q
القادة الاكراد اليوم، اندفعوا كثيرا باتجاه تركيا، وتحولوا من حالة كانت تقترب من العداء ولو غير معلن لها، الى شركاء معها في كل شيء، اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، بل انهم اسهموا في اخماد التمرد الكردي في جنوب تركيا، خلافا للشعارات القومية التي كانوا يرفعونها، وباتت كردستان العراق...

في كتابهِ (أمة في شقاق.. دروب كردستان كما سلكتها)، يتوقف مؤلفه (جوفان راندل) عند حقبة مهمة من تاريخ الشعب الكردي، الذي كان ضحية الصفقات الدولية الكبرى، مطلع القرن الماضي، دفع ثمنها فيما بعد، وللاسف الشديد، الاكراد وعرب العراق وحدهم، نتيجة للصدامات العسكرية المريرة التي مازالت تداعياتها السياسية والنفسية ماثلة الى اليوم، حيث يذكر راندل، وتحديدا في الفصل الاهم من كتابه، والذي جاء تحت عنوان (جمعية كيسنجر السرية) نفاصيل كثيرة، لا يتسع المجال هنا لذكرها، لكن الذي يهمنا منها في هذه السطور، انه بعد توقيع اتفاقية 11 آذار 1970 بين الحكومة المركزية والقيادة الكردية المتمثلة وقتذاك بالحزب الديمقراطي الكردستاني، حصل خلاف لاحق بشأن حدود الاقليم القادم، اذ اصرت القيادة الكردية على ان تكون محافظة كركوك ضمنه، وهو ما رفضته الحكومة المركزية، لاسباب عدة، منها ان كركوك تتكون من خليط سكاني، يمثل التركمان الغالبية فيه، لاسيما في مركز المحافظة، ويرفضون بشدة الانضمام للاقليم الكردي المقترح، وان الاكراد والعرب والكلدو آشوريين، بالاضافة الى وجودهم في مركز المحافظة، يتوزعون ايضا في بقية مدن وقصبات المحافظة، بنسب متفاوتة من حيث الثقل السكاني لكل منهم، ما يجعل اعطاء كركوك هوية معينة، امرا صعبا ويواجه اعتراضات، تدرك حكومة بغداد ان لها تداعيات خارجية لا يستطيع العراق مواجهتها، وهكذا فشلت المفاوضات بشأن الحكم الذاتي واندلعت الحرب في العام 1974 لينتهي هذا المشروع الى صيغة شكلية، وظلت المشكلة قائمة، وفي الحقيقة ان السبب الخارجي المضاف للداخلي المعقد، الذي منع الحكومة العراقية من ضم كركوك الى منطقة الحكم الذاتي هو موقف تركيا من هذه المسألة الحساسة، اذ على الرغم من ان بغداد وافقت على فتح حوار مع البارزاني الأب بشأن كركوك، لكن بطريقة سرية، لكي يكون الأمر بعيدا عن علم الاتراك، كما ذكر السياسي الكردي المخضرم محمود عثمان، قبل مدة لإحدى الفضائيات العراقية، وان الذي تمكنت بغداد من تقديمه للبارزاني هو اعطاؤه حصة من نفطها لتتجنب حربا باتت تلوح في الافق، بعد ان وقع البارزاني اتفاقا مع شاه ايران برعاية اميركية، قادها وزير الخارجية ومستشار الامن القومي الاميركي وقتذاك، هنري كيسنجر، من اجل تدمير مشروع الحكم الذاتي، لانه سيقلق دولتين حليفتين وعضوين مهمين في (حلف الناتو) هما ايران وتركيا، حيث تحرص اميركا في مرحلة الحرب الباردة تلك على أمنهما الداخلي لانه بالنتيجة في خدمة الامن القومي الاميركي، وهكذا، لم يقتنع البارزاني بالمقترح الذي قدمته له بغداد، ومضى في مطلبه المستحيل وقتذاك، بعد ان وضع بغداد امام خيارين احلاهما علقم، حرب يشنها الشاه على العراق تحت غطاء دعم الاكراد، او تدخل تركي في حال تسليم كركوك الى البارزاني، فاختار العراق اهون الشرين، وكانت لديه ورقة واحدة سيلعبها مضطرا طبعا، وهو ما يقوله مؤلف الكتاب طبعا، ويقصد قضية شط العرب، ويذكر ايضا، ان البارزاني كان يبتغي من الضغط العسكري على بغداد تسليمه كركوك وخانقين، بينما كان لاميركا هدف آخر كما ذكرنا، وايضا كان هذا هدف الشاه، اضافة الى محاولته الحصول على نصف شط العرب، بينما كان هدف اسرائيل التي كانت على خط اللعبة طيلة الازمة، والكلام للمؤلف جوفان راندل، اضعاف العراق واخراجه من معادلة الصراع معها، لاسيما ان جيشه ترك في جسدها جرحا عميقا خلال حرب تشرين العام 1973 لن تنساه له.

القادة الاكراد اليوم، اندفعوا كثيرا باتجاه تركيا، وتحولوا من حالة كانت تقترب من العداء ولو غير معلن لها، الى شركاء معها في كل شيء، اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، بل انهم اسهموا في اخماد التمرد الكردي في جنوب تركيا، خلافا للشعارات القومية التي كانوا يرفعونها، وباتت كردستان العراق بمثابة الحديقة الخلفية اقتصاديا لتركيا، التي تعمل بالتعاون معهم لضم الموصل لهذه الحديقة من خلال آل النجيفي، وهذا لم يعد سرا ابدا، وفي الوقت نفسه، يجب ان يعرف الجميع ان تركيا احرص من بعض العراقيين على وحدة العراق، لان تفكك العراق سيكشفها ستراتيجيا امام التطلعات القومية للاكراد وغيرهم في جنوبها، فما الذي تريده تركيا اردوغان من تعاملها مع الاكراد، الذي يراه الكثيرون مستفزا للعراق في موضوعة النفط؟ لا شك ان تركيا تسعى الى جعل الاكراد مكشوفين سياسيا امامها، اي بدون عمقهم الوطني العراقي الذي يحصنهم، وتسعى ايضا الى ربطهم اقتصاديا بها بقوة اكبر، لكي تتصرف بالاقليم كما لو انه جزء من مجالها الحيوي مع عملها الجاد على ان لا يحقق القادة الاكراد حلمهم في الاستقلال، لانها ترفضه تماما، كما كان الشاه واسرائيل واميركا، الذين تركوهم بعد توقيع اتفاقية 6 آذار العام 1975 بمواجهة مصيرهم الذي اسهموا هم في صنعه او دفعوا الاكراد اليه بلعبة خداع انكشفت لاحقا، لان الكل اخذ نصيبه من الصفقة التي دفع ثمنها العراقيون، عربا واكرادا بعد ان تم قتل عشرات الآلاف من شباب الجيش العراقي والآلاف من المقاتلين الاكراد، اضافة الى تدمير مشروع الحكم الذاتي الذي اصبح بعد الاتفاقية في خبر كان، وان ما حصل من تطور في القضية الكردية لاحقا، او في التسعينيات، كان بسبب معطيات خارج سياقها، وليس كمعطى للكفاح الكردي الذي اثبت التاريخ ان البندقية ليست هي الوجه الوحيد له، وان بامكان الاكراد ان يحققوا ما هم فيه اليوم قبل اربعين عاما، لو انهم اقتربوا من عمقهم الوطني العراقي ولم يركضوا كثيرا وراء سراب اللاعبين الكبار في المنطقة وخارجها!.

اضف تعليق