وجاءت نظرية التطور الداروينية في نسختها الاجتماعية لتبرر الحرب من اجل البقاء للأصلح الذي تحول في هذه النسخة الى الأقوى ونتج عنها كراهية العنصر البشري الأضعف، وهو ما أنتج تلك السياسة المقننة للتمييز العنصري في الغرب واستثمار أفكار التطور لغرض تبريرها فأنتجت مزيدا من الكراهية...
ينبني تراث العالم القديم على الكراهية في جزء كبير منه ومؤثر بقوة فيه، وكانت ثنائية الكفر والايمان تؤسس لهذه الكراهية أو تبرر لها في قاموس السياسة وثقافة الحضارات والدول في العصور الوسطى، وكانت كلها تتشارك في هذا المبدأ وتجد فيه مبررا قانونيا واخلاقيا في اعلان الحرب بعضها على البعض، وهي في صميمها أو هدفها فرصة تمنحها الدول الكبرى آنذاك لسياساتها وخططها من اجل توسيع املاكها وزيادة مساحة أراضيها التي تستولي عليها بواسطة الحرب المؤسس لها والباعث لها في الكراهية المصممة وفق استراتيجيات الفتح المخطط لها وعمليات التوسع التي كانت تستحوذ على الانهمام السياسي للدول الكبرى الوسيطة. والحقيقة التاريخية الصادمة لو استثنينا الكراهية...هل كان للتاريخ القديم والوسيط وجهته وصورته ووقائعه المعهودة؟ أم أن التاريخ سيأخذ منحى آخر هو مسارات الأنبياء والرسل المبشرين بالمحبة الإلهية؟.
على أي حال ما وصلنا من هذا التاريخ أو ما أوصلنا اليه هو ذلك الحيز من الظواهر المؤسسة على الكراهية في ذلك العالم القديم والوسيط.
لكن آثاره لم يتخلص منها العالم الحديث رغم محاولاته الفكرية والقانونية في تجفيف منابع الكراهية ومداركها الثقافية والاجتماعية لكنها انبثت عبر قنوات أخرى مما يؤشر ذلك الجزء الكامن من الكراهية في حياة وتاريخ البشر ليتحول الى منابع للأصولية سواء في نسختها الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية.
لقد جاءت نظريات الصراع ونظريات التطور في العالم الحديث لتؤكد هذه الواقعة بشكل ضمني في مناهجها ومن ثم تأصيلها في تاريخ البشر.
فالصراعات التي شهدت لها تفسيرا معرفيا في هذه النظريات وتبريرا تاريخيا كرست عوامل الكراهية بين فئات وطبقات المجتمع سواء المجتمع الواحد او بين المجتمعات المتعددة وأحالتها الى حقائق تاريخية، وقد تمكنت تلك الفئات والطبقات والمجتمعات من استساغة هذه الكراهية وتبريرها وفق هذه النظريات مما دفعت الى المزيد من الحروب والقتل والدمار.
وجاءت نظرية التطور الداروينية في نسختها الاجتماعية لتبرر الحرب من اجل البقاء للأصلح الذي تحول في هذه النسخة الى الأقوى ونتج عنها كراهية العنصر البشري الأضعف، وهو ما أنتج تلك السياسة المقننة للتمييز العنصري في الغرب واستثمار أفكار التطور لغرض تبريرها فأنتجت مزيدا من الكراهية للعنصر البشري الأضعف وهو يشمل السود والملونين والأفارقة والاسيويين باعتبارهم يعانون من نقص بيولوجي – طبيعي لا يؤهلهم للبقاء، وكانت النازية والفاشية تؤمن بالدلالة العلمية في نظرياتها القائمة على التمييز والكراهية وقد نتج عن تلك المشاعر المعبأة بالوهم وخرافة الدماء النقية والعرقية المتعالية ذلك الخراب والدمار والقتل الجماعي وغير المبرر حتى في منطق الحروب القديمة وهو ما حدث في الحرب العالمية الثانية.
لقد استعاض العالم الحديث بثنائية العرقية المتضادة في الدماء النقية والدماء الخليطة عن ثنائية العالم الوسيط في الثنائية المتضادة في الايمان والكفر، وكان العالم الحديث في تمييزه العنصري والعرقي يعود الى مفاهيم العالم القديم في ايمانه بتراتبية ومستويات الدماء التي تعود الى الأصول الفرعونية – المصرية وقد عبرت عنها لدى الفراعنة القدامى ظاهرة الزواج من الأخوات بالنسبة الى ملوك وأسر الفراعنة من أجل المحافظة على نقاء الدماء الإلهية المزعومة.
وأن حالات الازدراء التي تنشأ عن هذا التمييز في الدماء وتنتج عنها الكراهية في توثيقاتها التاريخية انما تهدف الى بقاء السلطة والقوة بأيدي الطبقة الحاكمة والفئة المتسلطة وأن اختيارها للسلطة قدر طبيعي واستثنائي، وتشكل الكراهية المتبادلة لازمة طبيعية أخرى في هذه المعادلة التي تكرس وجودها من أجل السلطة.
مما يكشف عن ترويج متعمد ومقصود لمبادئ الكراهية سواء في التاريخ القديم أو التاريخ الحديث، ويكشف في التاريخ الحديث عن إصرار سياسي – اجتماعي متعمد في ادامة هذا التوظيف من أجل ضمان المصالح واضعاف الخصم بتحميله مسؤولية عدم قدرته على التطور والاستجابة الى متغيرات العصر ويستمد منه ثقافيا مفهوم الازدراء ذي البعد الأيديولوجي للآخر، فالازدراء حالة تنشأ في الفكر لكنها تنتج الكراهية في القلب فالكراهية شعور سلبي يستوطن القلب والمشاعر وقابل للإدامة والتوريث أو كما يقول شوبنهاور "الكراهية تنبع من القلب والاحتقار من العقل وكلاهما خارج الإرادة" وهنا مكمن الخطر فيها حين تخرج عن ارادتنا وهو ما يكفل لها الادامة والتوريث الثقافي والاجتماعي.
وإذا كان العالم القديم يعيش حالة الانفصال بين الأمم والشعوب أو التواصل بشكل نسبي فان العالم الحديث يعيش حالة التواصل المستمر والاتصال الدائم مما يمهد الى الاحتكاك غير المنقطع بين الأعراق والثقافات، وهو احتكاك يتحول بفعل الكراهية الموروثة الى التوتر المستمر في العلاقة نتيجة التمايزات العرقية والثقافية، وكان للتواصل المستمر في العالم الحديث لاسيما من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أثره البالغ في نشر الكراهية عبر نقاط الاحتكاك المباشر – المرئي والمسموع التي توفرها تلك المواقع الالكترونية وبالتالي فإنها تضع خارطة من الكراهية تغزو العالم وتهيمن عليه لاسيما عالمنا العربي والإسلامي التي وفرت له تلك المواقع وشبكات التواصل والقنوات الفضائية خطوطا لبعث كل ما يحتويه التراث في عالمنا القديم من الكراهية المبنية على ثنائية الكفر والايمان وأضافت لها الوقائع ثنائية التمييز المبنية على العرق والضد النوعي له، وهو ما أسهم الى حد كبير وبالغ في تعريض الهوية الإسلامية الى خطر التمزيق الطائفي ثم توغل في خطورته الى تمزيق الوطن وتفتيت الهوية الوطنية.
لقد كانت أكثر مناطق ودول العالم الحديث استهدافا وعملا للكراهية ونشرها هي المنطقة والدول العربية، فهذه المنطقة التي تعيش على موروثات الثقافة القديمة حيث لازال الفعل العاطفي لتاريخها القديم مستمر في حركتها أو في تحريكها وزيادة توترها وبناء صورة الآخر وفق ذلك النمط في ثنائية الثقافة القديمة التي تتوزع على ثنائيات منها خارجية وهي تشمل تصنيفات دار الإسلام ودار الكفر أو دار الإسلام ودار الحرب، وثنائيات داخلية تتوزع على تضادات المسلم والخارجي والسني والرافضي والمرتد وأهل السنة والجماعة والمخالفين من الفرق، وتؤشر الحالة الرسمية في كتب الفرق والملل والنحل أنها لا تطلق اسم المذهب على هذه الفرق من أهل الإسلام وهو تأسيس لنبذها وكراهيتها، وهناك ثنائية المسلم والكافر وبثنائية الكافر الى كتابي وذمي في ظل الدولة الإسلامية – التاريخية لاسيما بعد ان انتهى عصر الكافر الأصلي وهو الكافر الوثني.
وتتشارك كل مذاهب المسلمين وفرقهم في نبذ الآخر المختلف وتصنيفه ضمن الآخر غير المقبول والمنبوذ دينيا واجتماعيا، وهو ما يؤسس في تبرير كراهيته وكأنها لا تعهد أو لم تقرأ قول علي ابن أبي طالب "الناس صنفان اما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
وتلك النظرة المتبادلة والحاكمة في العلاقة بالآخر والتي ظلت عالقة في ذاكرتنا الاسلامية هي التي أورثت الكراهية المذهبية ومن ثم الطائفية التي أنتجتها وبامتياز فترسخت الكراهية شعورا سلبيا و مضادا ومتبادلا داخليا، ومكمن الخطر فيها انها تتحول الى مغذ دائم للمشاعر تجاه مفردات الحياة وتجاه أشياء العالم وتورث ذلك الإحباط المستمر والدفع به نحو الانتحار فيما يعرف بالعمليات "الاستشهادية" الانتحارية في سياسات وعمل الكراهية وهي نتاج جفاف بذرة الحب ونماءها في الحياة واختفاء السلام الداخلي تجاه العالم الذي لا تعد الكراهية منفذا له مقبولا أو مأوى يتضمنه ويحتفظ به.
وتكرس أدبيات الكراهية الطائفية والعرقية تلك النزعة في مجتمعاتها وانتقالاتها المستمرة نحو الداخل الطائفي والعرقي بشكل ارتدادي وانعكاسي يجعل الذات الاجتماعية للطائفة والعرق هي المستهدفة بالكراهية بين أفرادها وفئاتها، ونجد مكامنها في توجيه المصالح السياسية لها وتغذيتها من خلال الصراعات السياسية والمحاججات الحزبية حول هذه المصالح ذات الأفق الضيق والمعيار الأكثر ضررا بالهوية الوطنية، وهو ما تؤكده الخبرة الاجتماعية والتاريخية حول مسؤولية السياسة عن الكراهية وتوظيف الدين في منحى السياسة هو الأكثر مسؤولية في غرس الكراهية ونشرها.
اضف تعليق