الملاحظ ان هناك خطا تصاعديا انفصاليا بين الطبقة الحاكمة والشعب، وقد اوصل الحكام الوضع السياسي العام الى وضعية المواجهة الشاملة وهي اخطر ما يمكن ان يصل اليه اي بلد في العالم، وبما انهم لا يمارسون دور المسؤولية والحرص على حقوق الشعب فقد نتوقع مواجهة عسكرية عنيفة تؤدي الى...
ما حدث من تظاهرات شعبية منذ حكومة السيد نوري المالكي والعبادي والان مع السيد عبد المهدي هو نتيجة قراءات خاطئة لمشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية كان يمكن حلها بطريقة اسهل بكثير مما وصلت اليه.
ففي الدول الديمقراطية تكون التظاهرات الشعبية حالة ايجابية تحرك الركود الذي يصيب مراكز القرار، وهذا ما كنا نتامله ان يحدث في العراق، فالمنظومة السياسية بكاملها هي في النهاية تعمل لصالح بناء البلد سواء للمواطنين او المسؤولين، لانه مركب واحد ان انقلب سقط الجميع، لكن هذا المنطق غير موجود في العراق، هنا يوجد تعامل من نوع مخلف وغريب الى حد كبير، فالتظاهرة يتم التعامل معها بطريقة تزيد المشكلات ولا تحلها، وهناك محاولات دائمة لتعطيل عقول المواطنين، ما يفقد البلد طاقة كبيرة سواء على مستوى الانتاج الفكري لايجاد الحلول الكبرى، او على مستوى الانتاج المادي في المصانع وغيرهها، اذ تريد الطبقة السياسية من الشعب ان يكون مستمعا بما يقال له، وان رفض الاستماع يُنْفى من قواميس المواطنة ويتهم بالعمالة للخارج.
مرت الطبقة السياسية الحاكمة في العراق بثلاث مراحل في رحلة التعامل مع الاحتجاجات الشعبية وغضب الشارع من أدائها، وهي:
المرحلة الاولى: اللجوء الى أسلوب المعارضة الرسمية، اي قَدَمٌ في الحكومة وقَدَمٌ في المعارضة، وهي تطبيق سيء لنظام المحاصصة الحزبية والطائفية، فالكتلة السياسية يمكنها ان تملك مجموعة من الوزراء في الحكومة لكنها تعمل ضد الحكومة، واذا ما صار فشل لدى رئيس الوزراء في ادارة ملف معين يُتَهم بالفشل في تحقيق طموحات الشعب، وتظهر الكتلة السياسية وزعيمها ووزرائها وهم يطلقون التهم المختلفة ضد الحكومة التي هم جزء منها، وقد ادى هذا الاسلوب الى فقدان حقيقة المعارضة السياسية وجعل من الصعب تصديق اي سياسي يعارض الحكومة لانه قد يلعب على الوتر الحكومي والمعارض في الوقت نفسه، فالسياسي يمارس علمية التضليل للشعب العراقي بشكل انكشف اخيرا واصبح واضحا للجمهور بمختلف مستوياته.
المرحلة الثانية: عندما فشلت الكتل السياسية في تصدير نفسها كمعارضة وهي داخل الحكومة تحت مسميات المعارضة التقويمية، وحينما بدأ الجمهور يرفض اسلوب استخدام المعارضة والمشاركة بالحكومة في نفس الوقت، بدأت الكتل السياسية بعملية "تعويم الفساد" ، بمعنى اتهام الكل للكل بانه سبب الفساد، والسبب ان الكل مشارك في الحكومة والكل يدعي المعارضة، وهنا وضعت الكتل السياسية جميع البيض في سلة واحدة، ما جعل الامور اوضح، واصبحنا امام جبهتين فقط بعدما كانت عدة جبهات، جبهة الشعب من جهة، وجبهة الكتل السياسية مجتمعة من جهة اخرى.
المرحلة الثالثة: في هذه المرحلة عرفت الطبقة الحاكمة انها في موقع الاستهداف الشعبي بدون استثناء، وهم من اوصلوا الامور الى هذا الحد، فانتقلت الطبقة الحاكمة الى اسلوب جديد وهو "التعويل على الوقت" ، ومحاولة امتصاص غضب الشارع بقرارات كاذبة لا يمكن تنفيذها لوجود خلل قانوني في اغلب الاحيان او القيام بنقضها مستقبلا، وهو ما تم العمل عليه خلال فترة حكم السيد حيدر العبادي ويمارسها ايضا السيد عادل عبد المهدي.
التظاهرات الشعبية التي خرجت منذ الأول من تشرين الأول وحتى الان تعرف جيدا ان الاعتماد على الكتل السياسية الحالية لا يجدي نفعا، فهم اما يدعون فكرة "المعارضة التقويمية"، او يمارسون عملية "تعويم الفساد" وبالتالي لا يمكنهم الا اصدار قرارات كاذبة ووعود كبيرة كنوع من التخدير السياسي للشعب بانتظار ان يبرد غضب الشارع، وهنا نرى بوادر من بعض الكتل السياسية لنقل مستويات الصراع مع الشعب الى مرحلة جديدة، وهي مرحلة الصدام المسلح من اجل القضاء على أحلام الشعب، فكل الأساليب القديمة لم تعد تجدي نفعا، ومن ثم تكون مسؤولية المواطن التصدي لكل محاولات الدخول في مواجهة عسكرية مع الحكومة او بعض الجهات المسلحة التابعة لها، لان أي مواجهة عسكرية تعني الخسارة الكبرى للشعب والرجوع خطوات كبيرة نحو الوراء.
الملاحظ ان هناك خطا تصاعديا انفصاليا بين الطبقة الحاكمة والشعب، وقد اوصل الحكام الوضع السياسي العام الى وضعية المواجهة الشاملة وهي اخطر ما يمكن ان يصل اليه اي بلد في العالم، وبما انهم لا يمارسون دور المسؤولية والحرص على حقوق الشعب فقد نتوقع مواجهة عسكرية عنيفة تؤدي الى مزيد من القتل والتدمير والتجويع، او يسمحون بتمرير اصلاحات جذرية حقيقية تعيد ثقة الشعب بحكامه، ولا نتوقع ان تكون لدينا كتل سياسية قادرة على استعادة ثقة الشعب فالشرخ كبير والشعب يتألم على كل السنوات التي قضاها واثقا بحكامه وهو يريد تجربة عدم الثقة الى الابد.
عدم الثقة الشعبية المطلقة بالطبقة الحاكمة لا تخلو من مخاطر، لان الكتل السياسية سوف تواجه هذا الجدار الشعبي بذرائع عدة من بينها التذرع بعدم وجود بديل لها، اما اذا وجد هذا البديل فيتهم بالعمالة للخارج بمختلف انواعه الإسرائيلي والإيراني والامريكي والسعودي والتركي..الخ، ومع كل مستوى من الصراع تنقلنا اليه الطبقة الحاكمة نخسر المزيد من الوقت والجهد الوطني المخلص ونخسر المزيد من التقدم في طريق بناء نظام سياسي يستحقه العراق.
اضف تعليق