الثنائية القائمة بين الغرب والشرق الاسلامي منه حصراً تقوم من وجهة نظر فيليس داسيتو على اساس (أبلسة الآخر) وهي وجهة نظر الشرق الاسلامي تجاه الغرب الآخر (والتغني) بالفضيلة الحضارية، وهي ممارسة الغرب تجاه ذاته لكنها ضمنياً تتركب على ازدراء الآخر –الشرق الاسلامي، وهي ثنائية اختزالية من وجهه نظر الكاتب داسيتو، لكنها رغم اختزاليتها وضيق افقها النظري في تقييم الآخر فأنها تعبر عن تكافئ سلبي في تكوين المنظور الخاص بالذات تجاه الآخر، الذي يتحول هذا الاخر الى مجرد موضوع خاضع لإصدار الاحكام والفتاوى، وهو تعبير خطير عن انفصام الذات الانسانية العامة حيث يتحول جزء منها الى ذات والآخر منها الى موضوع مع تبادل متعاقب وانقلاب للادوار.
فكل منا يصدر حكمه وتقييمه ضمن مناخات المخيال الذي ينتمي اليه فكره وثقافته ووعيه الذي يفتقر الى الموضوعي: وهو أحدى أبرز سمات المخيال العام في مجتمعات الغرب والشرق الاسلامي على حد سواء (فابلسة) الآخر في منظور الشرق الاسلامي (وبربرية) الآخر التي تبدو في التغني المغرور بالفضيلة الحضارية في منظور الغرب – المسيحي والعلماني، إنما هو وريث حقب طويلة من الصراع الروحاني الاسلامي في القرون الوسطى، وهو ما تبقى من أرث ثقافي واجتماعي لكل هاتين الدولتين في مجتمعاتها التي رسمت حدود الفصل بينهما صراعات المصالح والاستحواذ على اراضي تمتد على مساحات شاسعة على الحدود بينهما.
وكان هناك الاحساس بالتفوق في التكوين القومي للعناصر المكونة والمؤسسة لكلا الدولتين، اضافة الى الايديولوجية الدينية التي تعتمدهما كلا الدولتين المسيحية – الرومانية والاسلامية – العربية في انبعاثها وانطلاقها من التوسع نحو التكوين الامبراطوري لها.
واذا كانت عوامل الفصل هذه صنعت تلك التطورات الخاصة بمخيال هذه المجتمعات المتناحرة تصورات الابلسة وتصورات البربرة فان وسائل الاتصال في العصر الحديث وتقريب العوالم بعضها من بعض في هذا العصر بفعل الثورة المعلوماتية ومن قبلها حركة المواصلات التي سعت الى التواصل في الجغرافيا – الاجتماعية، إلا انها لم تمح حدود الفصل أو تلغي المسافات الشائكة بين الافكار والتصورات الخاصة بمجتمعات الغرب ومجتمعات الشرق، بل طغت أفكار الابلسة حتى فقست مفارخها عن كل هذه الكراهية تجاه الغرب (الارهاب)، وطغت أفكار البربرة حتى أنتجت كل هذا الكم الهائل من الغاءات الحق الاسلامي (فلسطين) وازدراءات المقدس الاسلامي (الرسوم المسيئة).
ان مفهوم صدام الحضارات هي في أصولها تنتمي الى فكرة بربرية الشعوب الأخرى ذات الجذور الثقافية والتاريخية، واما مقولة نهاية التاريخ – فوكوياما – فأنها تنتمي في جذورها الى مقولة رسالة الرجل الابيض التي بدورها تعبر عن نظرية تفوق الرجل الروماني وهي نوع من التواصل لهذه الديمومة الثقافية في المجتمعات التي تطورت تركيبتها وهويتها الى الصيغة الحديثة في الغرب المعاصر والولايات المتحدة الامريكية، ورغم ان الدراسات العلمية الحديثة تحاول ان تتجاوز لغة التعميمات وتعتبر ان اللجوء اليها هو نوع من المبالغات في تطورات مجتزأة لبعض الوقائع او الحقائق، الا انها تؤكد ان للبعد الحضاري دور مهم في بناء المجموعات البشرية ومن قيام العلاقات الاجتماعية والسياسية بينها – فيلبس داستو- واذا كان الغرب في التحليل الآخر هو غرب متعدد – داستو- وليس غرباً واحدا، الا انه في مارفعه من تحدِ امام الشرق الاسلامي بدا وبقوة غرباً واحداً.
لقد كتبت صحيفة اللوموند الفرنسية عشية العملية الارهابية في نيويورك في 11 ايلول، كتبت وبمانشيت عريض (كلنا صليبيون) وهي ذات العبارة التي نطقها جورج بوش الابن (لقد بدأت الحروب الصليبية) وهي لحظة شعور انتابتهم هو واللوموند بـ (غرب واحد) لكنه اعتذر عنها لاحقاً. لقد بدأ الغرب واحداً وغير متعدد في موقفه من الرسوم المسيئة الى النبي محمد(صلى الله عليه واله وسلم)، بل غرب هو امتداد لرؤية المسيحية في القرون الوسطى تجاه نبي الاسلام، وهو موقف قد تخلى عنه بابا الكنيسة الجديد حين أدان الرسوم والاساءات الى الاديان، واعترض على طريقة تعامل الغرب مع مبدأ حرية الرأي مما أثار حفيظة رئيس وزراء بريطانيا كاميرون واعترض على تصريحات البابا والتي بدا فيها فعلاً غرباً متعدداً او على اقل تقدير محاولة منه في صنع صورة للغرب المتعدد التي يشدد عليها عدد كبير من الباحثين والكاتبين الاجتماعيين وبعض السياسيين.
وبالنتيجة فأنها محاولة تهتم في تجاوز الهوة بين الغرب الواحد ويمتلك الجهوزية في الظهور والتأثير في ازمات وتحديات الشرق الاسلامي.
وبنفس الوقت فان الشرق الاسلامي الواحد يبدوا اكثر فاعلية وحضور في بروزه كمفهوم اسلامي تحدده قضية او مفهوم (الامة الاسلامية) في لحظات المواجهة والتحدي التي يثيرها الغرب في تصور هذا الشرق ومنذ مواجهته المبكرة له في العقود الاولى في القرن العشرين وحتى العقد الاخير في هذا القرن، بعد ان ارتكب صدام حماقته غير المحسوبة بغزو الكويت فارتبك مفهوم الشرق الاسلامي الواحد سواء امام ذاته او امام الاخر الغربي الذي صار قلقاً في مواجهة عالم بدت طبيعته غير مفهومة او معقدة في تناول الباحث الغربي ومن فهم السياسي الغربي.
واذا كان هناك انفصام في الذات الانسانية العامة بين الغرب المسيحي – العلماني وبين الشرق الاسلامي، فان الذات الاسلامية قد تعرضت الى انفصام ذاتي تحول جزء منها الى حاكم سني يتمثل ارادة الكل، لكنه لايعبر بالضرورة عنها وجزء منها محكوم مسلوب الارادة وغير قادر على التعبير عنها، وتتمثل ادوار الاقليات والطوائف المسلمة وغير المسلمة: وهنا بدأ يتحرك مخيال منفصم في الذات الاسلامية وهو يتأسس مشحوناً بالرؤية الطائفية وردة الفعل العنيفة إزاء الطوائف الأخرى.
لكن الأبلسة تجاه الآخر الغربي – المسيحي تتحول هنا في هذا المخيال الاسلامي المتجزء الى مفهوم الردة والخروج على الجماعة (الامة الواحدة) وهو تكفير دوماً يبدأ من السلطة ويستهدف المجتمع ليعود المجتمع يكفّر السلطة من جديد.
وهذا هو اصل التكفير في تركيبته يبدأ من الحاكم ويستهدف المحكوم المسلم وغير المسلم.
واذا كان المخيال الاسلامي يصف الآخر – الغرب بالابلسة، فلانه غير قادر على حكمه فإبليس في الرؤية الاسلامية الدينية متمرد غير خاضع للحكم (ان يراكم هو وقبيله من حيث لاترونهم) ويقابل (التغني بالفضيلة الحضارية) في منازعة الغرب والشرق الاسلامي يقابله تجزئة او اجزاء الذات الاسلامية المتشظية، هو التغني بالنجاة الابدية عبر ايمانها بانطباق فكرة الفرقة الناجية عليها.
واذا كان الغرب المسيحي والشرق الاسلامي قد ورث تكونات المخيال الخاص بكل منهما في الصراع الروماني الاسلامي، فان الشرق الاسلامي قد ورث خلافة التاريخي والذي لعب دورا في تشكيل مخياله المتجزيء عن الخلاف السياسي العثماني – الصفوي، لكن خلافة الديني والثقافي والمؤسس لمخياله المتجزيء عن الخلاف العباسي - العلوي وقد عكست انحيازيات الازهر الشريف وانحيازات الجامعة العربية في مؤتمر القمة الاخير المنعقد في القاهرة صورة بائسة عن عالمنا المنقسم ونفياً بنيوياً لعالم متعدد من ذاتنا الاسلامية ولم نشهد موقفاً مقارباً او مماثلاً لموقف بابا الكنيسة المسيحية في خروجه عن المألوف السائد في تطورات المخيال الذي يقف على مسافة فاصلة بين الواقع والوهم لكن انحيازه الى الوهم هو اكبر. اذاً نحن إزاء عالم منقسم لكن انقسامه معقد واحياناً غير قابل للفهم..
اضف تعليق