q
قل تداول اللفظ والمعنى في الوطن اجتماعيا في حياة العرب وانحسرت ثقافيا استعمالاته وبحدود ضيقة في لغة العرب مما اثر على حجم ومساحة الوعي بالوطن وأهميته في الحياة الاجتماعية والسياسية عند العرب، ولذلك ظلت أوطان العرب معرضة الى الارباك السياسي والاقتصادي والى التهميش في المتن...

قل تداول اللفظ والمعنى في الوطن اجتماعيا في حياة العرب وانحسرت ثقافيا استعمالاته وبحدود ضيقة في لغة العرب مما اثر على حجم ومساحة الوعي بالوطن وأهميته في الحياة الاجتماعية والسياسية عند العرب، ولذلك ظلت أوطان العرب معرضة الى الارباك السياسي والاقتصادي والى التهميش في المتن اليومي والوظيفي للمواطن العربي.

تنعكس قوة الأشياء وأهميتها لدى المجتمعات في لغتهم، فكلما كانت تلك الأشياء أو الشيء منها منفردا له من الألفاظ والمترادفات أكثر عددا وأثرى معنى فإنها تكشف عن مساحة هذه المفردة – اللفظ والمعنى الكاشفة عنه في حياة تلك المجتمعات على صعيد واقعها الاجتماعي وحجم تأثيرها وهي تتركب في الوعي الاجتماعي لديهم، فالوعي هو المعنى الذي يكشف عنه اللفظ وبه يتحول الى مصطلح حين يتشكل سمة في هذا الوعي بتحول المعنى الى مفهوم.

فالوعي يتركب من مفهوم أو مجموعة من المفاهيم ويتداول اجتماعيا وثقافيا بواسطة المصطلح أو مجموعة من المصطلحات، وكلما كانت المفاهيم أكثر انجذابا الى الواقع الاجتماعي تتعزز مواقع المصطلحات ذات الصلة، وهي إذ تبدأ فكرة يفرزها الواقع فإنها تتعزز بفعل الاستجابة والجذب الاجتماعي للمعنى فيها فتبتكر ألفاظها بالتواضع الاجتماعي والتوافق الثقافي ثم تتطور الى مفاهيم فتحرز اصطلاحاتها وتستقل بذاتها كألفاظ متميزة مشحونة بطاقة اللبث في الذهن الاجتماعي فتكون دالة ويكون المفهوم مدلول.

ووظيفة الوعي هي الدلالة على الشيء وبتطوره أي الوعي يحظى بالدلالة على الأشياء، لكن اللبث في المعنى واستحالة تطور هذا المعنى يقصر بالدلالة عن أن تتطور الى فضاء أكثر سعة يتناول الأشياء على سعتها وتطور دلالاتها، فالمعاني تتجدد وتدخل في صيرورة مستمرة كاستجابة الى الصيرورات المستمرة للزمن رغم تكلس الألفاظ وبقاءها على حالها من مادة الحروف وهيأتها في اللغات لدى المجتمعات الحديثة، فالعلماني لفظ ابتكرته الكنيسة في العصور الوسطى يقتصر على الموظف المسؤول والمشرف على أملاك الكنيسة الدنيوية ووضعت المعنى فيه كرجل دنيوي في قبالة رجل الدين المسؤول والمشرف على الحياة الدينية لأتباع الكنيسة، ثم تطور هذا المعنى عن التمييز بين رجل الدين ورجل الدنيا الى الفصل بين السياسي والديني، بين المجال الخاص/الضمير والمجال العام/الدولة والسياسة والمجتمع أو ما يؤشره هذا المعنى في مفهوم الوطن الحديث وهنا مثال على تطور الألفاظ بتطور المعنى فيها.

وكان أهم ما أنتجه مفهوم الوطن الحديث هو تقليص حدود الهويات الدينية والمذهبية والعرقية الى الهوية الوطنية، ورغم أن العرب نقلوا حرفيا تلك المفاهيم لكنها لم تتشكل أو تتركب في الوعي الاجتماعي لديهم فظلت الهويات الدينية والمذهبية وأحيانا العرقية فاعلة في تحديد المعنى في الوطن لديهم.

ولو عدنا الى لفظ الوطن والمعنى المتحصل فيه في لغة العرب فإننا نلحظ توقفه عند حدود المعنى القديم ولم يخرج عن المعنى الذي وضعته له معاجم اللغة وقواميسها الى المعنى الحديث في الوطن الذي توافقت وتعارفت عليه المجتمعات الحديثة وظل هذا المعنى فاعلا ومؤثرا في حياة العرب الاجتماعية والسياسية.

ونجد في أقدم معجم عربي وهو كتاب "العين" لمؤلفه اللغوي الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفي عام 175 هـ أن الوطن: موطن الانسان ومحلَه، بينما نجد لدى ابن منظور المتوفي عام 711هـ أن الوطن: المنزل تقيم به وأضاف اليه نص اللغوي الفراهيدي هو موطن الانسان ومحله، ويبدو طروء الوطن ظاهرا على الانسان العربي فيما أورده هذين العلمين اللغويين فكلاهما إستشهد بقول شاعر مترحل هو رؤبة باختلاف يسير في شعره بينهما فقد ذكر الفراهيدي قول "رؤبة":

حتى رأى أهل العراق أنني-----أوطنت أرضا لم تكن من وطني

بينما رواه ابن منظور:

كيما ترى أهل العراق أنني-----أوطنت أرضا لم تكن من وطني

وفي رواية أخرى عند ابن منظور:

أوطنت وطنا لم يكن من وطني

ويرافق معنى الوطن لدى "رؤبة" هو الحلول فيه طارئا ومتحولا وحياة الحل والترحال في حياة العرب وبداوة العرب تركت بصمة عميقة في الذات العربية تجاه الوطن فهو منظورا اليه في الترحال أكثر من الحل ولذلك نفى "رؤبة" أن يكون العراق الذي حل فيه وطنا له بقوله:

اوطنت وطنا لم يكن من وطني

وجاء في هذه المعاجم أن جمع الوطن هي المواطن أو الأوطان، وفي تعريف الفراهيدي للمواطن يبدو الطروء ظاهرا والتوطن فيه مشروطا بأمر ما.

يقول الفراهيدي المواطن: كل مكان قام به الانسان لأمر، ويذهب الى ذلك ايضا ابن منظور يقول: إما المواطن كل مقام قام به الانسان لأمر موطن له، وعليه مما يمكن استنتاجه من هذا التعريف أن العلاقة التاريخية والاجتماعية بالوطن وهي التي تؤسس للهوية الوطنية شرط غير ظاهر في هذا التعريف بل الشرط هو أمر لم يحدده التعريف وغالبا ما يأتي لفظ " أمر " في سياقات لغة العرب بأمر طاريء وحدث مؤقت.

يقول الشاعر

إِذا تضايقَ أمرٌ فانتظرْ فرجاً... فأضيَقُ الأمرِ أَدناه من الفرجِ

فاذا نفي هذا الأمر الطارئ في الوطن نفى الانسان التوطن فيه أو الحل فيه وأذن بالترحال عنه.

ويبدو جليا في معاجم اللغة عند العرب ان معنى الوطن ماكان مرتبطا بالانسان الفرد دون الكل المجتمع وأمره حصرا في هذا الفرد كما يستشف هذا المعنى في تعريف الفراهيدي للمواطن وكذلك ابن منظور ويبدو لديه المعنى هذا أكثر جلاء يقول ابن منظور: أوطن أقام وأوطنه: اتخذه وطنا قال: يقال أوطن فلان أرض كذا وكذا إتخذها محلّا ومسكنا يقيم فيها وهو ما جاء لدى الفراهيدي أيضا، وصيغة الوطن والتوطن في لغة العرب أحادية فردية في ما ذهب اليه ابن منظور وقبله الفراهيدي.

والمفارقة في لغة العرب أنها تنسب الأوطان الى الأغنام والأبقار جمعا وليس فردا وعلى خلاف حال الانسان في علاقته بالأوطان فهي فردا وليس جمعا كما ورد في مصادر لغة العرب

يقول الفراهيدي: وأوطان الغنم: مرابضها التي تأوي اليها وأضاف اليها ابن منظور البقر فقال: أوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي اليها واستشهد بقول الأخطل:

كرّوا الى حريتكم تعمرونها-----كما تكرّ الى أوطانها البقر

وقريبا منها الميطان قال ابن منظور: الميطان الموضع الذي يُوطن لترسل منه الخيل الى السباق وهو المَيدان بفتح الميم عن الأصمعي.

واذا خرج الوطن أو المواطن عن هذا المعنى في لغة العرب فأنه بذهب الى معنى المشهد او المشاهد من الحرب فالمواطن لدى ابن منظور يسمى به المشهد من مشاهد الحرب قال طرفة وهو يصف مشهد حرب:

على موطن يخشى الفتى عنده الردى-----حتى تعترك فيه الفرائص تٌرعد

أما اذا خرج عن العلاقة بالفرد من الناس في لغة العرب فإنه يشمل أثنان بالعلاقة دون غيرهما جاء لدى ابن منظور: واطنت فلانا على الأمر اذا جعلتما في أنفسكما ان تفعلاه بل هذا التوطين في لغة العرب أحيانا يختص بالفرد دون غيره يقول إبن سيده: أوطن نفسه على الشيء وله فتوطنت حملها عليه فتحملت وذلت له قال كثير عزة:

فقلت لها يا عز كل مصيبة-----اذا وطنت يوما لها النفس ذلت

وهو ما ذهب اليه قبله الفراهيدي من ذات المعنى واستشهد بقول كثير عزة أيضا.

وبهذا فالوطن في اللفظ والمعنى في لغة العرب لا يشترط الديمومة والاستمرار في المكث والبقاء وهو ما يشترطه المعنى الحديث للوطن، وكذلك فالوطن غير مشروط في لغة العرب بالمشاركة الجماعية فهو ينصر ف الى الفرد دون الجماعة في نصوص المعاجم العربية واستشهاداتها.

ولذلك قل تداول اللفظ والمعنى في الوطن اجتماعيا في حياة العرب وانحسرت ثقافيا استعمالاته وبحدود ضيقة في لغة العرب مما اثر على حجم ومساحة الوعي بالوطن وأهميته في الحياة الاجتماعية والسياسية عند العرب، ولذلك ظلت أوطان العرب معرضة الى الارباك السياسي والاقتصادي والى التهميش في المتن اليومي والوظيفي للمواطن العربي، فلازال العربي ينظر الى الوطن في حالة من الطروء عليه وأنه مهيأ للترحال عنه اذا سنحت الفرصة المواتية أو إقتربت بوادر الهجرة منه أو اذا تهيأت له الفرصة للحصول على إقامة في وطن مغترب.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2019Ⓒ
http://shrsc.com

....................................
مصادر اللغة:
1- كتاب العين، أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د. مهدي المخزومي، د. ابراهيم السامرائي، منشورات دار الأعلمي بيروت – لبنان، الطبعة ألأولى السنة 1408هـ - 1988م،ج 7 ص 454 - 455
2- لسان العرب، العلامة ابن منظور، دار احياء التراث العربي بيروت – لبنان، الطبعة الأولى السنة 1408هـ - 1988م، ج15 – 328-329

اضف تعليق