الأكثر خطورة على الشعب العراقي، ان من يسيطر على هذه المناطق لا يهتم بتطويرها او تشييدها كمدن واقاليم حديثة، انما ينطبق حاله على ما قامت به السلطات العراقية المتعاقبة على مدينة الصدر، فالانظمة لم تغير منها سوى الاسم، وبقيت مدينة شبه فلاحية منذ تاسيسها وحتى الان...
يقول الأمريكي روبرت كابلان أحد الباحثين في كيفية تشكل الخرائط السياسية، انه "ثمة مكان جيد لفهم الحاضر، ولطرح الأسئلة حول المستقبل، وهو اديم الأرض، مع السفر فوقها بأبطأ ما يمكن".
ويقول كابلان أيضا في كتابه انتقام الجغرافيا، "اقنعتني التقارير التي كتبتها على مدى اكثر من ثلاثة عقود باننا جميعا في حاجة الى استعادة ادراكنا للزمان والمكان، الذي ضاع في عصر الطائرة النفاثة وثورة المعلومات".
حديث كابلان يدور عن الجغرافيا التي تكون الدول وتفصلها او تدمجها مع بعضها، يروي كيف تصنع الحدود وتهدم بفعل الحركة السياسية، وتغيرات الأحوال بين الدول، لكنه في حديثه عن الحدود التي تصنعها الديكتاتوريات يؤكد بان الحاضر مهما بدا سرمديا وساحقا فهو زائل لا محالة، اما الشيء الوحيد الثابت فهو موقع شعب ما على الخريطة.
صناعة الجغرافيا
وفي أوقات الاضطرابات تزداد أهمية الخرائط ومع تغير الأرضية السياسية تحت اقدامنا بسرعة فان الخريطة على الرغم من انها ليست محددة فهي تمثل بداية استبصار أي منطق تاريخي حول ما يمكن ان يحدث لاحقا.
يستعرض الكاتب امثلة كثيرة عن التغيرات في الجغرافية والسياسة، وعلى ضوئها تتغير أحوال الدول او تعود الى طبيعتها الاصلية، لكننا نورد هنا امثلة أخرى من العراق، فجغرافية المكان تعبر عن حالة الفوضى واللااستقرار، وارتباط المكان بالسلطة اكثر منه بالشعب.
في ضواحي بغداد يمكن تلمس حالة اللااستقرار، والسيطرة المطلقة للسلطة الحاكمة على خيار الشعب حتى في انتقاء أسماء المكان، فمن يكون الأقوى يحق له ان يختار التسميات، او يغيير جغرافيا المكان كلها.
في البداية كانت تغيرا جغرافيا، عبر استقطاع جزء من اطراف بغداد لاسكان المهاجرين من المحافظات الجنوبية، واغلبهم من المعدمين والفقراء الباحثين عن لقمة العيش، يأتي النظام السياسي الذي يتزعمه في ستينيات القرن الماضي عبد الكريم قاسم ليقوم بتوطين سكان من ريف جنوب العراق في بغداد ومعظم سكانها يرجع أصولهم إلى مدينة العمارة ومدن محافظة ميسان الأخرى في أهوار جنوب العراق.
الانتصار على الخصوم
يربط عبد الكريم قاسم هذا المشروع الاسكاني بايدلوجيته السياسية اذ اطلق عليه اسم "مدينة الثورة"، ولا يزال الكثير يعتبرون ما قام به قاسم إنجازا تاريخيا، لكن وبعد سيطرة حزب البعث، تحول اسم المدينة الى "مدينة صدام"، فيما ولد لها اسم جديد بعد 2003 ارتبط باسم "مدينة الصدر".
تغيرت أسماء المدينة طوال نصف قرن، وهذه التغيرات تعبر عن الصراع السياسي الكبير لتكوين جغرافيا المدن، واستغلالها فيما بعد كنوع من الانتصار الايدلوجي على الخصوم، الا ان حالة المدينة نفسها تبقى ثابتة، فجغرافيا الحرمان والبؤس والفقر تبقى سفة ملازمة للمدينة، بينما يتم ترميمها من حيث التسميات.
صراع أكبر
ليست اطراف بغداد وحدها هي من تعيش التغيرات في الجغرافيا على اثر الصراع السياسي، انما الوضع ينطبق على جميع المدن العراقية، فالسيطرة على المكان تعد انتصارا على الخصم في الأوضاع السياسية غير الثابتة على نسق ايدلوجي محدد، وازداد الوضع تعقيدا بعد عام 2003 حتى تحول الى صراع كبير للاستيلاء على اكبر قدر من الازاحة.
وبالإضافة الى الأحزاب السياسية المتنفذة دخلت الدول الإقليمية والكبرى على خط المواجهة، للسيطرة على مدن كاملة او أقاليم بعينها، كركوك بالنسبة للاكراد، واطراف الموصل بالنسبة الى تركيا، والانبار المناطق الغربية من العراق بالنسبة الى أمريكا، والمحافظات الجنوبية بالنسبة الى ايران.
هذه الخرائط السياسية قابلة للتبدل حسب قوة من يريدها، لكن الأكثر خطورة على الشعب العراقي، ان من يسيطر على هذه المناطق لا يهتم بتطويرها او تشييدها كمدن واقاليم حديثة، انما ينطبق حاله على ما قامت به السلطات العراقية المتعاقبة على مدينة الصدر، فالانظمة لم تغير منها سوى الاسم، وبقيت مدينة شبه فلاحية منذ تاسيسها وحتى الان.
اضف تعليق