طرح المرجع الأعلى الإمام السيستاني عناوين فقهية وأخلاقية عريضة في غاية الأهمية، تتضمن فتاوى وإرشادات، تدخل في باب أساس من أبواب الفقه السياسي الإسلامي، يمكن تسمية بـ \"باب الإعتراض العام\"، أو التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، ولا سيما المطلبية كما يصطلح عليها سياسياً. هذا النص المهم يمثل...
طرح المرجع الأعلى الإمام السيستاني من خلال النص الذي قرأه الشيخ عبد المهدي الكربلائي في الخطبة الثانية لصلاة الجمعة (25/ 10/ 2019)، عناوين فقهية وأخلاقية عريضة في غاية الأهمية، تتضمن فتاوى وإرشادات، تدخل في باب أساس من أبواب الفقه السياسي الإسلامي، يمكن تسمية بـ "باب الإعتراض العام"، أو التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، ولا سيما المطلبية كما يصطلح عليها سياسياً.
هذا النص المهم يمثل امتداداً لنصوص طرحها فقهاء الشيعة المصلحين في القرن الميلادي الماضي في فقه الإعتراض العام، أمثال: السيد الميرزا الشيرازي والشيخ الآخوند الخراساني والشيخ فضل الله النوري والسيد عبد الله البهبهاني والسيد كاظم اليزدي والشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ فتح الله الإصفهاني والشيخ مهدي الخالصي والشيخ الميرزا النائيني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد أبو القاسم الكاشاني والسيد محسن الحكيم والإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر.
وما يميز نصوص السيد علي السيستاني الخاصة بفقه الإعتراض العام، والتي صدرت عنه بعد العام 2003، ومنها النص الأخير، أنه لا يتوقف عند الأحكام العامة والتكليف الشرعي للمؤمن، بل يتوسع فيها أفقياً وعمودياً، فهو يدخل في التفاصيل الإرشادية وفي آداب الإعتراض. كما أنه يشير الى المعايير الشرعية والأخلاقية والقانونية للإعتراض العام المشروع وغير المشروع، ومقاصد الإعتراض المشروع، و قواعد درء المفاسد وجلب المصالح للمكلف وللمجتمع وللدولة والبلاد من خلال ممارسة الإعتراض العام المشروع.
حرمة العنف
يحدد الإمام السيستاني في نصه الأخير الطرفين التنفيذيين الفاعل والمنفعل، أو المبادر والمواجِه، في الإعتراض العام:
1- المتظاهرون، وهم أصحاب المبادرة، و ورائهم مطاليب الشعب.
2- القوات الأمنية، وهي المواجِهة، و ورائها سلطة الدولة.
ويوضح ـ كمدخل ـ حرمة استخدام العنف على الطرفين:
((ندعو أحبّتنا المتظاهرين واعزّتنا في القوات الأمنية الى الالتزام التام بسلمية التظاهرات وعدم السماح بانجرارها إلى استخدام العنف وأعمال الشغب والتخريب)).
واجبات المتظاهرين
يبدأ المرجع الأعلى خطابه الشرعي بواجب المتظاهرين تجاه القوات الأمنية للدولة؛ كونهم الطرف الفاعل، أي المبادر بالفعل. أما القوات الأمنية فهي الطرف المنفعل في التظاهرات أو المدافع، إذ يقول:
((الإعتداء على عناصر الأمن برميهم بالأحجار أو القناني الحارقة أو غيرها، والإضرار بالممتلكات العامة أو الخاصة بالحرق والنهب والتخريب، مما لا مسوّغ له شرعاً ولا قانوناً، ويتنافى مع سلمية التظاهرات، ويبعّد المتظاهرين عن تحقيق مطالبهم المشروعة ويعرّض الفاعلين للمحاسبة)).
ويقول في فقرة أخرى مخاطباً المتظاهرين:
((نناشد المتظاهرين الكرام أن لا يبلغ بهم الغضب من سوء الأوضاع واستشراء الفساد وغياب العدالة الاجتماعية حدّ انتهاك الحرمات بالتعدي على قوات الأمن أو الممتلكات العامة أو الخاصة...
رجال الأمن إنّما هم آباؤكم وإخوانكم وأبناؤكم الذين شارك الكثير منهم في الدفاع عنكم في قتال الإرهابيين الدواعش وغيرهم ممن أراد السوء بكم، واليوم يقومون بواجبهم في حفظ النظام العام؛ فلا ينبغي أن يجدوا منكم إلّا الإحترام والتقدير، ولا تسمحوا للبعض من ذوي الأغراض السيئة بالتغلغل في صفوفكم واستغلال تظاهراتكم بالاعتداء على هؤلاء الأعزة أو على المنشآت الحكومية أو الممتلكات الخاصة)).
وهنا يؤكد الإمام السيستاني الضوابط الملزِمة التالية للمتظاهرين:
1- ممارسة العنف ضد القوات الأمنية، والإضرار بالممتلكات العامة والخاصة، أي ممتلكات الدولة والجماعات والأفراد، إنما هو عمل محرم شرعاً وممنوع قانوناً.
2- ممارسة العنف والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة يفقد التظاهرات شرعيتها الدينية ومشروعيتها القانونية، ويخرجها عن كونها اعتراضات مطلبية حقيقية، ويضعها في خانة التمرد على الضوابط الشرعية والخروج على القانون.
3- ممارسة العنف من قبل المتظاهرين يسمح للدولة بمحاسبتهم وفق القانون.
ثم يذكِّر المرجع الأعلى المتظاهرين بالتوصيفات الإنسانية والقانونية والجهادية للقوات الامنية العراقية:
1- إن منتسبي القوات الأمنية هم أعزّة.
2- إن القوات الامنية في عملها الدفاعي المنفعل إنما يقومون بواجبهم في حفظ النظام العام.
3- إن كثيراً من منتسبي القوات الأمنية شاركوا في الدفاع عن المتظاهرين وعن الشعب العراقي في قتال الإرهابيين الدواعش وغيرهم ممن أراد السوء بهم وبالعراق
وحيال ذلك، يضع المرجع الأعلى المتظاهرين أمام واجبين أخلاقيين وقانونيين:
1- يجب على المتظاهرين إحترام القوات الأمنية وتقديرها.
2- يجب على المتظاهرين عدم السماح لذوي الأغراض السيئة بالتغلغل في صفوفهم واستغلال تظاهراتهم بالاعتداء على القوات الأمنية أو على المنشآت الحكومية أو الممتلكات الخاصة.
واجبات القوات الأمنية
إن محاسبة الدولة للخارجين على القانون لايكون بإلحاق الأذى بهم ميدانياً؛ بل وفق السياقات القانونية، أي عبر القضاء ومحاكمه. وهذا يعني أن القوات الأمنية تمتلك الحق القانوني بإلقاء القبض على الخارجين على القانون، وتقديمهم الى القضاء. ولذلك يذكِّر السيد المرجع القوات الأمنية بواجباتها الشرعية والقانونية المركبة المعقدة تجاه المعترضين السلميين، وتجاه القانون والدولة والممتلكات، خلال عملية الصد والدفاع، بقوله:
((إن التظاهر السلمي بما لا يخلّ بالنظام العام حق كفله الدستور للمواطنين، فعليهم أن يوفّروا الحماية الكاملة للمتظاهرين في الساحات والشوارع المخصصة لحضورهم، ويتفادوا الانجرار إلى الاصطدام بهم، بل يتحلّوا بأقصى درجات ضبط النفس في التعامل معهم، في الوقت الذي يؤدون فيه واجبهم في إطار تطبيق القانون وحفظ النظام العام بعدم السماح بالفوضى والتعدي على المنشآت الحكومية والممتلكات الخاصة)).
وفي فقرة أخرى يوجه الإمام السيستاني القوات الامنية المدافعة نحو واجبها تجاه المتظاهرين:
((نؤكد على القوى الأمنية بأن لا تنسوا بأنّ المتظاهرين إنّما هم آباؤكم واخوانكم وابناؤكم خرجوا يطالبون بحقهم في حياة حرة كريمة ومستقبل لائق لبلدهم وشعبهم فلا تتعاملوا معهم إلا باللطف واللين)).
وتحمِّل الفقرتان المذكورتان القوات الأمنية، ومن ورائها الدولة، خمس مسؤوليات شرعية وقانونية تكمل بعضها:
1- توفير الحماية الكاملة للمتظاهرين السلميين، وتفادي الإنجرار إلى الاصطدام بهم، والتحلّي بأقصى درجات ضبط النفس في التعامل معهم، ولايكون ذلك إلّا باللطف واللين، لأن المتظاهرين هم آباؤكم واخوانكم وابناؤكم، وقد خرجوا يطالبون بحقهم في حياة حرة كريمة ومستقبل لائق لبلدهم وشعبهم.
2- توفير الحماية الكاملة للمتظاهرين السلميين، وتفادي الإنجرار إلى الاصطدام بهم، والتحلّي بأقصى درجات ضبط النفس في التعامل معهم.
3- القيام بالواجب في إطار تطبيق القانون وحفظ النظام العام.
4- تخصيص ساحات وشوارع للتظاهرات.
5- عدم السماح بالفوضى والتعدي على المنشآت الحكومية والممتلكات الخاصة.
وفي الفقرتين 4 و 5، يشير المرجع الأعلى إشارة غير مباشرة الى واجبات المتظاهرين أيضاً، ومنها أن لا يتجاوزوا الساحات والشوارع التي تخصصها لهم الدولة لغرض التظاهر، وأن يتحملوا مسؤولية قيام القوات الأمنية بواجبها في عدم السماح بالفوضى والتعدي على المنشآت الحكومية والممتلكات الخاصة.
مقتضيات الواقع العراقي الخطير
ينتقل الإمام السيستاني الى توصيف الواقع العراقي المعقّد الذي يفرض عليه واجب الدفاع عن العراق وشعبه أمام المخاطر المحدقة بهما، ويحذر من أن عنف المتظاهرين وما يقابله من عنف القوات الأمنية، سيؤديان الى الفوضى والخراب، والى مزيد من التدخلات الخارجية، ويحولان العراق الى ساحة للصراع الدولي والإقليمي:
((تأكيد المرجعية الدينية على ضرورة أن تكون التظاهرات الاحتجاجية سلمية خالية من العنف لا ينطلق فقط من اهتمامها بإبعاد الأذى عن ابنائها المتظاهرين والعناصر الأمنية، بل ينطلق أيضاً من حرصها البالغ على مستقبل هذا البلد الذي يعاني من تعقيدات كثيرة يخشى معها من أن ينزلق بالعنف والعنف المقابل الى الفوضى والخراب، ويفسح ذلك المجال لمزيد من التدخل الخارجي، ويصبح ساحة لتصفية الحسابات بين بعض القوى الدولية والاقليمية)).
مطاليب التظاهرات السلمية
يؤكد المرجع الأعلى بأن الاعتراض العام العراقي السلمي القائم، ينبغي أن يتمظهر بمطاليب واقعية محقّة. ويذكر أهم هذه المطالب المعيشية والإدارية والمالية والقانونية والسياسية؛ ليسد الذرائع أمام المندسين والمسيسين والهادفين لتحقيق مكاسب سياسية وأصحاب الأجندات التخريبية الخارجية، وهي مطاليب تؤدي بالضرورة الى خير جميع العراقيين وأمانهم وقوتهم واستقرارهم ورفاههم وتحقيق العدالة لهم، سواء المواطن أو المجتمع أو الدولة:
((هناك العديد من الإصلاحات التي تتفق عليها كلمة العراقيين، وطالما طالبوا بها، ومن أهمها مكافحة الفساد وإتّباع آليات واضحة وصارمة لملاحقة الفاسدين واسترجاع أموال الشعب منهم، ورعاية العدالة الاجتماعية في توزيع ثروات البلد بإلغاء أو تعديل بعض القوانين التي تمنح امتيازات كبيرة لكبار المسؤولين وأعضاء مجلس النواب ولفئات معينة على حساب سائر أبناء الشعب، واعتماد ضوابط عادلة في التوظيف الحكومي بعيداً عن المحاصصة والمحسوبيات، واتخاذ إجراءات مشددة لحصر السلاح بيد الدولة، والوقوف بحزم أمام التدخلات الخارجية في شؤون البلد، وسنّ قانون منصف للانتخابات يعيد ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية ويرغّبهم في المشاركة فيها)).
وبذلك يذهب الإمام السيستاني الى أن أهم المطاليب التي تدفع المتظاهرين السلميين للإعتراض العام على الدولة، وتعطي هذا الإعتراض هدفيته وشرعيته القانونية، هي:
1- مكافحة الفساد، وإتّباع آليات واضحة وصارمة لملاحقة الفاسدين، واسترجاع أموال الشعب منهم.
2- رعاية العدالة الاجتماعية في توزيع ثروات البلد، عبر إلغاء أو تعديل بعض القوانين التي تمنح امتيازات كبيرة لكبار المسؤولين وأعضاء مجلس النواب ولفئات معينة على حساب سائر أبناء الشعب.
3- اعتماد ضوابط عادلة في التوظيف الحكومي، بعيداً عن المحاصصة والمحسوبيات.
4- اتخاذ إجراءات مشددة لحصر السلاح بيد الدولة.
5- الوقوف بحزم أمام التدخلات الخارجية في شؤون البلد.
6- سنّ قانون منصف للانتخابات يعيد ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية ويرغّبهم في المشاركة فيها.
وينتهي نص المرجع الأعلى بالإشارة الى أن نتائج تحقيقات الحكومة بشأن قتل المتظاهرين والقوات الامنية وتخريب الممتلكات، لم تحقق الهدف المطلوب منها. وهو تأكيد مهم على حساسية الموقف الشرعي من موضوع الدماء والأموال، فيقول:
((إن التقرير المنشور عن نتائج التحقيق فيما شهدته التظاهرات السابقة من اراقة للدماء وتخريب الممتلكات لما لم يحقق الهدف المترقّب منه ولم يكشف عن جميع الحقائق والوقائع بصورة واضحة للرأي العام فمن المهم الآن أن تتشكل هيئة قضائية مستقلة لمتابعة هذا الموضوع)).
هذه إشارة سريعة الى أهم العناوين الفقهية والأخلاقية والتنظيمية التي تضمّنها أحد نصوص الإمام السيستاني في موضوع الإعتراض العام، آملاً أن تتاح الفرصة مستقبلاً لدراسات أشمل وأعمق للموقف الفقهي والفكري والإرشادي للإمام السيستاني في الموضوعات السياسية.
اضف تعليق