فوبيا طرْق الأبواب، علامة واحدة من علامات الخوف والرعب التي كنا نعيشها في وجود النظام الدكتاتوري، ولو أننا أردنا أن نعدّد المزيد من أسباب ومشاهد صناعة الفوبيا آنذاك، فهي كثيرة وقد يصعب حصرها أو حصر أنواعها وأساليبها، فالمهم لدى الدكتاتور هو أن يمسخ شخصيتك ويزرع في قلبك الخوف...
الأبواب مفتَتَح يقودنا إلى فضاء معيّن، قد يكون قصرا أو بيتا أو دائرة أو مدينة، وما وراء الأبواب كائنات وأشياء وهواجس ومشاعر مختلفة وتوقّعات وأجواء خاصة، ما وراء هذا الباب يختلف عمّا سواه، خصوصية لا يمكن معرفة تفاصيلها، فهي أشبه بالأسرار، هكذا هي أبواب بيوتنا، تستر خصوصيتنا، وتخفي مشاعرنا، ومخاوفنا ونقمتنا على النظام السياسي الدكتاتوري في العراق.
قد تتسرّب من ذاكرة البعض من الناس فوارق هائلة بين مرحلتين سياسيتين، كثير من سمات الأنظمة السياسية يمكن أن تنعكس على الحياة اليومية لعموم الناس، بالأخص البسطاء منهم، فيمكن أن تكون ساعاتهم وأيامهم خاملة، أو قلقة، أو مصابة بالخوف والشلل، ويمكن أن تكون على العكس من ذلك.
لا تزال الذاكرة الكليّة للعراقيين متخمة بسمات وعلامات النظام الدكتاتوري، ولكن هناك من يحاول أن ينسى أو يتناسى تلك العلامات التي تدل على الرعب والفزع، على الرغم من أنها لا يمكن أنْ تُنسى، لأنها حُفرِت في ضمائر الناس وتاريخهم، بالتوازي مع خزنها في الذاكرة.
من تلك العلامات الشاخصة للنظام الدكتاتوري، محاولاته المعتوهة لاقتحام خصوصيات ما وراء الأبواب المغلقة، فهناك أجهزة متخصصة صنعها الدكتاتور كي تلاحق الناس حتى في الفضاء الخاص بهم، بيتهم، دائرتهم المغلقة على نفسها، يُضاف إليها التجسس والتلصّص والتسمّع، وأفعال أخرى تُحاك في السر لتظهر في العلن أمام الملأ.
ومما كان يخشاه العراقي وخلق له فوبيا مرعبة، الطرْق على الأبواب في مناسبة وفي سواها، فقد تداخلت مناسبات طرق الأبواب مع بعضها، ولم يعد العراقي قادرا على التمييز بين الأليف منها والمخيف!، حتى حين يُطرَق الباب في مُفتَتح النهار تكون هناك ريبة وتوجّس عند أهل الدار، ولا يهدأ من هو داخل البيت حتى يعرف الطارق بعد فتح الباب، وحينها أما يهدأ نبض قلبه وتزول مخاوفه، وأما يحدث العكس.
يقول أحد أصدقائي، على الرغم من أنني أعمل موظّفا في دائرة حكومية، فإن هذا الانتساب الرسمي لم يكن كافيا كي أطمئن لمن يطرق بابي، ويقول مضيفا، لا زالت أذكر ذلك الكابوس الذي كان يهاجمني حتى في يقظتي، الكابوس الذي يمشي معي، ويجلس حين أجلس في مكان ما، وينام معي أينما أنام، ويركب معي سيارة الأجرة، كابوس كان يهدد هدئي واستقراري النفسي.
شاشة ذلك الكابوس كانت تعرض لي ما يلي: وأنا أسير في طريق ما، أو جالسا في مقهى، أو نائما في بيتي، أو راكبا في سيارة، وما أن أنزل منها حتى يهاجمني ثلاثة أفراد قساة، ضخام الأجسام، يمسكون بي، ويلفّون ذراعيَّ إلى الخلف وراء ظهري، ويلبسونني كيسا يفصلني عن ضوء النهار بل يحجبني عن العالم، ويسوقوني بالقوة إلى المجهول.
هذه الفوبيا قلّما تجد عراقيا كان في مأمن منها، وأقساها تلك التي تحدث بعد طرْق الأبواب ليلا، فإذا حصل وتم طرْق بابك في أوائل أو أواسط أو أواخر الليل، فهذا يعني أنك تدخل في دوّامة رعب لا نهاية لها، هل أبالغ في رسم هذه المشاهد؟، قد يقول أحدهم ذلك، لكن لو أنّ الذاكرة الجمعيّة تُسأَل عن فوبيا طرْق الأبواب، وهل هي بهذا الحجم من التخويف، فإن الإجابة ستجيء بنعم.
هذه المشاهد التي باتت اليوم طيّ الماضي والذكريات، لا يجب أن ننساها، ولا يصح أن نمحوها من ذاكرتنا، حتى لا تتكرر مرة أخرى في حياتنا وتحيلها إلى بؤرة من الفوبيا والخوف من المجهول، وحتى نسعى كأناس بسطاء أو متنفذين، أغنياء أو فقراء، نسعى لمنع عودة الدكتاتورية بأقصى ما نمتلكه من ممكنات وقدرات.
يقول بعضهم حتما، وما قدمته لنا (الديمقراطية) ونظامها غير الفساد ونقص الخدمات والألم والتخندقات الطائفية وسواها؟، هنا لابد أن نقول بأن الديمقراطية بكل عيوبها أرحم بكثير من الدكتاتورية، وعلى الرغم من كل أخطائها وانحرافاتها فإن اليوم الذي سيتم فيه الإصلاح قادم حتما، لكن هذا يعتمد علينا نحن.
في المقدمة من ذلك هو أن لا ننسى عقود الحرمان والرعب، وكوابيس الاعتقال العشوائي التي كنّا نتوقع حدوثها في أية لحظة، لدرجة أنّ طرْقة الباب نهارا أو ليلا كانت تحرّك فينا فوبيا زُرعتْ في نفوسنا وقلوبنا بالقوة، هكذا يجب أن نذكّرُ أنفسنا، ونذكّر بعضنا بعضاً، حتى لا ننسى ولا نتناسى لحظات الخوف التي كانت تنام معنا حتى في فراشنا، وتخرج معنا ونحن في طريقنا إلى عملنا أو دوامنا في هذه الدائرة تلك.
فوبيا طرْق الأبواب، علامة واحدة من علامات الخوف والرعب التي كنا نعيشها في وجود النظام الدكتاتوري، ولو أننا أردنا أن نعدّد المزيد من أسباب ومشاهد صناعة الفوبيا آنذاك، فهي كثيرة وقد يصعب حصرها أو حصر أنواعها وأساليبها، فالمهم لدى الدكتاتور هو أن يمسخ شخصيتك ويزرع في قلبك الخوف، حتى يمنعك من تهديد سلطته وعرشه إلى الأبد، ومن الأخطاء الجسيمة التي نرتكبها بحق أنفسنا وأطفالنا أن نتناسى أو ننسى فوبيا طرقْ الأبواب.
اضف تعليق