طالما مثلت ظاهرة الاحتجاج الشعبي في العراق فعلا مميزا خلال السنوات الأخيرة، حيث ترتفع الهتافات ضد السلطات الحاكمة لعجزها عن القيام بواجبها تجاه المواطن، وبينما تحصل التظاهرات على زخم شعبي واعلامي واسع يرفعها الى قمة الحراك الاجتماعي، تنحدر في دوامة من العنف سواء منها او من قوات الامن او كليهما، لتسحب هذه الممارسات فعل التظاهرات السلمية الى المنطقة الحرام التي لا يريد أي مواطن ان يدخلها كونه امتلأ حروبا وقتلا وتشريدا...
طالما مثلت ظاهرة الاحتجاج الشعبي في العراق فعلا مميزا خلال السنوات الأخيرة، حيث ترتفع الهتافات ضد السلطات الحاكمة لعجزها عن القيام بواجبها تجاه المواطن، وبينما تحصل التظاهرات على زخم شعبي واعلامي واسع يرفعها الى قمة الحراك الاجتماعي، تنحدر في دوامة من العنف سواء منها او من قوات الامن او كليهما، لتسحب هذه الممارسات فعل التظاهرات السلمية الى المنطقة الحرام التي لا يريد أي مواطن ان يدخلها كونه امتلأ حروبا وقتلا وتشريدا.
يركز النقاش في أساسه على مشروعية المطالب الشعبية أولاً، ومشروعية استخدام العنف ثانياً، باعتباره دفاع عن ذلك الحق، لكن الجدل العقيم يُحشَر في زاوية ميتة عندما تتسارع وتيرة الاحداث وتتغلب عواطف الجمهور على واقعية المعالجات وضرورات التعامل السليم مع السلطات الحاكمة التي تجيد فن التلاعب بالناس من اجل ضمان استمرارية سلطتها.
ولتفسير الظاهرة يقدم لنا كتاب "شبكات الغضب والامل" لاستاذ الاتصال والمجتمع مانويل كاستلز، يقدم رؤية مميزة من خلال تتبعه لحركة الاحتجاجات الشعبية في البلدان العربية وغير العربية، والتي تنشأ في ظل شبكات التواصل الاجتماعي، اذ يرى كاستلز ان الشبكات الاجتماعية الرقمية تتيح إمكانية تداول النشاط الاحتجاجي وتنسيقه دون قيود، لكن هذه الجماعات التي تحتج على السلطة الحاكمة بحاجة الى تكوين جماعة حرة في الحيز الحضري، أي انها تقوم باحتلال بعض الأماكن الحضرية والمباني لتشكل سلطة رمزية لها، وهذه المساحات المحتلة غالبا ما تكون مشحونة بالسلطة الرمزية خاصة تلك التي تثير ذكريات من الانتفاضات الشعبية التي عبرت عن إرادة المواطنين. في حين ان ذلك يمثل تقليصا للنخب التقليدية المسيطرة.
حدود السلم والحرب
وعندما يجري تحدي أجهزة الدولة في سلطتها فانها تتصرف وفق قواعدها سواء كانت ديمقراطية ام ديكتاتورية، ام مزيجا من الاثنين، وعندما تفشل في إيجاد مخرج من التحديات التي تواجهها، تلجأ السلطة الحاكمة الى جوهرها المطلق، أي احتكار العنف في مجال عملها، وفي هذا الوضع فان ثبات الحركات الاجتماعية وحفاظها على استمرارية الضغط بغض النظر عن عنف الدولة، يمكنها ان تحسم نتيجة الصراع لصالحها او تخسره اذا ما استسلمت في الخطوات الأولى.
لكن المشكلة التي تواجه الحركة الاجتماعية _بحسب كاستلز_ انها تفقد طابعها كحركة ديمقراطية مجرد ان تدخل في مسألة عنف عسكري، لتصبح نداً، واحياناً لا ترحم المختلفين معها، كما القامعين لها. ويمكن ان تنزلق الى حرب أهلية وتوفر فرصة تستفيد منها القوى الفاعلة لزيادة ممتلكاتها، تحت أي عباءة ايدلوجية، عندما يميل منافسوهم الى الاستفادة من فراغ السلطة التي تظهر في اعقاب انهيار النظام. بمعنى اخر فان تحول الحركة الاجتماعية الى حرب أهلية يجعلها تنفذ حكم الإعدام لنفسها بنفسها، من خلال تنازلها عن مثلها العليا في السلام والديمقراطية والعدالة لصالح العنف.
ان عجز الحركات الاجتماعية الاصلية في التغلب على عنف الدولة، ومحاولتها التالية الانخراط في النوع ذاته من العنف ينتهيان عادة الى دمار الحركة ذاتها، ويرى كاستلز انه يولد تبريرا لمزيد من العنف، وفي مثل هذه الأوضاع فان الفاعلين القادرين على ممارسة اعلى مستويات العنف هم المنتصرونسواء كانوا فاعلين دولتيين او غير دولتيين.
اما الشعب عموما فهو الخاسر الكبير في مثل هذه الأحوال، وهذا يعني ان الحركات الاجتماعية اذ تواجه عنفا لا هوادة فيه يكون عليها ان تجد سبلا تحول دون انخراطها في هذا المنطق التدميري لانها لا تستطيع ان تفوز ابدا في المواجهة، وربما لا تجد الحركات الاجتماعية مفرا من الانجرار الى دوامة العنف، لكن ذلك سيؤدي بها الى أسوأ نوع ممكن من أنواع الموت. وفي بعض الأحيان تكون الشجاعة القصوى هي الرد على الحرب بالسلام، املا في كسب عقول المواطنين في البلد.
اضف تعليق