواب بالابتعاد التام عن البرامج التي تشحن الناس ضد بعضها البعض لاعتبارات قبلية أو مذهبية أو جهوية، وتعمل على ترسيخ قيم الوحدة والتسامح وصيانة حقوق الإنسان.
فالإعلام الفضائي هو فرصة ذهبية، لتعريف العالم بقيم الإسلام الخالدة، وليس لنشر غسيلنا الوسخ على رؤوس الأشهاد.
والحرية لا تشرع لأحد ممارسة الحيف والظلم ضد الآخرين. ومن يريد أن يدافع عن آراءه وأفكاره ومعتقداته، يستطيع أن يدافع عنها بوسائل حضارية، لا تقلل من قيمة الآخرين، ولا تدخل المشاهدين في حلبة من الصراع المفتوح الذي يبدأ بالشتائم المقززة، ولا ينتهي إلا بالدعاء على الآخرين بالويل والثبور وعظائم الأمور.
فالإسلام هو دين الرحمة والمحبة والألفة، ولكن من يشاهد هذه الفضائيات، يكتشف أن القيم المبثوثة في برامجها هي قيم مضادة شكلا وجوهرا لقيم الرحمة والمحبة والألفة.
اضف تعليق