دأبت بعض الأنظمة السياسية على انتهاج السلفية، بل والتخفي خلفها؛ من أجل تبرير مشاريعها وسياساتها، بل وحتى سلوكياتها منطلقين من جزئية الولاء للحاكم، وهي الجزئية التي حولت تبعية الشعوب للحكام مُسَلَّمة من المُسَلَّمات التي تقترب من الواجبات الشرعية، فلابد من الطاعة غير المشروطة لـ (ولي الأمر)...
هل دار بخلد المستشرق الفرنسي شارل سان برو صاحب كتاب (الإسلام مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب) أن ريادة الإسلام محصورة بالمنهج السلفي؛ سوف تتطور لدرجة الصراع بين أقطاب السلفية أنفسهم؟ وهل توصل أخيراً لـ (تلازمية) الإسلام مع السلفية بحيث صارت متطلبات العصر الحديث وفق رؤيته التلازمية تنحصر بسريالية معاقبة المخالفين بالقنصليات؟!
يناقش شارل سان برو مايسميه "الصور النمطية الخاطئة" لهذا المنهج، والتي يعتقد أنها نتيجة أبعاد سياسية، أو بسبب بعض الاجتهادات الدينية الخاطئة من بعض "المتسلقين عليه". ويستشهد المستشرق الفرنسي بكلام (ابن تيمية) الذي يرى أن الخلافات والنزاعات بين بني البشر سببه "العبارات المبهمة" والتي يختلف معناها بين شخص وآخر. ومن الطبيعي أن شارل سان برو لايعد ابن تيمية من المتسلقين على الفكر السلفي باعتباره من رموز هذا المنهج، وطالما أنه تمثل بمقولة "العبارات المبهمة" التي عدها ابن تيمية سبباً للنزاعات بين الأشخاص، فإنه بذلك يضع ابن تيمية في مصاف الذين تحدثوا بوضوح، بحيث أن ماصدر عنه ليس بالمبهم الذي يساء فهمه فيتحول إلى نزاع أو خلاف.
إذاً لا إبهام في كلام الشيخ السلفي، بل أن إقصاءه لمخالفيه أشد من الوضوح نفسه، ولعله ــ أقصد المستشرق الفرنسي ــ قرأ مثلاً موقفه من الشيعة حين وصفهم بأنهم أشد كفراً من اليهود والنصارى أو المتصوفة، وأن دماءهم وأموالهم مباحة، وأن جهادهم مقدم على جهاد غيرهم.
ترى كيف يفسر مستشرقنا هذا التكفير الذي وصفه بأنه أشد من اليهود والنصارى؟ وكيف يرى أصلاً تكفيره لليهود والمسيحيين؟ ولا سبيل للقول بانه ذهب في مقاصده إلى أشياء لم نفهمها؛ لأنه أصلاً تمثل بكلام ابن تيمية وتحديداً قوله في "العبارات المبهمة" التي تسبب الخلاف والنزاع؟ يبدو أن السيد المستشرق يرى الأمور من زوايا مخيالية خفية، لدرجة اعتبار المنهج السلفي ــ وابن تيمية من رموزه ــ متلازم مع الصورة الناصعة للتسامح الذي جاء به الدين الإسلامي، وهو ما يعاكس العقل والمنطق. نعم، قد نجد عذراً له لو تحدث بشكل عام عن تسامح الدين الإسلامي باعتباره رسالة أكمل الله بها مشروع السماء، لكن حصره هذه القيمة وغيرها من قيم التطور والتنمية بالجزئية السلفية الداعية لتكفير المخالف، واستباحة دمه وأمواله؛ فنعتقد أن حلقة مفقودة في هذا الحصر الغريب.
السلفية السياسية بوابة العنف
دأبت بعض الأنظمة السياسية على انتهاج السلفية، بل والتخفي خلفها؛ من أجل تبرير مشاريعها وسياساتها، بل وحتى سلوكياتها منطلقين من جزئية الولاء للحاكم، وهي الجزئية التي حولت تبعية الشعوب للحكام مُسَلَّمة من المُسَلَّمات التي تقترب من الواجبات الشرعية، فلابد من الطاعة غير المشروطة لـ (ولي الأمر). لكنَّ الذي لم يكن في الحسبان، ومع كل المديات المتسعة لطاعة الشعوب؛ هو أن تتنازع الأنظمة التي تنتهج السلفية سياسياً فيما بينها بعد اصطدام المشاريع، كما في الصراع السياسي بين السعودية وقطر وإن كانت قطر ــ بتبنيها لمنهج الإخوان المسلمين ــ تعتبر السلفية فرعاً من عدة فروع لدعوتها تضيفه لفروع أخرى كالطريقة السُنِّية، والحقيقة الصوفية، والهيأة السياسية، والجماعة الرياضية، والرابطة العلمية والثقافية، والشركة الاقتصادية، وهي الفروع التي حددها زعيم تنظيم الإخوان المسلمين (حسن البنا).
بوادر الصراع بين الرؤية السعودية والقطرية بدأت مع انتعاش حركات الربيع العربي التي دعمتها قطر، وأفرزت صعود أنظمة إخوانية سرعان ماتم الانتفاض على حكمها الذي لم يكن بأفضل من طريقة الحكم التي تنتهجها السعودية السلفية لحد النخاع، حتى مع دعوات الإصلاح المزعومة.
ويبدو أن صراعاً خفياً على زعامة المنطقة الرخوة بانت ملامحه مع صعود نجم ولي العهد السعودي (محمد بن سلمان) الشاب الطامح للزعامة بأي ثمن؛ ليكون بموازاة الأمير القطري الشاب، وكل طرف له لوبياته التي تدعمه، حتى صار الصراع علنياً، وتحول لحملات شديدة الميديا بين أكبر وسيلتين إعلاميتين تدير السعودية إحداها (العربية)، بينما تدير قطر الثانية (الجزيرة)، وكل يدعي وصلاً بليلى (السلفية المعتدلة) البعيدة عن الاعتدال أصلاً في جوهرها الذي يقصي المخالف، ويستبيح دمه وأمواله.
لقد أثبت الصراع بين السعودية وقطر أن السلفية السياسية بوابة للعنف وافتعال الحروب التي تفتك بالمصير البشري، كما هو الحال في حرب اليمن المدمرة، والتي بدأت الدعوات لإيقافها من قبل الدول التي مولت هذه الحرب الحقيرة بكل مسببات استمرارها.
ويبدو أن قطر التي تتخذ السلفية فرعاً أدارت الصراع بشكل أذكى من السعودية المنغمسة بسلفيتها، خصوصاً استثمارها السياسي ــ مدعومةً من الحليف التركي ــ لحادثة القتل البشعة التي استهدفت الصحفي السعودي (جمال خاشقجي) في مبنى قنصلية بلاده في اسطنبول، على أيدي رجال أمن سعوديين، مع تكهنات شبه يقينية بأنهم تلقوا أوامر من ولي العهد بتنفيذ هذه الجريمة. فشتان بين التعامل القطري إعلامياً لهذه القضية، وبين التعامل السعودي الذي بدا مرتبكاً لدرجة الاختباء خلف السلفية التي صدحت بلسان أحد وعاظي السلاطين الذي ربط حادثة اغتيال الصحفي السعودي بقضية تاريخية تعود لحقبة زمنية أقدم فيها خالد بن الوليد على قتل مالك بن نويرة! وكل ذلك من اجل إيجاد المبررات لفعل قبيح ارتكبه الحاكم المدعوم من الرؤية السلفية وفق مفهوم (ولي الأمر)!
وفي حقيقة الأمر، فلا السلفية الكاملة للسعودية تستطيع إقناع العالم بإصلاح أو تجديد، ولا السلفية الفرعية لقطر أو للإخوان المسلمين بصورة عامة أن تفعل ذلك؛ فمظهر المدافع عن حقوق الإنسان الذي يتبناه (الإخوان) من خلال مُدلَّلتهم الاعلامية (الجزيرة) ليس له أن يمحو الصورة البشعة لمقتل رجل الدين المصري (حسن شحاتة) أيام حكم تنظيم الإخوان في مصر. ولو أن هذه الحادثة جاءت في هذه الأيام؛ لرأينا قناة العربية تصيح وتصرخ بحياة (حسن شحاتة)!
الأكيد هو أن السلفيتين السعودية والقطرية تنهلان من منهل عنفي واحد، أما الصراع الحالي؛ فهو صراع سياسي لاأكثر، صراع يقدح السؤال الملح عن مستقبل الفكر السلفي بين انطفاءٍ يؤكده الواقع، وبين تلميع صورة ينشط بإدائها مخيال المستشرقين!
اضف تعليق