فُجِع العراقيون بخبر غرق عبَارة في نهر دجلة عند مدينة الموصل، والعبرة من هذه الحوادث القاتلة هي تقليل من نسبة الموت المجاني، وإذا كانت الحكومات الاتحادية والمحلية لا يعنيها الأمر، فحريّ بالمواطن العراقي أن يتحمّل مسؤوليته في حمايته من أحداث الموت المجاني كعبّارة الموصل.
فُجِع العراقيون بخبر غرق عبَارة في نهر دجلة عند مدينة الموصل، تكدّس على ظهرها أكثر من مئة فرد، ما يعني أنها حملتْ أضعاف العدد المسموح لها بحمله وهو 30 شخصا فقط، تُرى ما هي الأسباب التي حدتْ بمالك العبارة إلى تكديس هذا العدد الهائل من الركاب، وجلّهم من الأطفال والنساء، وكيف يُسمح للعبارة بالتحرك إلى منتصف النهر الهادر بالأمواج العارمة وهي تحمل هذا العدد الكبير!.
أسئلة كثيرة يطرحها هذا الحادث تتوالد منها أسئلة كبيرة، تُرى هل بات العراقي (مالك العبارة) أو غيره من المالكين لوسائل النقل النهري أو البري جشعين إلى هذا الحد، هل هو الجشع الذي دفع إلى تحميل هذا العدد الهائل فوق متنها، ثم هل وصلت اللامبالاة بحياة الناس إلى هذا الحد؟، وهل هم في موجة هجرة عارمة أم في طريقهم إلى التنزّه والتسلية في الغابات الموصلية والجزيرة السياحية؟
وإذا كان الجشع واللامبالاة بحياة العراقيين هو من دفع لتحميل العبارة بأضعاف قدرتها، أين مسؤولية الحكومة المحلية والاتحادية، وخصوصا المسؤولين عن سد الموصل الذي تم فتح بواباته قبل ساعات فارتفع منسوب مياه نهر دجلة بدرجة كبيرة وازدادت سرعة تيار المياه إلى أضعاف سرعته العادية، ثم أين دور (الإنقاذ النهري) ولماذا لم يمنعوا العبارة بحملها المخيف من العودة إلى الساحل؟!.
هذا الحادث المشؤوم لا يتسق مع النص القرآني الذي يؤكد على أن الماء وراء كل شيء حيّ، هذا يعني أن للماء قوة هائلة لإنعاش الحياة وإدامة زخم وجودها، ولكن في حال عدم استخدام الماء بالطرق الأمينة فإنه سوف يتحول من دور الحياة ومنحها للآخرين إلى دور القاتل الذي يسلب حياة الناس عنوة، فالأمر بيد الإنسان المسؤول، يمكنه أن يدعم ويديم حياته بالماء، ويمكنه أيضا أن يجعل منه قاتلا في حال تعمّد أو أهمل التعامل الصحيح من الماء.
إن الخطأ في التعامل مع الماء سوف يجعله قاتلا، وهناك أمثلة عديدة للتعامل الخاطئ مع الماء ليتحول إلى مارد يقطف أرواح الناس بلا رحمة أو يصيبهم بعاهات وأمراض خطيرة، ومن أمثلة التعاطي غير الصحيح مع الماء ما حدث في جنوب العراق في الصيف الماضي، حين تحول الماء إلى سمّ بسبب الملوحة والقذارة حيث أصيب آلاف البصريين بالتسمم بالماء القاتل العبّأ بأملاح قاتلة بدورها، وحين نبحث في الأسباب التي تقف وراء هذه الجريمة، سوف نجد أنّ الأسباب التي وقفت وراء حادث عبارة الموصل هي نفسها وقفت وراء تسمم ومقتل المواطنين!، فالإهمال الحكومي والجشع هما اللذان يقفان وراء ما حدث في مدينتي الموصل والبصرة.
بدأ مسلسل إلقاء المسؤولية على هذه الجهة أو تلك وعلى هذه الشخصية الرسمية أو تلك، لكن النتيجة المستخلَصة لا شيء، بمعنى أن حادث عبارة الموصل سوف يُنسى كغيرة من حوادث الموت مع تقادم الأيام عليه، أما لجان التحقيق المأمور بتشكيلها من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وغيرهم، فإنها سوف تنتهي إلى لا شيء كسابقاتها، وهو أمر اعتاد عليه العراقيون الذين باتت حياتهم لا تعني أحدا من المسؤولين بل وحتى المواطنين فإن حياتهم لا تعني شيئا لهم بشكل متقابل، في حين أن الصحيح هو الشعور التام بالمسؤولية تجاه بعضنا البعض، خصوصا بعد أن ثبت بالفعل المقرون بالدليل أن الجهات الرسمية لا تعبأ بشعبها.
الأمم والشعوب الحيّة هي التي تستفيد من أخطائها الكبرى، ومنها الأخطاء القاتلة كعبّارة الموصل التي راح ضحيتها مئة طفل وامرأة ورجل، أو تسمم مياه البصرة، ولو أننا عدنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء سنوات معدودة، حين قدّم العراقيون مئات الشهداء لاستئصال الإرهاب (داعش وغيره من التنظيمات)، وبحثنا عن أسباب مواجهة هذا التنظيم المتوحش، لعرفنا أن السبب هو حماية أرواح المواطنين من الإرهابيين القتلة، وهنا نتساءل ما الفرق أن يفقد الإنسان حياته بالإرهاب أو بالإهمال والجشع، فقد تعددت الأسباب والموتُ واحدُ، لهذا لا ينبغي أن تذهب أرواح الشهداء الذين حموا وفدوا أرواح العراقيين سدى.
يجب أن نتعلم كيف نحمي أنفسنا من القتل إهمالا أو جشعا، ومثل هذه الأحداث (العبارة، وتسمم مياه البصرة) أمثلة وأحداث يجب أن ندرسها ونحللها جيدا، لكي نحافظ على أرواحنا، نعم مطلوب فتح تحقيقات مع الجناة المسؤولين عن مثل هذه الحوادث القاتلة، نعم على الجهات الحكومية أن تؤدي دورها المسؤول بدقة وإجادة عالية ومخلصة، ولكن هناك ركن مهم أيضا من أركان المسؤولية، يتعلق حصراً بالمواطن نفسه.
ألم يكن هناك رجالا أذكياء على ظهر العبارة، ألم يكن هناك نسوة مدركات ومثقفات، لماذا لم يحذّر هؤلاء من العدد الهائل فوق ظهر العبارة، لماذا لم ينتبه أحدهم للموت المحدق بالأطفال، خصوصا أن منسوب مياه النهر عالٍ على غير العادة، فإذا كان جشع مالك العبارة أعماه عن الموت المحيق بالمحمولين، لماذا لم ينتبه الناس أنفسهم إلى هذا الخطر، والغريب في الأمر السماح (الرسمي) للعبارة بالانطلاق إلى أعماق النهر بحمولتها المجنونة وكأنها تحمل مهاجرين من الموت إليه.
إن الخلاصة التي علينا الوصول إليها، هي الاستفادة من مثل هذه الحوادث القاتلة للتقليل من نسبة الموت المجاني، وإذا كانت الحكومات الاتحادية والمحلية لا يعنيها الأمر، فحريّ بالمواطن العراقي أن يتحمّل مسؤوليته في حمايته من أحداث الموت المجاني كعبّارة الموصل.
اضف تعليق