الازمة التي تعاني منها الدولة العراقية ناتجة عن الفوارق الاجتماعية التي تزيد فجوتها يوما بعد اخر حتى صارت لدينا ما يشبه الاقطاعيات التي تملك الكثير، مقابل جيوش الفقراء والمعدمين الذين لا يملكون وسائل العيش بكرامة في بلد نفطي وثرواته الطبيعية تكفي لبناء عدة دول بحجم العراق...
الازمة التي تعاني منها الدولة العراقية ناتجة عن الفوارق الاجتماعية التي تزيد فجوتها يوما بعد اخر حتى صارت لدينا ما يشبه الاقطاعيات التي تملك الكثير، مقابل جيوش الفقراء والمعدمين الذين لا يملكون وسائل العيش بكرامة في بلد نفطي وثرواته الطبيعية تكفي لبناء عدة دول بحجم العراق.
فما الذي صنع هذه الفوارق؟ وهل هي حالة جديدة ام ان لها جذور قديمة؟ ومن الذي ساعد على انتشارها؟ وهل من سبيل للقضاء على الفوارق الحالية؟
لا يمكن معرفة سبب الفوارق بين الناس، الا بعد معرفة القواعد التي تحكم العلاقات بينهم، وفي العراق لدينا اربعة مرتكزات يستند لها الناس لتحقيق أهدافهم والتواصل فيما بينهم وهي:
١. الدين
٢. التقاليد العشائرية
٣. القانون المدني
٤. الاخلاق
فالدين وان تعرض لهجمات واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام وفي النوادي الثقافية، لكنه يبقى عنصرا مهما ومرتكزا اساسيا في تحديد علاقات الناس، وتقييد الكثير من الافعال السلبية او بناء علاقات جديدة، ما تزال قضايا كثيرة تخضع للدين مثل الارث والعلاقات الزوجية والمعاملات المالية وامور اخرى كثيرة لا يتسع المقال لذكرها، فالمواطن لا يعتمد القواعد التي تضعها الدولة انما يلجأ للدين في ذلك.
لكن هل الالتزام الديني كامل؟ بالتاكيد لا يوجد شعب متفق على فكرة دينية واحدة، وهناك عدة مرجعيات للدين، وهناك نسبة من غير المتدينين، ونسبة اخرى لا تعرف كل المعاملات الدينية، فضلا عن الانتهازيين والاشخاص الذين يستغلون تدين الناس من اجل تحقيق اهداف دنيئة لا تتوافق ومصالح المجتمع، وهذه الفئة هي الاخطر والاكثر تلاعبا بالشعوب.
وبشكل عام يمثل الدين عامل ضبط اجتماعي لا يمكن اغفال دوره، بل هو عامل الضبط الاهم، اما اذا قل تاثيره مثلما يحدث في الكثير من الدول، فهنا في العراق نملك التقاليد العشائرية التي تستمد قوتها من سطوة العشائر والاحكام السائدة بينها والتي تمتد جذورها لمئات السنين ما يعطيها قوة هائلة تجاري التاثير الديني، لا سيما وانها غالبا ما تحاول المزج بين التقليد العشائري والنص الديني، من هنا يصبح الخروج عن العشيرة مزدوجا في بعض الأحيان، ومن تمثلات قوة التقاليد العشائرية اننا في زمن الديمقراطية والأفكار المتحررة ما تزال الانتخابات البرلمانية تعتمد على صلة القرابة، وشيوخ العشائر يتحكمون في فئات اجتماعية تعتبر متنورة، وأعضاء مجلس النواب انفسهم الذين يمثلون الفكر الديمقراطي التحرري يلجؤون في بعض الأحيان الى العشيرة من اجل فض نزاعاتهم.
لكن كما في قدرة الدين على الضبط والتحكم، فان قدرات التقاليد العشائرية لها حدود، لندخل في حدود سلطة الدولة الحديثة التي تعتمد القوانين في الضبط الاجتماعي، وتسيير حياة الناس، ويمثل القانون اليوم اسمى قوة في البلدان الديمقراطية، والناس اذ يتخاصمون يذهبون الى القضاء، واذا حدثت لهم مشكلة صغيرة او كبيرة فالحكم القضائي هو الفيصل بينهم، ولا تمييز بين مواطن بسيط، او مسؤول حكومي كبير، وهذه ميزة القانون، انه اعمى لا يرى غير النص المكتوب، أي انه لا ينظر للشخص وما يمتلكه من أموال او منصب، انما ينظر للافعال التي يرتكبها فان خالف القانون تمت معاقبته، وهذا يعطي للقانون ميزة لتحقيق العدالة افضل من التقاليد العشائرية القائمة على التمييز بين الطبقات الاجتماعية.
ويضعف القانون عندما تنهار سلطات الدولة وتوضع النظارات الكاشفة امام النص القانوني، فالقاضي يحكم على الناس بحسب انسابهم واموالهم ومناصبهم، لكنه في حقيقة الامر يحكم على القانون نفسه بالفناء لان قوة القانون تنبع من قدرته على تحقيق العدالة بين الناس، كما ان القانون نفسه حتى وان استطاع تطبيق نصوصه يبقى قاصرا عن شموله لبعض الجوانب الحياتية ما يجعل الحاجة لعنصر مهم في الضبط الاجتماعي وهو الاخلاق، التي بموجبها يمتنع الناس عن القيام ببعض الأفعال باعتبارها منافية للاخلاق بغض النظر عن وجود حكم قانوني فيها او لا، كما انهم قد يقومون بافعال إيجابية بغض النظر ان كانت الحكومة ستقدم لهم مكافأة على الأفعال تلك.
في الدول الدينية نجد الدين هو المسيطر والمتحكم ما يحقق نوعا من الاستقرار المجتمعي، لكن هذا لا يحدث في العصر الراهن، اذ انزاحت الدولة الدينية وانقرضت بفعل التقدم العلمي والصناعي وانحسر دور رجال الدين على دور العبادة، اما التقاليد العشائرية فلا يمكنها ان تبني دولة لانها قائمة على تقسيم الناس على فئات وطبقات، وليس في منظورها توحيد الناس تحت سلطة واحدة، وتبقى الاخلاق التي ليس من وظيفتها تنظيم جميع علاقات الناس انما وظيفة الاخلاق ملء الفراغات التي تنشأ بين التقاليد العشائرية والنصوص القانونية او الدينية.
اذا وضعنا عدسات كاشفة مكونة من أربعة مستويات للضبط الاجتماعي وهي الجانب الديني، والتقاليد العشائرية، والقانون، والمستوى الرابع وهو الاخلاق، ماذا سنجد؟ نجد ان هناك تداخل وصراع مرير بين من يتبنون فكرة الدولة الدينية ومن يرفعون شعار الديمقراطية وتحديث المجتمع، فاصحاب الفكرة الدينية يريديون ان يطبقوا ولو جزءاً بسيطا من التعاليم الدينية، وحتى مع معرفتهم بفشلهم ببناء دولة دينية فهم يقفون عقبة كبيرة بوجه بناء دولة القانون، وحتى الانتهازيين والفاسدين تجدهم يتبنون الأفكار الدينية ليس حبا بالدين وانما لتحقيق مصالحهم الخاصة، وبما يتعارض مع مشروع الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على حكم القانون، ولا يتحقق من اهداف الأحزاب الدينية سوى تهديم أسس الدولة الحديثة وتقزيم دور القانون وإشاعة الفوضى وتشويه صورة الدين امام الناس لكن هذا لا يهم هذه الأحزاب لانها لا تهدف الى بناء دولة دينية بقدر ما تريد ان تحقق مصالحها ومصالح العوائل التي أنشأت هذه الأحزاب.
وخلال سنوات من الفوضى التي يتسبب بها الصراع بين الأحزاب التي تتبنى الفكرة الدينية والأخرى التي تتبنى الديمقراطية، يسود جو من الفوضى وغياب العدالة وتتحول المحسوبية هي القانون السائد بين الناس، وتسحق الاخلاق تحت رحمة الأقوى، ليس لان رجال الدين هو من ساعد على ذلك وليس لان الديمقراطية تشجع على الفوضى، انما لوجود فئة من الانتهازيين الذين يرفعون الشعارات الجميلة ويتسترون بالدين تارة وبالديمقراطية او القانون والتقاليد تارة أخرى، وما بين كل هذه التنقلات بين الدين والقانون والأخلاق يتم تدمير الوطن وزيادة منسوب الفوارق بين الناس وابتعادنا عن الركب العالمي المتقدم.
اضف تعليق