شهد التاريخ السياسي الانساني الحديث العديد من الثورات الشعبية المناهضة للظلم، سواء كان هذا الظلم واقعا على الشعب من محتل خارجي أو من نظام سياسي داخلي، وفي كلا الحالتين أثبتت التجربة الانسانية أنه ثمة شروط واضحة تتحكم في قدرة تلك الثورات على تحقيق أهدافها وصولا...
شهد التاريخ السياسي الانساني الحديث العديد من الثورات الشعبية المناهضة للظلم، سواء كان هذا الظلم واقعا على الشعب من محتل خارجي أو من نظام سياسي داخلي، وفي كلا الحالتين أثبتت التجربة الانسانية أنه ثمة شروط واضحة تتحكم في قدرة تلك الثورات على تحقيق أهدافها وصولا إلى لحظة الانتصار، وأهم تلك شروط يمكننا اختصارها في نقاط ثلاث وهي:
تمثل جماهير الثورة الشعبية ديمغرافية وازنة أمام أعدائها قادرة على تغيير نمط وميكانزمات الحياة اليومية الروتينية لمكان الثورة؛ وهنا يفقد أعداء تلك الثورة والممثلين في القوة الحاكمة العمود الفقري لحكمهم بفقدانهم السيطرة والتحكم في ميكانزمات الحياة اليومية للشعب.
تكون تلك الثورة نابعة من إرادة شعبية؛ ومطالبها تمثل كل أفراد الشعب، وان تستند مطالب الثورة بشكل عام بشكل عام إلى مبادئ ثقافية فكرية جمعية واضحة وراسخة في الوجدان الثقافي للشعب.
فرز قيادة للثورة يفوضها الشعب ولا تنوب عنه؛ والمقصود هنا بمعنى التفويض محدد في نقل مطالب الثورة وتمثيل الإرادة الشعبية وليس النيابة عن الشعب في اتخاذ القرار أو التحكم في مجريات الأحداث على الأرض، وذلك لأن أهم سمات الثورة أن يحركها الشارع ولا تتحكم في مجرياتها قيادة متحكمة، مع التأكيد على عدم الممانعة من وجود قادة مؤثرين فكريا في تلك الثورات ولكن يحظر على تلك القيادة التحكم المادي العملي على الأرض.
ضمن هذه الشروط الثلاث انتصرت كل الثورات الشعبية التاريخية الحديثة ابتداءً من الثورة الفرنسية مرورا بثورة الملح الهندية والثورة الإيرانية؛ وكذلك ثورات دول أوروبا الشرقية ضد الشيوعية؛ وفي التاريخ الفلسطيني الحديث ثمة نموذجين من تلك الثورات الشعبية أولهما ثورة 1936 والآخر ثورة الحجارة 1987، ولكن فقدان النموذج الأول لأحد تلك الشروط سالفة الذكر وتحديدا الشرط الثالث أدى إلى احباط تلك الثورة، فثورة 1936 التي كانت ثورة شعبية بامتياز وكانت واضحة المطالب ومطالبها مرتبطة بقضية تمس كل فرد من أبناء الشعب الفلسطيني؛ وكانت نابعة من ثقافة فكرية جمعية راسخة في وجدان الشعب ترفض فكرة الاستيطان اليهودي القسري في الأرض الفلسطينية؛ إلا أنها لم تنجح في بلورة قيادة منها محددة التفويض وكانت النتيجة لذلك أن استطاعت قيادات تقليدية عائلية ذات طابع إقطاعي من تصدر سدة القيادة وأصبح أولئك القادة نواب حقيقيين وليس قادة مفوضين؛ وأصبحوا متحكمين في مجريات الأوضاع على الأرض وهو ما فتح الباب أمام الضغوط على تلك القيادات المتصارعة فيما بينها على الزعامة والقيادة؛ وهو ما حول تلك الثورة إلى هبة جماهيرية سرعان ما تم اضمحلالها وإخمادها بفعل تلك الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية عبر الوساطات والتطمينات التي كانت بالأساس تطمينات عربية لم تستند إلى أي ضمانات فعلية من قوة الاحتلال البريطاني صاحبة القرار الفعلي على الأرض.
والنموذج الفلسطيني الثاني فجسدته الانتفاضة الشعبية التي اندلعت عام 1987 من القرن الماضي، وقد مثلت في حينه نموذج مثاليا متكامل الشروط للثورة الشعبية تحققت فيه الشروط الثلاث سالفة الذكر واستطاعت بلورة قيادة موحدة لها على الأرض، وهو ما أدى لاستمرارها وصمودها لقرابة ست سنوات، وكانت إسرائيل تدور خلالها في حلقة مفرغة بعد استنفاذها لكل وسائل القمع الممكنة لإخمادها؛ وأصبحت أمام معضلة لا حل لها، فهي أمام شعب ثائر وثورته تمثل نموذجا مثالي للثورة الشعبية لا حل لها إلا بتلبية مطالبها؛ وخاصة تلك التي ترتبط بكل فلسطيني ثائر بشكل فردى؛ ومثلت السنوات الست لإسرائيل فترة كافية جدا لدراسة وتحليل الانتفاضة الفلسطينية بعمق لتدرك أن طبيعة ذلك المطلب الفردي المشترك بين الثائرين في شوارع الضفة والقطاع هو إنهاء السيطرة العسكرية للاحتلال على السكان وهو ما كان عبر اتفاق أوسلو الذى مثل طوق النجاة لخروج اسرائيل من أكبر وأخطر تحدي واجهها منذ تأسيسها.
وهنا علينا أن نعترف بالعبقرية السياسية والفكرية لمن رسم الخطوط العريضة لتلك الاتفاق في إسرائيل؛ لأنه لم يمثل حل لمعضلة اسرائيل الأخطر تاريخيا فحسب بل أعطاها حصانة لعدم تكرارها وهو ما كان، ولم ينجح الفلسطينيون إلى يومنا هذا في استعادة نموذج الانتفاضة الأولى باعتباره النموذج المثالي للثورة الشعبية المنتصرة؛ ورغم كل المحاولات والتي كان آخرها مسيرات كسر الحصار؛ والسبب بسيط جدا وهو أن في كل المحاولات الفاشلة كان هناك قيادة وعنوان معروف متحكم على الأرض في ميكانزمات تلك المحاولات الفاشلة والمطالب الجمعية لتلك المحاولات تلاشت شيئا فشيئا مع فشل المحاولات المتكررة لتنحصر من مطالب سياسية إلى انسانية وتخدم سياسيا فصيلا أو تنظيما بعينه؛ وخير شاهد على ذلك المحاولة الأخيرة والمتمثلة في مسيرات (العودة) والتي هي في الحقيقة من أجل كسر الحصار الاقتصادي والسياسي والعسكري عن حركة حماس في قطاع غزة.
وتسعى إسرائيل اليوم لعدم السماح للفلسطينيين من إعادة نموذجهم المثالي للثورة الشعبية المنتصرة؛ وهي اليوم أحرص من أي وقت مضى على استمرار الحالة الفلسطينية المنقسمة وتعزيزها؛ والتي من ضمنها المشهد القائم على حدود وفي داخل غزة؛ وستكون حريصة مستقبلا على إبقاء المشهد على ما هو لأطول فترة ممكنة مستخدمة سياسة العصا والجزرة مع حركة حماس وصولا لانتزاع تنازلات سياسية قاسية منها مستغلة في ذلك عامل الزمن كسلاح ناجع؛ لأن البديل عن ذلك يعنى إسقاط حكم حماس في غزة وهو ما يعنى ببساطة أنها ستدخل في اليوم التالي إلى المعضلة التي واجهتها قبل أكثر من ربع قرن؛ وستصبح مجددا أمام النموذج المثالي المكتمل الشروط للثورة الشعبية المنتصرة.
اضف تعليق