المصدر الوحيد للأفكار التي تروج لافول المؤسسة الدينية هي الخلط الواضح والمقصود بين الاحزاب السياسية التي تحمل الصبغة الدينية، وبين المؤسسة الدينية ذاتها، من اجل تشبيك الطرفين بعضهما بالبعض الاخر، لكن ذلك لا يتحقق بهذه السهولة، بل قد يعطي نتائج عكسية ويدفع الناس للتمسك بالمؤسسة الدينية أكثر...
في ظل الحديث عن التغيير في الوعي العام اثر تراكم الفعل الاحتجاجي منذ سنوات، برز الى ميدان النقاش الاجتماعي والسياسي المتغير الديني باعتباره عنصرا ذاهبا في طريقه الى الافول بعد ان سحبته الطبقة السياسية الى ميدانها مرغما او راغبا، ويستشهد اصحاب الحجة القائلة بنهاية الدور الديني في العراق الى عدة امور ابرزها لجوء الشباب العراقي الى مصادر اخرى للوعي تقوم على قوة مواقع التواصل الاجتماعي، والمنتديات الفكرية والثقافية العلمانية التي تقام في بغداد والمحافظات.
وقد تمخضت النقاشات تلك الى موقف واحد مفاده ان العراق يجب ان يسلك مسارا اخر، وهو المسار العلماني لكن بطريقة مخففة باسم الدولة المدنية، في اشارة واضحة الى رفض اي شيء له علاقة بالدين، او تدخله في السياسة وبناء الدولة العراقية، ويعزو منتقدوا خلط الدين بالسياسة رفضهم هذا الى فشل احزاب الاسلام السياسي بتاسيس دولة عراقية جامعة، ومؤسسات حكومية قادرة على تسيير امور البلاد الى الامام.
ونتيجة لهذا الموقف الجديد تجاه الدين برزت شعارات صريحة مثل: "باسم الدين باكونه الحرامية" وشعارات مناهضة لرجال الدين والسياسة على حد سواء، يقابلها شعارات هي اقرب للعلمانية مثل: "نريد وطن" و"نريد دولة مدنية"، هذا التحول في الفعل الاحتجاجي تقودنا الى تصفح مصادر القوة لدى المؤسسة الدينية، وهل فعلا يمكن لتظاهرات شعبية ان تقلب السقف على الجميع؟ ام ان هناك من ترك الواقع وبدأ يتحدث لغة الامنيات؟
مصادر السلطة الدينية
1. قوة رجال الدين الكاريزمية، فالمؤسسة الدينية بحد ذاتها تقوم على قوة عدد قليل جدا من رجال الدين، وقد يكون رجلا واحدا يتمتع بكاريزما تميزه عن غيره وتصنع له هيبة ووقارا لا يمكن لاي سياسي ان يحصل عليه، وفي اغلب الاحيان يلجأ الناس اليه في الظروف الصعبة مثل الازمات السياسية الخانقة، فتجده مثل صمام الامان كما يطلق عليه شعبيا.
2.من مواقفهم المناصرة للشعب ضد الحكومات، هذه المواقف التي نتحدث عنها غالبا ما تكون جامعة وانقاذية للجميع، وفي في الاحيان تقف في صف الشعب ضد الحكومة، لكن نادرا ما تجد مرجعية دينية تقف في صف الحكومات، وان وجدت فهي تاخذ المسار السياسي وتحسب على السياسيين، اي تخرج من عباءة رجال الدين بالشكل الكاريزمي المعهود.
3.من الرأي العام الديني، فهناك نسبة كبيرة من المتدينين في العراق، ولا يمكن الاستهانة بهذه الاعداد الغفيرة التي تتخذ الصمت في اغلب الوقت، لكن ان تحركت فهي قادرة على قلب اكبر المعادلات السياسية.
4.من المؤسسات الخيرية وانشطتهم الاجتماعية، اذ ان الفقراء هم اصدقاء المؤسسة الدينية حتى وان لم تحصل هذه المؤسسة على تغطية اعلامية واسعة، فهناك نسبة كبيرة من الفقراء الذين قذفهم الفساد الحكومي في احضان المؤسسات الخيرية الدينية، وكلما زاد الفقر زاد لجوء الناس الى المؤسسات تلك.
5.من المناسبات الدينية التي تمثل السلطة الروحية الاعلى وتبرز اهمية وجود رجال الدين، ومن اجل حساب نسبة المتدينين العاديين علينا النظر الى المناسبات الدينية في العراق، يكفي انها تاخذ اياما واسابيع تتوقف فيها انشطة الدولة وتتوجه الى خدمة الفعاليات الدينية.
ولا تعتمد المؤسسة الدينية على مصادر قوتها فقط، انما هناك عوامل مساعدة لها، او فلنقل عوامل تدفع الناس بالانغماس اكثر والتفاعل مع النشاط الديني ومن ابرزها:
1.ضعف مؤسسات الدولة، فالدولة في الاساس وجدت من اجل حماية مصالح الناس وتحقيق العدالة عبر مؤسساتها القانونية، واذا ما ضعفت هذه المؤسسات يصاب الناس بالذعر والخوف من بعضهم، فيلجؤون الى سلطة قادرة على كبح جماح الانفعالات غير المتحكم فيها، والتي يمكن ان تهدد مصالح الناس.
2.انهيار الوضع الامني، اذ ان الامن هو الركيزة الاساسية في اي مجتمع، واذا ما فقد الامن شاعت الفوضى والقتل، وقد يقول قائل ان المتدينين والاحزاب الدينية هي التي تدفع نحو الحرب عبر بث الخطابات المعادية للطوائف الاخرى، لكن هذا التحريض نفسه هو الذي يدفع الناس للتمسك بدينهم ومذهبهم في ظل الحدود التي ترسمها الحرب.
3.التدخلات الاجنبية، لان هذه التدخلات لا تاخذ بنظر الاعتبار المصالح الشعبية، بقدر اهتمامها بمصالح الدول الخارجية، ومثلما تقف المؤسسة الدينية ضد السلطة الفاسدة تجدها تقف ضد التدخل الخارجي، كما حدث في ثورة العشرين، او كما حدث مع الدور الذي لعبته الجماعات الدينية المسلحة في مواجهة الاحتلال الامريكي عام ٢٠٠٣ وما بعدها.
بنظرة مختصرة للوضع الديني عموما نجد ان المصادر التي تستقي المؤسسة الدينية منها قوتها ما تزال ثابتة ولم تتزحزح، هناك شخصيات دينية كاريزمية، وهناك مؤسسات خيرية كبرى ترعى مصالح الفقراء، وهناك ايضا نسبة كبيرة من المتدينين الذي لا يظهرون رأيهم الا بتحرك من السلطة الدينية.
كما ان هناك مسألة غاية في الاهمية، وهي ان الدولة العراقية هذه الايام في طريقها للضعف وتقف على حافة الانهيار، والمؤسسات السيادية في اضعف احوالها، وسلطة القانون شبه معدومة، وكل جماعة تستطيع فعل ما تراه مناسبا لها بعيدا عن اي التزام، هنا تبرز الحاجة مجددا الى الولاءات الدينية من اجل توفير الحماية امنيا، فضلا عن فض المنازعات بين الناس، وبالتالي فان الوضع الجديد وان حمل في طياته شعارات قاسية تجاه رجال الدين لكنه لا يعني انهم في طريقهم نحو نزول السلم.
المصدر الوحيد لهذه الافكار التي تروج لافول المؤسسة الدينية هي الخلط الواضح والمقصود بين الاحزاب السياسية التي تحمل الصبغة الدينية، وبين المؤسسة الدينية ذاتها، من اجل تشبيك الطرفين بعضهما بالبعض الاخر، ورميهما من النافذة، لكن ذلك لا يتحقق بهذه السهولة، بل قد يعطي نتائج عكسية ويدفع الناس للتمسك بالمؤسسة الدينية أكثر.
اضف تعليق