الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يزور قاعدة عين الأسد غرب العراق، يهنيء جنوده بعيد الميلاد ويلتقط صورا، ويعلن بقاءهم في قاعدتهم، كما يؤكد إمكانية سفرهم الى دول أخرى انطلاقا من العراق اذا تطلبت مصالح الولايات المتحدة القيام بمهام عسكرية ضد دول الشرق الأوسط، وفي النهاية يوجه الرئيس تنبيها للعراقيين...
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يزور قاعدة عين الأسد غرب العراق، يهنيء جنوده بعيد الميلاد ويلتقط صورا، ويعلن بقاءهم في قاعدتهم، كما يؤكد إمكانية سفرهم الى دول أخرى انطلاقا من العراق اذا تطلبت مصالح الولايات المتحدة القيام بمهام عسكرية ضد دول الشرق الأوسط، وفي النهاية يوجه الرئيس تنبيها للعراقيين بضرورة دفع تكاليف الوجود الأمريكي في بلادهم.
كل هذا جرى دون ان يعلم به احد، طائرة الرئيس دخلت ليلا، مطفأة الاضواء، إلى جانب حماية جوية كبيرة، مما يشير إلى المخاوف الكبيرة التي رافقت هذه الزيارة، التي استغرقت ما يقارب 3 ساعات، الرئيس يعلق على رحلته البوليسية بقوله: "لم أعش هذه الأجواء من قبل.. كان المكان كله أسود اللون.. كان عليكم أن تمروا من هذه التجربة". ورغم سواد المكان تقول الحكومة العراقية انها تعلم بوجود ضيفها الذي رفضت استقباله في الصحراء.
ليس غريبا ان يقوم ترامب بهذه الحركة، انه يشعر بضغط شديد من الداخل الأمريكي، فالانسحاب من سوريا كان مفاجئة كبيرة، وصدمة للرأي العام والمجتمع السياسي الامريكي، لدرجة ان وزير الدفاع جيمس ماتيس اعلن استقالته، وتبعه مبعوثه للحرب على داعش بريت ماكغورك بتقديم استقالته أيضا، مع اعتراضات من قبل أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، باعتبار ان الطريقة التي تم فيها الانسحاب تعبر عن ضعف الولايات المتحدة الامريكية، وتؤثر على مصالحها الاستراتيجية.
تحويل الانتباه
وبزيارة لقاعدة عين الاسد العسكرية في العراق، يحول ترامب انتباه العيون عن قراره، فقد رد على الانتقادات الداخلية لانسحابه من سويا، وليؤكد لجمهوره وللقيادات الامريكية انه حازم ومهتم بالمصالح الاستراتيجية لبلاده ويقدر تضحيات جنوده في ميادين الشرق الاوسط.
قد لا يكون هذا التفسير كافيا لكن مراجعة قرارات ترامب السابقة تؤكد ما ذهبنا اليه، ففي الوقت الذي قرر الغاء الاتفاق النووي الايراني، وما ترتب عليه من انتقادات شديدة لكونه يدخل أمريكا في حروب لا حاجة لها بها، قام بابرام اتفاق شكلي مع كوريا الشمالية التي وصف زعيمها قبل اشهر بابشع العبارات وجهز له حاملات الطائرات، وبعد الاتفاق اكد ترامب انه رئيس يريد السلام، انشغل العالم باتفاق كوريا بينما مزق بهدوء الاتفاق النووي الايراني. (كوريا لم تتخلى ان اسلحتها، لكن ترامب استغل الاتفاق لتحويل الانتباه عن قراره تجاه ايران).
وفي شهر نيسان من العام الماضي انتقدت وسائل الاعلام الامريكية الرئيس ترامب لكونه يقدم سوريا على طبق لروسيا، وضغطت عليه وعلى جمهوره بشدة، مباشرة وباكثر من مائة صاروخ توماهوك هدأت كل الاصوات وتحول انتباه العالم عيون الرئيس الغاضبة وتعليقاته المتشددة تجاه الرئيس السوري بشارالاسد، واكد في ذلك الوقت ان تقارير وسائل الاعلام كانت تضليلية وكاذبة. (بالنهاية هو قدم سوريا على طبق لروسيا، لكن صواريخه حولت الانتباه عن عملية الالتفاف هذه لا سيما مع تزاحم الاحداث).
الرئيس الأمريكي يطبق مصطلحا سياسيا يطلق عليه اسم "تحويل الانتباه"، جوهر هذا المصطلح هو ان الفاعل السياسي عندما يجد الاثار المترتبة على قضية معينة تصل الى حد خطير وتؤثر على استمرارية الوضع الحالي، يقوم هذا الفاعل بحركة سياسية تعادل تلك الاولى او اكثر منها قوة ليحول انتباه الناس ويبعد النقاش عنها فيقل الضغط وقد تتلاشى مخاطرها نهائيا.
رئيس لا يخجل
الزيارة تمثل احراجا كبيرا للحكومة العراقية وللقوى السياسية التي تدور في الفلك الامريكي والخليجي، او تلك التي اتخذت موقف الحياد من التواجد العسكري الامريكي في العراق، فالرئيس ترامب لم يعطي للبلاد اي قيمة، وقدمها على انها دولة فاشلة بلا حكومة، ولا هو يثق بقادتها، انها لا تزال دولة محتلة ويمكن لقادة الصراع فيها ان يتجولوا بشرط إطفاء الاضواء.
حتى وان قام ترامب بزيارة مشابه لالمانيا لم يلتقي فيها بالمستشارة العجوز انجيلا ميركل، الا ان الوضع العراقي مختلف تماما وغير قابل للمقارنة، نحن نتحدث عن نقاش نشط داخل مجلس النواب العراقي لاخراج القوات الامريكية، بينما يأتي الرئيس ترامب ويزور قواعده دون ان يعلم به احد، هذه هي المفارقة بين الزيارة لألمانيا المتوافقة مع أمريكا والعراق المختلف معها.
وعدم احترام ترامب لحلفائه العراقيين ليس بالجديد، فقد احرج اكثر من مرة حليفته السعودية، اذ جلس مع محمد بن سلمان وهو يمسك ورقة كبيرة يوضح الارباح التي ستجنيها واشنطن من صفقاتها مع الرياض وكانه تاجر، كما قال ان العائلة المالكة السعودية لا يمكنها البقاء لاسبوع واحد دون رعاية امريكية وكرر ذلك خمس مرات، وطالبها بدفع الاموال.
وليس السعودية فقط، انه احرج بلاده وادخلها في تناقض كبير بين ما تدعو اليه من التزامات دولية وبين سياسته المفضوحة والتي جعلت امريكا عارية امام العالم، خرج من اتفاقية باريس للمناخ، وتخلى عن اتفاقيات تجارية مع اقرب حلفاء واشنطن، بطريقة مشابهة لخروجه من اتفاق ايران النووي، وفرض عقوبات على دول بعضها أعضاء في حلف شمال الأطلسي.
نتائج عراقية
زيارة ترامب وطريقته في دخول البلاد تدعم ما ذهبت اليه القوى المقربة من ايران او المتحالفة معها، ويعزز موقفها المطالب بخروج القوات الامريكية، فاذا كانت واشنطن لا تثق بحكومة بغداد، ولا تعطيها ابلاغا بزيارة تحدث داخل اراضيه، فالافضل هو اخراج هذه القوات التي لا تحترم سيادة العراق. ويمكن مراجعة حملة التصريحات المنددة والتي ركزت على صوابية قراراها بمعارضة الوجود العسكري الأمريكي.
التيار المطالب بخروج القوات الامريكية يكتسب اليوم زخما اكبر، وزيارة ترامب تسهل عملية تحشيد الرأي العام ضد الوجود الأمريكي، وتنشط النقاش حول إمكانية جدولة خروج تلك القوات او مواجهتها عسكريا من قبل الفصائل المسلحة.
وبغض النظر عن جدوى الدعوات لاخراج القوات الامريكية، فان الضجة الكبيرة التي احدثتها الزيارة تكشف ان الجهود الأمريكي للسنوات السابقة منذ 2003 وحتى الان لم تنجح، وان العراق لا يزال خارج الفضاء الأمريكي، وهو فشل لا يمكن لزيارة ليلية ان تحله، وربما سنشهد انسحابا مفاجئا شبيها بالذي حدث في سوريا، لان حسابات الرئيس تعتمد على النتائج الملموسة لا سيما وهو يكرر اسفه على خسارة بلاده لسبعة ترليونات دولار على أنشطتها في العراق دون نتيجة تذكر.
اضف تعليق