وعلى وتيرة التاريخ العربي المعاصر استمرت الخيبة وخسارة الفرصة التاريخية في التحول نحو حياة الحرية ونظام العدالة الاجتماعية، وعاد الربيع خريفا بل تضاعف تدهور الموسم السياسي العربي وفقد العرب دولهم وخرجوا بخفّي حنين من احداث الربيع العربي وخسروا انظمتهم الاستبدادية، هكذا ظن بعض العرب، وأنهم....
كانت اللحظة التي أحرق بها التونسي جسده الثائر، تعبيرا عن احتجاج دائم وغير متوقف على أوضاع الانسان العربي، وللحظة غير موفقة ظن العرب انهم أدركوا الربيع المفقود وتشكلت امكانية التوقف عن الاحتجاج الدائم، فالغاية أدركت وبلغ العرب أملهم في النجاة من الاستبداد والخلاص من ربقة الدكتاتور.
وعلى وتيرة التاريخ العربي المعاصر استمرت الخيبة وخسارة الفرصة التاريخية في التحول نحو حياة الحرية ونظام العدالة الاجتماعية، وعاد الربيع خريفا بل تضاعف تدهور الموسم السياسي العربي وفقد العرب دولهم وخرجوا بخفّي حنين من احداث الربيع العربي وخسروا انظمتهم الاستبدادية، هكذا ظن بعض العرب، وأنهم شعوب لا تصلح الا بالعصا والسوط -أدوات الدكتاتور ووسائله في الحكم- وأن الأفضل في الأنظمة السياسية وفي ظنهم الخاسر أيضا هي الأنظمة الدكتاتورية.
وقد تكونت تلك الفكرة المستهجنة في تصنيفات وتنظيمات الديمقراطيات الحديثة على أثر الفوضى التي اجتاحت البلاد العربية وصعود الشعبويات اليمينية والطائفية في أعقاب السقوط المدوي للدكتاتوريات العربية، والذي في أعقابه او أحد أخطر نتائجه هو سقوط الدول العربية على أثر سقوط أنظمة الحكم فيها، وهي حالة خاصة بالتجربة السياسية العربية حصرا وباعثة على اليأس في النفس العربية من امكانية بناء الدولة مرة أخرى، وهي ابرز سمات الشخصية العربية المعاصرة.
وهو ما يفسر ذلك التراجع على مستوى الابداع الثقافي والحضاري الذي يشجعه في العصر الحديث الايمان بالدولة كلوثياثيان أعظم، بينما نجد العنقاء تنهض من بقايا الرماد والخراب في دول الغرب والشرق في أعقاب الحروب الكونية الأولى والثانية وعادت تتأسس الدول او عادت كما كانت دول تجاوزت أزمة الحروب وتكونت على يد شعوبها ونخبها.
اذا ما الذي افشل الثورات العربية ولماذا عجزت عن إدامة ربيع الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية؟ وهي ثالث تجربة في الخيبة العربية بإزاء ثوراتها.
فالتجربة الأولى كانت الثورة العربية الاولى بزعامة الشريف حسين بن علي في الحجاز في العام 1916م وهدفت الى اقامة دولة عربية حديثة تشمل بلاد الحجاز وسوريا الكبرى، وقد جاء مشروع هذه الدولة نتاج النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي وتأثرا بنشاط الحركة الدستورية التي اجتاحت البلاد العثمانية في العقد الأول من القرن العشرين، وأنها جاءت تلبية لمطالب النخب العربية آنذاك في الاستقلال عن حكم الاتراك، وقد ساندتها تلك النخب القومية وشاركت فيها لاسيما بعض العسكريين العرب من خريجي المدارس العسكرية التركية، وأيدتها الجمعيات العربية التي انتشرت في البلاد العربية في مفتتح القرن العشرين وقبله في بعض منها – راجع الجمعيات القومية العربية وموقفها من الاسلام والمسلمين في القرن الرابع الهجري، د، خالد ابراهيم عبدالله الدبيان، دار المسلم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م –
وقد اتهمت تلك الجمعيات القومية وكل رجال ورؤساء النهضة العربية بالماسونية من قبل الأصوليات السلفية، وأن هذه الجمعيات معادية للإسلام والمسلمين، وقد صدرت تلك الاتهامات وترسخت في الدولة السعودية مهد الأصولية والسلفية في العصر الراهن – المصدر نفسه –.
وكان نصيب هذه الثورة العربية من تلك الاتهامات جاهزا فقد أكدت تلك المصادر على التوافقات واللقاءات بين زعماء الثورة العربية من الأسرة الشريفية وقادة وأعضاء هذه الجمعيات المنعوتة اصوليا بالماسونية والمعادية للإسلام – المصدر نفسه –.
واذا كان هذا التوصيف للثورة العربية الأولى في تاريخ العرب الحديث قد أتى في أدبيات الأصولية السلفية المتأخرة، فإن السلفية المتقدمة والمتمثلة بالحركة الوهابية كانت تشكل النقيض الروحي والفكري لحركة النهضة العربية الأولى وثورتها العربية الحجازية، فالمشروع السلفي الوهابي يقوم على نهج ارتدادي يغذي الحلم الساذج في العودة الى الماضي الذهبي للصحابة الأوائل، وهو حلم ينسجم وسذاجة العقل البدوي الذي لا يجد في آفاق الصحراء الممتدة أمامه إلا شظف التعرب وظمأ الصحراء الى العلم، ويتصحر بذلك هذا العقل الذي أدمن الحرب على كل جديد وعلى كل زمن حاضر تحت وطأة مقولة البدعة والهوس بعصر الصحابة والماضي من زمن الاسلام.
يقول عبد الله القصيمي حين كان منتميا اليهم "ما ارتقت الانسانية في عصر من عصورها ارتقاءها في عصر... يوم ان كانت مقاليد العالم في أيدي أولئك الصحابة والخلفاء" وهو يكذب ارتقاء الانسانية بعد هذا العصر الموهوم – راجع، الثورة الوهابية، عبدالله علي القصيمي، المطبعة الرحمانية / مصر،الطبعة الأولى، السنة 1354هـ 1936 م - وقد وجد ذلك الوهم سبيلا الى أدباء ومفكرين عرب كبار ومنهم الأديب أحمد حسن الزيات إذ يقول "ان العقيدة الخالصة والفطرة السليمة لا تزالان في الحجاز وفي هضبات نجد" وكذلك أخطأ الأستاذ الكبير طه حسين في تقييم الحركة الوهابية بقوله "من المرجو جدا أن يوحد هذا المذهب.. الوهابي.. كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة كما وحد ظهور الاسلام كلمتهم في القرن الأول " – المصدر نفسه –.
وهو جزء من الهوس العربي السلفي والأصولي بالماضي والذي نتج عنه ترك الحاضر لقوى الغرب الصاعد وتمثلاتها في البرجوازية الصناعية والحركة الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وعلى أثرها تراجعت المواجهة التاريخية والتقليدية بين الشرق والغرب على قيادة الحاضر واشتقاقاته الحضارية لصالح الغرب، وكانت تلك اللحظة الأولى في الارتداد العربي والاسلامي والانكفاء عن المواجهة أو المنافسة الحضارية في تلك المنطقة الواقعة على شرق المتوسط والتي ظلت تشكل القوة الفاعلة والمنتجة في معادلة التوازنات الحضارية والدولية بين الشرق والغرب، وبانسحابها الرسمي مع ظهور السلفية والدعوات الماضوية فإنها أفرغت المجال والفضاء الزماني والمكاني الى حضارة ودولة كبرى ناشئة في الشرق وهي دولة الاتحاد السوفياتي، وبذلك تخلت الحضارة العربية الاسلامية عن التحدي السياسي والتنافس الحضاري الذي ظلت قائمة به ولمدة أكثر من أربعة عشر قرنا منذ ظهور الاسلام وحتى سقوط الدولة العثمانية، وهكذا انقضّت السلفية مبكرا على مشروع عربي ربيعي في مفتتح القرن العشرين على يد رواد وقادة الحركة النهضوية والقومية العربية.
لكن استطاعت بعض الدول العربية أن تنجو من أزمة السلفية وان تبني نظامها السياسي والثقافي وفق مقتضيات العصر والحداثة لا سيما في مصر والعراق في ظل أنظمة ملكية دستورية وتجارب ديمقراطية شابها بعض الأخطاء، لكنها كانت تعبر عن ربيع ثان في حياة وتاريخ العرب السياسي الحديث تمثلت في البناء السياسي للدولة العربية الحديثة وفي تحديث الاقتصاد والتعليم والجيش، ولكن تفاجأت تلك الدول والأنظمة بامتدادات ثورية وانفعالية غير مدروسة وغير مخطط لها سواء في الرؤى السياسية التي تبنتها تلك الامتدادات الايديولوجية أو في التغيير الثوري الذي بشرت به ورفعت شعاراته اللامعة.
وأخيرا تمكنت من اسقاط تلك الدول وأنظمتها على أيدي مجموعات من الضباط أطلق عليهم الضباط الأحرار، وهكذا تم تقويض ثاني ربيع عربي بواسطة الدكتاتوريات التي دشنها العصر الجمهوري في تاريخ العرب السياسي الحديث، والذي تقمصت فيه تلك الدكتاتوريات الروح الماضوية وهوية الانتماء في هذه الماضوية العربية في الأيديولوجيات القومية التي كانت منطلقا أساسيا ومبدئيا لدى قادة الانقلابات العسكرية ورؤساء هذه الجمهوريات المبتسرة تاريخيا وسياسيا ومنذ العقد الخامس من القرن العشرين عقد الانقلابات العسكرية في البلاد العربية، وهو ما جعل النظرية القومية العربية تنحو في ايديولوجيا الماضي ذلك المنحى التراجعي الذي التزمت به وسلكته السلفية الدينية ونظرية السلف الصالح الذي رفعته الى مرتبة العصمة والنمذجة الالهية.
ورغم ذلك فإن هذه الأنظمة الجمهورية سعت الى بناء دولها وفق متطلبات العصر والحداثة في المجالات الإدارية والفنية والتكنولوجية، لكنها تأخرت في مجالات الديمقراطية وحقوق الانسان، وبذلك توافقت وأيديولوجيات السلفية الدينية بالإطاحة بالإنسان وتحويله الى مجرد تابع تحركه وتخرسه سيكولوجيا الجماهير أو ما عرف ازدراء بسياسة القطيع الذي انتهجته تلك الأنظمة الدكتاتورية، وكانت تمثل الخريف السلفي القاتم بنسخته القومية في إعادة الدولة العربية الحديثة الى النسق المملوكي الوسيط وترويض الجماهير على مبدا سلفي قديم وهو "سلطان غشوم ولا فتنة تدوم" ومن صور ذلك النسق المملوكي هو تبوء الرئيس الجمهوري منصب القائد العام للقوات المسلحة بشكل تنفيذي ومباشر، ومن صور تلك الماضوية في السياسة الجمهورية في البلاد العربية نظام البيعة وبازدواجية بائسة في نظام انتخابي زائف يحصل بموجبه الرئيس على النسبة المئوية الكلية بالفوز في هذه الانتخابات المشرعنة في ظل غياب تام للديمقراطية وحرية التعبير، فهذا الرئيس الجمهوري هو المرشح الوحيد لمنصب رئيس الجمهورية وبلا منافس في خرق سياسي وقانوني واضح في اللعبة الديمقراطية.
مما دفع الشعوب العربية الى المعارضة ورفع الصوت المطالب بالتغيير وأعلنت عن صميم موقفها بإزاء هذا الخريف السياسي ورفضت سياسات الابتزاز والخديعة التي يمارسها أقطاب الأنظمة الجمهورية العربية من المستبدين والعسكريين الدكتاتوريين، فجاءت ثورات الربيع العربي في بداية العقد الثاني من القرن العشرين وابتدأت باللحظة النارية بإحراق جسد انسان عربي مثقل بمعاناة هذا الانسان وبهموم التاريخ العربي الحديث واحلام المستقبل غير المتوقعة التحقيق في ظل الشرط العربي المعاصر، وهكذا احترقت بقنينة الكيروسين التي سكبها البو عزيزي على نفسه الأنظمة الدكتاتورية العربية واحترقت جمهوريات الخريف العربي التي شغلت النصف الثاني من القرن العشرين على امتداده الزمني حتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
ولقد كانت مفاجأة تلك الثورات طارئة على تصورات العرب شعوبا ونخبا فلم تكن متوقعة في ظل الاحباط والاندحار النفسي الذي تعاني منه الشخصية العربية على أثر الهزائم المتكررة التي منيت بها الذات العربية وعلى مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وكشفت هذه الثورات بنفس الوقت عن هشاشة تلك الانظمة العسكرتارية وهشاشة بنيتها وقواعدها، وكشفت حجم الخديعة التي يعيشها الفكر العربي والنخبوي الذي لم يتمكن من قراءة المستقبل العربي والكشف عن ميكانزمات وأوليات هذه الثورات مما أعجزه عن التخطيط للمستقبل في حالة اندحار الحاضر الدكتاتوري المتشبث بالماضي المستبد بالذات العربية، والذي يشكل مادة الفكر السلفي الجاهزة وآلية التفكير المتبعة لديه، وهو ما غذى من حالة استبداد الخريف السلفي بهذه الذات.
وهنا بدأت ردة الفعل أو انعكاس حركة الفعل في هذا الربيع العربي باتجاه مغاير لما هو مرسوم على مستوى التوقعات والاحلام الشعبية العربية في صعيد هذه الثورات العالقة بالحرية والعدالة الاجتماعية، وليس على مستوى التخطيط الذي لم تحظى به قدرة الفكر العربي والنخبوي، فانبثق الخريف السلفي مجددا وعادت الحركة السلفية وبمختلف اغطيتها الوهابية والاخوانية والجهادية الجامعة لها لتعيد حركة التاريخ نحو الوراء الماضوي وتلجم الحاضر عن التقدم باتجاه المستقبل في محاولة عربية أخرى من هذا النوع في وقائع وأحداث الربيع العربي، وأرغمت الحدث العربي كله على العودة الى الماضي ودفعت به عنوة نحو التقهقر الى عصر السلف بعد ان تمكنت الحركات السلفية الأصولية من تسلم مقاليد الحكم في اعقاب الأنظمة الدكتاتورية، وكان انتخابها وصعودها في دول الربيع العربي من قبل الشعوب العربية تعبيرا عن ازمة فكرية وثقافية تعيشها هذه الشعوب بل وهناك تشكيك بأزمة في الضمير الاخلاقي العربي الذي مهد وساند تلك الحركات السلفية والارهابية.
هكذا تقوض الربيع العربي مرة أخرى أو ثالثة على يد السلفية في العقد الثاني من القرن العشرين بعد ان قوضت تلك الحركة والعقيدة السلفية هذا الربيع الأول في مفتتح القرن العشرين وعلى يد نسختها القومية في أواسط القرن العشرين. وبذلك انقضت ثلاث تجارب عربية حديثة ومعاصرة في امكانات الربيع السياسي العربي بتأثير وخطط الماضوية السلفية أو الخريف السلفي الذي لم يتمكن من الخلاص منه التاريخ العربي الحديث.
اضف تعليق