الحقوق الثقافية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان التي هي حقوق عالمية ومتلازمة ومتكافلة. ويقتضي ازدهار التنوع المبدع الإعمال الكامل للحقوق الثقافية كما حُددت في المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي المادتين 13 و 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبناء على ذلك ينبغي أن يتمتع كل شخص بالقدرة على التعبير عن نفسه وإبداع أعماله ونشرها باللغة التي يختارها...
من علامات النضوج الفكري في المجتمع لازمة الاحترام المتبادَل للآراء وتنوع الرؤى بما يحفظ حق الخيار الفكري والثقافي للأقليات وللمكونات المجتمعية كافة، فلا يصح لمكون ما في مجتمع ما أن يفرض بالقوة أفكاره وآراءه على الآخرين، بل تبقى الساحة مفتوحة للرأي والفكر ويبقى الإقناع سيد الموقف، لكن هناك بعض الاشتراطات المتَّفق عليها بين الجميع وأولها وأهمها عدم تجاوز الحدود المسموح بها مجتمعيا وأخلاقيا للحريات، والكف عن الإساءة للآخرين وعقائدهم وأفكارهم.
ومع تنوّع الحقوق وتعدد أشكالها، وتدرّج أولوياتها وأهميتها، لكن احترام الهوية الثقافية تندرج ضمن الحقوق المهمة التي ينبغي أن يتم احترامها وعدم المساس بها، إلا في حال أنها شكّلت خطرا على الفرد والمجتمع، فالفكر المتطرف والتكفيري مثلا غير مشمول بـ (الاحترام) وأحقية الترويج وما شابه، لسبب بيّن أنه يشكل خطرا على الجميع بما فيهم الذين يتبنون هذا الفكر، ولكن عندما تكون الثقافات مجارية للقيم والأخلاق والفطرة، فإن حصانتها مضمونة ومكفولة، فكما هو معروف أن حقوق الإنسان تتوزع على ميادين متعددة، سياسية اجتماعية فكرية وغيرها، كلها كفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتعد الحقوق الثقافية من الأمور الأساسية في حياة الإنسان، لاسيما التنوع الثقافي والتشجيع على نشر الانسجام بين الثقافات المتعددة، حتى لو انضوت تحت مظلة نسيج اجتماعي واحد، وهي حالة شائعة يمكن ملاحظتها في معظم المجتمعات والدول التي تتميز بتداخل الثقافات وتنوعها، لذلك سعت الأمم المتحدة بالتعاون مع منظمة اليونسكو على تحديد يوم سنوي يحتفل فيه العالم أجمع بـ التنوع الثقافي لأهميته في تطوير العلاقات الإنسانية، وتعميق وترسيخ الاحترام المتبادل بين الثقافات، باستثناء ما يثبت بأنه يشكل إساءة أو خطرا على الفرد والإنسانية كالفكر التكفيري المتطرف الذي أشرنا إليه مسبقا.
الحق الثقافي من حقوق الإنسان
فلا يصح أن توضع محددات أو عوائق أمام الحريات الفكرية الثقافية، وتأسيسا على ذلك، يبقى من حق الفرد أن يطرح أفكاره بغض النظر عن الثقافة التي يؤمن بها أو ينتمي إليها، على أن لا ينطوي ذلك على مساس بحريات الآخرين وخياراتهم الثقافية، وللفرد أن ينشر ما يؤمن به بأية لغة يختارها، لاسيما اللغة الأم، كما تنص المادة خامسا من إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي التي تؤكد على أن: (الحقوق الثقافية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان التي هي حقوق عالمية ومتلازمة ومتكافلة. ويقتضي ازدهار التنوع المبدع الإعمال الكامل للحقوق الثقافية كما حُددت في المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي المادتين 13 و 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبناء على ذلك ينبغي أن يتمتع كل شخص بالقدرة على التعبير عن نفسه وإبداع أعماله ونشرها باللغة التي يختارها، وخاصة بلغته الأصلية)، وهذا يؤكد عدم أحقية قمع الثقافة أو الفكر عندما يكون في الإطار الإنساني الذي لا يتجاوز حدوده إلى الإساءة أو الأذى.
في العراق مثلا هنالك تنوع ثقافي، وهنالك أقليات لها هوياتها التي تعتز بها، فهل يصح قمع هذه الأقليات وتذويب هوياتها الشخصية وخصوصياتها؟، وقد مورست مثل هذه التحديدات تحت حجج كثيرة، منها وأبرزها توحيد الهوية المجتمعية وإلغاء الهويات الفرعية، وهي دعوى باطلة ولا تمت للمنطق بصلة، فالاندماج المجتمعي لا يعني معاداة الأقليات وتهميش أفكارهم وتذويبهم بالهوية الأكبر، إما يبقى على هويته الخاصة مع إيمانه وانتمائه القويم للهوية الأم أو الأكبر، كما يحدث في العديد من المجتمعات المتقدمة التي لا تمس الهوية الفرعية في أي حال.
حق الإنسان في التعليم والتدريب
وقد أكد مختصون أن التنوع الفكري والثقافي يصب في صالح الجميع، ولا يمكن لاختلاف الآراء والأفكار أن يسبب أذى نسيجيا للمجتمع، فقد لوحظَ أن التجمعات الاجتماعية المتنوعة في ثقافاتها، تتسم برؤى سليمة ومتنوعة من حيث أساليب التفكير وأنماط الحياة، فكلما تنوعت الثقافات في المجتمع الواحد، كلما أصبح أكثر قدرة على الإبداع والتطور، وهنا يظهر دور الدولة ونظامها السياسي بجلاء، حيث الإسهام الفاعل في تعميق النهج الفكري الثقافي المتحرر بين الجميع، وفق ضوابط تأخذ مضامينها وتحديداتها من أصول الثقافات ومشتركاتها الكثيرة، لذا تحرص الحكومات الديمقراطية على حماية الحقوق الثقافية للفرد، وتدعمها على نحو متواصل، وهذا ما أكده أيضا إعلان اليونسكو الذي سبق ذكره، كما نقرأ في النص التالي: (لكل شخص الحق في تعليم وتدريب جيدين يحترمان هويته الثقافية احتراما كاملا. وينبغي أن يتمتع كل شخص بالقدرة على المشاركة في الحياة الثقافية التي يختارها وأن يمارس تقاليده الثقافية الخاصة، في الحدود التي يفرضها احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية)، لذلك حين يتم التشجيع على تقارب الثقافات، فإن ذلك يؤكد حاجة العالم أجمع إلى نشر القيم المشجعة للتنوع، ولن يتم ذلك من دون جهد كبير ومنظَّم على نحو جيد، تمثله جهود حكومات تربط بين التنمية والثقافة معا، فكلاهما يدعم الطرف الآخر، وينشر الوعي الفردي والجمعي في آن، وغالبا ما يكون اليوم العالمي للتنوع الثقافي منطلقا لمبادرات تصب في تعميق القيم الثقافية التي تقبل بالآخر ولا تلغيه، لذلك تؤكد منظمة اليونسكو في هذا المجال على أن يوم التنوع الثقافي يعد فرصة من أجل تعميق مفهومنا لقيم التنوع الثقافي ويعلمنا أيضاً كيف "نعيش سوياً" بشكل أفضل، في ظل احترام الأقليات وحماية والكف عن المضايقات التي تصدر ضدها هنا وهناك.
علما أن حرية الفكر وتطور الثقافات يؤدي بالنتيجة إلى إطلاق التنمية بكل مسمياتها وأشكالها، فنحصل على فرد متنور متطور يصلح أن يكون لبنة لبناء مجتمع متنور نازع إلى التحديث والمعاصرة التي تستمد حيثياتها من الأصالة، لذلك تواصل اليونسكو الترويج لزيادة الوعي حول طبيعة العلاقة الماسة والضرورية بين الثقافة والتنمية وأهمية الدور الذي يجب أن تلعبه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في هذه العلاقة. وهذا الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بما تقدمه الحكومات من تسهيلات مادية ومعنوية، تساعد على حفظ الحقوق الثقافية للأفراد والجماعات، مهما تعددت أو تنوعت في إطار المجتمع الأكبر، إذا لا ضير في التنوع وتعدد الهويات والثقافات والآراء حتى لو كانت مختلفة، فبالنتيجة يمكن للجميع أن يستفيد من المقولة المعروفة (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية).
اضف تعليق