q
ويبقى السؤال.. هل ستعود الاهوار كما كانت بمجرد الرغبة في ذلك.. ام ان شحة مياه دجلة والفرات والسدود التي اقامتها تركيا وسوريا لاستثمار المياه التي تنذر بأزمة عالمية ستحول دون عودتها بشكلها القديم؟.. هذا السؤال يراودني كثيراً...

وها أنذا انحدر، مثل غيمة خجولة، انسلت بين أحضان الريح الى الجنوب، لألتحف طين الديار التي كانت وأنام لأحلم، أحلم بألعاب الطفولة والصحاب الذين غابت صورهم خلف عواصف الأعوام!

صغيراً، كنت أمسك بأذيال دشداشة أخي الكبير.. أتوسله ان يأخذني معه الى "الهور".. يمانع أبي ويضع في رأسي صوراً مخيفة! ليردعني، وأصر أنا! ويحاول أخي اقناعي بالعدول عن رغبتي، فأرفض وأواصل اصراري على الذهاب لذلك العالم الرابض بعجائبه عند التخوم القريبة من قريتنا الغافية على خدي أحد شطوط المجر الكبير، وتحديداً شط الخر الصغير، -اسم قريتنا- الذي يتلوى مثل أفعى وديعة، تنسل بهدوء بين الزروع وأشجار النخيل والغرب، لترتمي في أحضان الهور.. الهور، اذن، هو وجهة مشحوف أخي وصاحبه، بعد ان اكملا عدة صيد السمك التي ستكون على مدى ليلة كاملة، سأكون خلالها مثل ارنب صغير اعالج دهشة لما تزل ماثلة في الذاكرة، وحاضرة في أحلام يقظتي، ونومي احياناً!.

كان ذلك مطلع السبعينيات من القرن الماضي، حيث كنت صغيراً، اصغي لاحاديث الأهل عن عجائب الهور، وعوالمه المكتنزة بالغرائب.. "حفيظ" الكنز الذي تحميه جنود من الجن! والقرى العائمة على "جبايش" في اعماق الهور واسماء عدة لأماكن يصعب حصرها، لكل منها حكاية، استحقت ان يتوقف عندها "ثيسغر" الرحالة الانكليزي وكافن يونغ وغيرهما، ليكتبوا عن ذلك العالم، القابع خلف اسراره منذ آلاف السنين.. كان من بين تلك الاسماء التي اقلقت بواكير وعيي، "أبو صخر" الذي تقول الناس انه كان مدينة، عصت أمر الله، فقلب عاليها سافلها، وطمر أهلها تحت انقاضها الماثلة للعيان، لتكون عبرة للمعتبرين!.

مرّ وقت طويل لأعرف ان تلك المدينة الصامتة في عزلتها الطويلة كانت صرة العالم، وعينه المبصرة، باتجاه السماء، حيث علوم الفلك والرياضيات وأسباب الحضارة، التي اندرست مع شواهد "سومر" ممتثلة للمقولة الشهيرة "كل قوي للزمان يلين"!! لكن الذي لم يلن منها او من شواخصها المتمنعة وسط مياه الاهوار واشناتها العالية، هو ما تبقى من تلك الصخور التي يترقرق على حوافها ماء الهور، وتلوذ بين صخورها السفلى الاسماك الهاربة من شباك الصيادين، و"فالاتهم" التي كانت من بين عدة أخي وصاحبه، اللذين جاءا للصيد واصطحبوني معهما في تلك الليلة التي كأني اعيش اجوائها اللحظة، ولو بعد اكثر من خمسة وثلاثين عاماً، لا أدري كيف تناهبتها الاحداث من عمري!

كان القمر مكتملاً، ونحن في المشحوف نتجه في منتصف الليل لـ"نجسّ" أو نفتش الشباك التي نصبت في مكان معين، يمتد نحو كيلو متر أو أكثر بين فترة وأخرى، لغرض تخليص السمك العالق فيها ووضعه في المشحوف كصيد وكذلك للتأكد من وجودها، أو عدم تعرض اللصوص لها، لأن سلطان النوم الذي يستسلم له الصيادون لسويعات بعد العشاء، أو بعد نصب الشباك قد يغري ضعاف النفوس، أو اللصوص المحترفين، بالتسلل للسرقة، وهو ما كان يحصل بين حين وآخر، والصياد الذي تُسرق شباكه، يكون عرضة للتندر ويكون أيضاً خاسراً مرتين!

القمر شاخص في السماء، وغاطس في الماء ايضاً، وسطوح المياه الصافية المائلة للخضرة، المتعرية للأقمار تغدو مثل مرايا تتراقص تحت الضوء، فتبدو أمام المرء كما لو انه يرى القمر للمرة الأولى، أو يكتشف ان له كل هذا الضوء الساطع، ولأقل هكذا رسمت تلك الليلة صورتها في ذهني، والتي لم تتكرر للأسف.

حين مرّ مشحوفنا صباحاً على "أبو صخر" تملكتني رهبة وأنا أرى اطلال المدينة التي "قلبها الله على أهلها العاصين" أمامي وخيل لي بأنهم مازالوا يختنقون تحت الماء والصخور! فيما كانت "حفيظ" كنز الاهوار المسحور في بالي وقتذاك مثلما كانت حاضرة دائماً في أحاديث اهلنا، اذ يقولون ان المكان مملوء باللؤلؤ والذهب وان احداً لم يستطع أخذ شيء منه، لأنه محروس من الجن! ثم تندفع المخيلة الشعبية باضافة ما يعطي حكاية "حفيظ" تشويقاً أكثر، حين يذكر البعض ان احد الشيوخ "فالح بن مجيد الخليفة" وهو من اقطاعيي المجر الكبير، توفي بعد اصابته برصاص "كسرية" خطأ في خمسينيات القرن الماضي، في واقعة شهيرة اثناء ذهابه للصيد في الاهوار على يد احد افراد حاشيته، اذ يذكر البعض ان( فالح) ملأ المشاحيف من لؤلؤ وذهب "حفيظ" لكن صوتاً جاءه بأن يترك الذهب ويعود والاّ، فامتثل للأمر الذي أتاه من مكان ما، وهو صوت لأحد الجن الذين يحرسون "حفيظ"! والحكاية عن هذا المكان لم تنته، اذ يقال ان كل من يتجرأ ويأخذ من كنز "حفيظ" فان مشحوفه لن يتحرك الا بعد ان يرمي ما أخذه، وهكذا غدت حكاية "حفيظ" واحدة من الحكايات الشعبية المشوقة التي دعت مخرج فيلم "الباحثون" السينمائي العراقي، الى التطرق له، من دون معالجة فنية بمستوى الحكاية.

عند اطراف الهور وفي موسم الحصاد، كانت تأتي اشكال عدة من طيور مهاجرة، لتقيم "مهرجانات" في الجو حين تدور على شكل اسراب منتظمة، لتحيل السماء الى قطعة فنية رائعة، مازلت اتذكرها، بل كأني اراها الآن، فيما تغدو تخوم الهور حين يعلو الماء في الربيع مرتعاً لطيور "البجع" الذي نسميه هناك "نعيجة الماي" بمناقيرها الطويلة والمتينة وحناجرها المتهدلة، تطفو اسراباً، في المياه، غير مكترثة بوجودنا قربها لأن الناس لاتؤذيها، كونها لاتؤكل!.

الشيء الذي يسحر الناظر حين يتجول في الاهوار نهاراً، هو منظر الاسماك الصغيرة والمتوسطة، التي تتجول على شكل اسراب باعداد هائلة، ويخيل للناظر ان بمستطاعه الامساك ببعضها بمجرد مد يده نحوها، لكنه سيدرك انها في العمق البعيد، وان صفو المياه جعله يصاب بخداع بصري!

الاهوار عالم مدهش، بكل ما تعنيه الدهشة، وكان من الممكن استغلاله كأحد أهم المعالم السياحية المثقلة بالغريب والجميل، لكن الرياح جرت بما لاتشتهي السفن، واختفت الاهوار، لتختفي صورها التي ستبقى في ذهن كل من رآها..

ويبقى السؤال.. هل ستعود الاهوار كما كانت بمجرد الرغبة في ذلك.. ام ان شحة مياه دجلة والفرات والسدود التي اقامتها تركيا وسوريا لاستثمار المياه التي تنذر بأزمة عالمية ستحول دون عودتها بشكلها القديم؟.. هذا السؤال يراودني كثيراً وكلما جرى الحديث عن الاهوار، واتذكر ما كان ينقله اهلي عن "الانكريزي" الذي كان يقول لهم، "اليوم جمس وباجر جمل" ويقصد ان مصير الاهوار التي تتجول فيها قطعان الجاموس، سيأتيها يوم لتغدو ارضاً يابسة يمشي فيها البعير!..

فهل كانت تلك نبوءة شؤم، ام انها قراءة مستقبلية لواقع الاهوار، التي وقف يوماً، أحد "المجانين" هناك ايضاً، وراح يحدث الناس عن القمح الذي يراه مزروعاً في الاهوار، وسط ضحكات الناس، وسخريتهم، مما يراه والذي تحقق بعد نحو اقل من نصف قرن، حيث زرعت الناس القمح في أرض الهور ايام الحصار بعد ان جفت وغدت أرضاً يابسة؟!!

لقد هدأ ضجيج الرصاص في الاهوار، والذي كان سبباً وراء تجفيفها، فهل ستهدأ الضجة حول اعادتها بعد ان تعود فعلاً، ويعود غناء العشاق في "الكواهين" ليوقظ في بقايا آثار سومر شجن الجنوب الممتد، منذ آلاف السنين، او منذ او توارى "دموزي" في العالم السفي، ليحيل اغانينا نواحاً ازلياً، صار العالم يرى "دموزي" و"عشتار" وحكايتهما الشهيرة، فينا، كلما سمعوا صوتاً مطوحاً يأتي من تلك البقاع، يضج من صدورنا المجبولة من شجن.

...................................................................................................
* الآراء الورادة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق