النظم الصالحة والناجحة وفق المعايير التاريخية الحديثة هي النظم التي تحقق أكبر انجاز اقتصادي، وتنجز أرباح أكثر لخزينة الدولة، وتستجيب من خلالها الى مصالح الشعب التي باتت في الحياة الحديثة محصورة أكثر فأكثر في الربح المتحقق لديها من ثروات البلاد وعوائد السياسة الاقتصادية التي تخطط...

كانت الدول معرضة للسقوط في التاريخ القديم، لكن بعد الحرب العالمية الأولى وتشكيل عصبة الأمم المتحدة وبعد ذلك أعقبها تأسيس الأمم المتحدة في التاريخ الحديث، صارت العلاقات بين الدول تقوم على الاعتراف المتبادل بينها واحترام سيادتها مما ضمن بقاء الدول وأزاح عنها خطر زوالها وسقوطها، وهو غالبا ما كان يشكل النهاية الحتمية للدول في التاريخ القديم.

لكن برزت مشكلة سقوط الأنظمة في التاريخ الحديث كمؤشر على التحولات الحقيقية في مفهوم الدولة من جهة ومفاهيم النظم السياسية من جهة أخرى، وإذ تخلت الدراسات الحديثة وعلوم السياسة الحديثة عن الاهتمام بموضوع سقوط الدول بالقدر الذي كانت تهتم به الدراسات والبحوث القديمة، فإنها من جانب آخر انشغلت بقوة وبشغف علمي بموضوع سقوط الأنظمة باعتبارها محور الحدث في تاريخ الدول السياسي – الحديث.

ويظل الفشل السياسي والاقتصادي هو العامل الحاسم في سقوط الأنظمة في التاريخ الحديث، وكلما تقدم هذا التاريخ وتطور فانه شاهد على ترجيح العامل الاقتصادي في فشل وسقوط الأنظمة وأولويته في تفسير عملية السقوط لهذه الأنظمة حتى على الجانب السياسي الذي صار محكوما بقدر وقدرة الاقتصاد في نجاحه وفشله.

فالنظم الصالحة والناجحة وفق المعايير التاريخية الحديثة هي النظم التي تحقق أكبر انجاز اقتصادي، وتنجز أرباح أكثر لخزينة الدولة، وتستجيب من خلالها الى مصالح الشعب التي باتت في الحياة الحديثة محصورة أكثر فأكثر في الربح المتحقق لديها من ثروات البلاد وعوائد السياسة الاقتصادية التي تخطط لها أو تمارسها الدول الناجحة والمتقدمة، بل أن التقدم والتطور ومنذ الثورة الصناعية الثانية في القرن التاسع عشر أخذ دلالة اقتصادية واضحة في السياسات الحديثة للدول ومفاهيمها التي تكرسها في أفكار وثقافة شعوبها.

لقد اهتمت الصين الشعبية في أيام حكم الرئيس ماو وتحت ضغط سياساته الأيديولوجية بالمبادئ السياسية وأهملت مبادئ الاقتصاد الحديث الذي ارتهنت به كل السياسات الناجحة في الدول الأكثر تقدما وتطورا، مما أدى الى تراجع الصين في أيام حكمه ومنيت بكوارث إنسانية وسياسية، لكنها بعد زوال حكم الرئيس ماو توجهت كليا نحو تطبيقات الاقتصاد الحديث ونجحت في بناء الصين كدولة وقوة عظمى حقيقية، واستطاع نظامها السياسي وحزبها الشيوعي الحاكم من النجاة من مصير السقوط الحتمي الذي تعرضت له كل الأنظمة الشيوعية في العالم بعد ان أدركت أن عوامل السقوط السياسي لأنظمة الحكم تكمن في تدهور الاقتصاد الوطني وتراجع الحالة المعيشية لأفراد الشعب، وهي من خصائص النظم السياسية في العالم الحديث ومؤشرات مفهوم الدولة في التاريخ الحديث لحساب فشلها أو نجاحها.

وفي تجربة الربيع العربي وسقوط أنظمة الدكتاتورية العربية فيه وتهديد دولها بالسقوط اتضحت الحقيقة السياسية المعاصرة بشكل أكبر، أن عوامل سقوط الأنظمة في تاريخنا الحديث تكمن في :-

أولا – حرمان الشعب من موارد الثروة الوطنية وافتقاد العدالة في توزيع الثروات.

ثانيا – الاستحواذ أو الاحتكار المفروض على هذه الموارد من قبل النظام السياسي ولصالح أحزابه وأفراده.

ثالثا – الفساد السياسي والإداري والمالي الذي يتولد أحدهما عن الآخر بشكل آلي وبتتابع هذا الفساد من السياسي الى الإداري الى المالي.

رابعا – العمى السياسي الذي يصيب رأس القائد وهو أعلى مرجعية سياسية في ظل الأنظمة الدكتاتورية. والمثال الصارخ هنا وفيما سبقه من عوامل السقوط هو مصر وتونس وليبيا. وبطبيعة الحال فان المثال الأكثر فداحة فيما سبق هو نظام الدكتاتور صدام في العراق، وقد تعدى العمى السياسي حتى الى رؤوس القادة العرب في ظل الأنظمة الديمقراطية الزائفة التي أعقبت ما سمي بالربيع العربي والمثال هنا هو مصر وتونس في ظل حكم الإخوان المسلمين وحركة النهضة، وقد تسببت تلك العوامل مجتمعة في سقوط هذه الأنظمة السياسية العربية سواء منها الدكتاتورية أو الديمقراطية الجزافية والزائفة.

وتظل تلك التجارب السياسية ماثلة أمام قادة وسياسيين في البلاد العربية يحاولون أو يطرحون إمكانية نجاح النظم السياسية التي يؤمنون بها ويرفعون شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن يظل الفساد بشقيه الإداري والمالي والاحتكار بشقيه السياسي والاقتصادي ومن ثم العمى السياسي هي أكبر مشكلات ومعرقلات البناء الديمقراطي والوطني للأنظمة السياسية العربية ومن ثم التسبب بانهيارها وسقوطها.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق