الشعب العراقي اليوم يجد من المرجعية الحصن الأخير للحفاظ على ما تبقى من حقوقه المنهوبة، والمرجعية تجد في الولاء الشعبي لها، الحصن الكبير والجيش اللامرئي لها لمواجهة التدخل الخارجي العنيف في البلد، اما الانتقادات الموجهة لها بتهمة عدم تدخلها في جميع القضايا فهذا خلاف للواقع، وانعكاس للرؤية العرجاء لطبيعة الصراع الجاري في العراق...
اذا ما اشتدت الازمة السياسية في العراق واستعصت على الحل فهناك ملجأ أخير، ليس القضاء فهو غير فعال وغائب تماما، ولا هيئات النزاهة الكثيرة، فهي مشغولة بجمع الملفات وإصدار البيانات الصحفية فقط، ولا يوجد برلمان فاعل، فهو أساس كل ازمة لأنه قائم على المحاصصة، اما الحكومة فهي الفاعل والمفعول به وهي المعارضة لنفسها في الكثير من الأحيان، اذ تطاب بتوفير الخدمات للناس وتفعيل القوانين؟
لا ينكر أحد دور القوى الخارجية في التحكم بالعملية السياسية في العراق، وأكثر الفاعلين في هذا المجال هم الولايات المتحدة الامريكية وإيران، باعترافات الحكومتين، فطهران تملك نفوذا كبيرا لدرجة ان الدول الخليجية تتهمها بتحويل العراق الى محافظة إيرانية، فالقرارات الحاسمة يقدمها الجنرال قاسم سليماني ويوقع عليها قادة الأحزاب العراقية دون أي تفكير او اعتراض من اجل مصلحة العراق. هكذا ترى الصحافة الخليجية.
الطرف الاخر والأكثر فاعلية هي الولايات المتحدة، ففي بغداد تمتلك واشنطن أكبر سفارة في العالم، وتخطط لبناء أكبر قنصلية في أربيل، ويدور اغلب صراعها مع ايران في الأرض العراقية، وعلى مقاليد الحكم في البلد، بل انها هي المتحكم الرئيس اكثر من ايران، والفرق ان التدخل الأمريكي اكثر سرية، ويمس قضايا جوهرية في السياسة العراقية، على خلاف الإيرانيين الذين يريدون ان يظهروا كل طاقتهم باعتبارها انتصارا على واشنطن.
وفق معادلة التدخل الخارجي لا يبقى للعراق قرار الا في القضايا الهامشية، لكن بما ان السياسي العراقي يعتمد على الحماية التي يوفرها الداعم الخارجي والتمويل الخارجي، فلا حاجة له للتفكير بالداخل، فالبقاء على منصبه او اقالته منه متوقف على التوافق الخارجي او التوافق بين الأطراف الموالية للخارج، بغض النظر عن أدائه ومستوى الخدمة التي يقدمها للبلد.
هذه اللعبة الدولية كانت خفية عن المواطن او هو لا يريد ان يعرف في السنوات السابقة، وتم حجبها من خلال الانفاق المالي الكبير، حيث استفادت الحكومة من تقسيم أموال خزينة الدولة على شكل حصص للأحزاب من الوظائف او الوزارات والدوائر المهمة، وكانت فرصة الحصول على وظيفة اقل صعوبة منها اليوم، ومن يستطيع الحصول على واسطة يمكنه الوصول الى الوظيفة التي يريد، ولكن الاقتصاد المعتمد على النفط وبدون أي تنظيم حقيقي لا بد وان يسقط عاريا مفضوحا امام اول هزة في أسعار النفط، وهذا ما حدث في عام 2014 وما بعدها ليكتشف ابسط الناس ما كان يجري، وعرفوا حجم الفساد الذي ادخل البلاد في ثقب اسود من الازمات.
اين المفر؟ هل للقضاء الغائب؟ ام الى مجلس النواب المقسم الى ولاءات للدول الخارجية والحكومة التي هي انعكاس للبرلمان؟ ام الى الادعاء العام وهيئات النزاهة؟ كل هذه المنابع لا توفر الماء لإطفاء الحريق، فهي مؤسسات مشاركة في الخراب، ولا يمكنها ان تقدم للمواطن أي شيء، ولو أمكنها لقدمته قبل ان يطلب منها.
يبقى امام المواطن منفذ وحيد، هو المرجعية الدينية، التي استطاعت ان تبقى بعيدا عن الحريق لكنها تراقب بشكل دائم وجمعت معلومات كافية عن أسبابه وطرق علاجه والمعوقات التي تقف في طريق العلاج، فمعرفة المرض شيء وجلب الادوية شيء اخر، وهو ما جعل حديثها وتنبيهاتها عن المخاطر محط احترام وترقب لان الكثير منها قد تحقق لان الحكومة لم تأخذ بها، فهي دعمت كل الحكومات السابقة لان هذا ضروري لإعطاء الحرية الكاملة في العمل، لكنها في المقابل عارضت أدائها ورفضته أيضا، وهذه الحكومة الأخيرة حصلت على كل الدعم، وحينما وجدتها انزلقت وسط سوق التوافقات الدولية سحبت يدها ودعت الى إيجاد حكومة قوية قادرة على تنفيذ برنامج حكومي وطني يخدم أبناء البلد.
دور الفعل البطيء هذا، اثار الكثير من الجدل على المستوى الاجتماعي او على مستوى النخب السياسية، فاذا كانت المرجعية تملك رؤية واضحة لماذا لا تعلنها صراحة، (رغم انها تعلنها دائما الا ان بعض النخب لا ترى أي فعل اذا لم تصاحبه ضجة او حرب؟) فهي التي تدخلت في الاستفتاء على الدستور واصرت على ضرورة اجراء انتخابات حرة لأعضاء جمعية كتابة الدستور، وهي التي رفضت ما سمته "التشبث بالسلطة" للحكومة السابقة التي استأثرت بكل شيء تحت يافطة التعيين بالوكالة للوزارات والمناصب السياسية، وأعلنت الفتوى الشهيرة "فتوى الجهاد الكفائي ضد داعش"، وأخيرا أعلنت موقفها من حكومة العبادي الضعيفة جدا سواء امام التدخلات الخارجية او المشكلات الداخلية، فدعت الى تشكيل حكومة قوية.
اما حدود تدخل المرجعية، فلا يمكن ان تقوم بأكثر مما قامت به، فالتوجيهات مستمرة في كل انتخابات، وهي تواكب المطالب المشروعة للمواطنين بضرورة توفير الخدمات، لكن هي تعرف أيضا ان هناك صراع دولي شرس من اجل السيطرة على العراق، فتقوم بدورها من حيث موقعها الروحي ولا تريد ان تدخل بأكثر مما تقوم به الان حتى تحافظ على القليل مما تبقى للعراق امام هذا التدخل الخارجي الهائل، فالنجف لا تملك جيشا حتى تواجه به دولا كبرى او إقليمية، وحتى حينما ركزت على ضرورة تقوية الجيش العراقي وفق الأسس الوطنية حاولت القيادات السياسية غير الوطنية سحب الجيش الى الصراع الدولي.
الشعب العراقي اليوم يجد من المرجعية الحصن الأخير للحفاظ على ما تبقى من حقوقه المنهوبة، والمرجعية تجد في الولاء الشعبي لها، الحصن الكبير والجيش اللامرئي لها لمواجهة التدخل الخارجي العنيف في البلد، اما الانتقادات الموجهة لها بتهمة عدم تدخلها في جميع القضايا فهذا خلاف للواقع، وانعكاس للرؤية العرجاء لطبيعة الصراع الجاري في العراق، فهو صراع بين جبهة تمثل مصالح الخارج، وأخرى تمثل مصالح المواطن تملك سلطة التوجيه والتنبيه والتحشيد الجماهيري مقابل سلطة المال والسلاح. معادلة تحتاج الى حنكة سياسية قل نظيرها، لان اقتحام كدس العتاد قد يدفع حراسه الى تفجيره، والعقل يرى ان تحقيق السلام اهم من اصلاح حفر الشارع الكثيرة.
اضف تعليق