ما هو دور الثقافة فيما يجري اليوم من تظاهرات شعبية، بدأت من البصرة وشملت معظم محافظات الجنوب والوسط صعودا إلى المحافظات والمدن الشمالية، ألا نلاحظ غيابا خاطئا للمؤسسات والمنظمات الثقافية الرسمية والأهلية، في هذا الفعل الحقوقي المجتمعي، كما غاب الدور القيادي للثقافة (نقابات واتحادات ومنظمات ثقافية) مثلما غاب دور منظمات المجتمع المدني حتى الشكلية أو الصورية منها، ألا يفترَض أن تتصدر الثقافة الحراك المجتمعي في هذا المجال الحقوقي وفي سواه؟...
لكل مجتمع ثقافة تمثله، وتشكل هويته الخاصة التي يتميز بها عن سواه من المجتمعات، وعادة ما تكون هذه الهوية بمثابة الإطار المعنوي والاجتماعي والعرفي الذي يحفظ النسيج المجتمعي ويجعله أكثر تماسكا، لذلك يقول العلماء المختصون، أن الدول الغازية كانت قد بحثت في الحقبة الاستعمارية عن أسلوب جديد للسيطرة على الأمم والمجتمعات التي حدّدها تبعا لمصالحها الاقتصادية والسياسية، ووجد مفكرو تلك الدول الغازية أن تهديم الأسس والمرتكزات الثقافية لمجتمع ما هي الأسرع في انهياره وضمان تبعيته للثقافة الجديدة أو المسماة بالدخيلة.
فالثقافة هي الدعامة المركزية التي يقوم عليها التماسك الاجتماعي، وانطلاقا من هذه المكانة الكبيرة للثقافة، تفرّعتْ أدوار ومهام أخرى لها منها أنها تتبوّأ الصدارة في قيادة الحراك المجتمعي بمختلف مستوياته المتباينة، فالثقافة بحسب مختصين: (هي مجموعة سلوكيات اجتماعية ومعيار معتمَد في المجتمعات البشرية، وتعتبر الثقافة مفهوما مركزيا في الانثروبولوجيا، يشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلم الاجتماعي في المجتمعات البشرية، بعض جوانب السلوك الإنساني، والممارسات الاجتماعية مثل الثقافة، والأشكال التعبيرية كالفنون، والطقوس، والتقنيات مثل استخدام الأدوات، الطبخ، المأوى، والملابس وهي بمثابة كليات نظرية سلوكية، توجد في جميع المجتمعات البشرية، أما مفهوم الثقافة في النسق المادي، فهو يغطي التعبيرات المادية للثقافة مثل التكنولوجيا، والهندسة المعمارية والفن، في حين أن الجوانب غير المادية للثقافة مثل مبادئ التنظيم الاجتماعي بما في ذلك (ممارسات ونشاطات المنظمات السياسية والاجتماعية)، والأساطير، والفلسفة، والأدب بشقّيه المكتوب والشفوي).
الشعور الفردي بالأداء الثقافي
لذلك فإن الثقافة بما أنها تساوي مجموعة الأفكار والأعراف والسلوكيات الحية، والتراثية، فهذه المكانة تعطيها الأولية في تحسين وتجديد وتطوير مجموعة القيم والأفكار ومن السلوكيات التي يؤمن بها المجتمع، ويعتمدها لتسيير حياته اليومية وعلاقاته المتشابكة في المجالات كافة، وفي العلوم الإنسانية، كان الشعور بالثقافة بصفتها سمة للفرد هو الدرجة التي يزرعون بها مستوى معين من التطور في الفنون أو العلوم أو التعليم أو الأخلاق، كما ينظر أحيانا إلى مستوى التطور الثقافي على أنه يميز الحضارات عن المجتمعات الأقل تعقيدا، وتوجد أيضا وجهات نظر هرمية حول الثقافة في التمييز الطبقي بين الثقافة الرفيعة للنخبة الاجتماعية وبين الثقافة المتدنية أو الثقافة الشعبية أو الثقافة الفلكلورية للطبقات الدنيا، وتتميز بالوصول إلى طبقة رأس المال الثقافي، وفي اللغة الشائعة، غالبا ما تستخدم الثقافة للإشارة على وجه التحديد إلى العلامات الرمزية التي تستخدمها المجموعات الإثنية لتمييز نفسها بشكل واضح عن بعضها البعض مثل الملابس أو المجوهرات، وتشير الثقافة الجماهيرية إلى أشكال الإنتاج الجماعي والمستنير للثقافة الاستهلاكية التي ظهرت في القرن العشرين، وقد جادلت بعض مدارس الفلسفة، مثل الماركسية والنظرية النقدية، لذا فأن الثقافة غالبا ما تستخدم سياسيا كأداة للنخب للتلاعب في الطبقات الدنيا وخلق وعي زائف، وهذه المناظير شائعة في مجال الدراسات الثقافية، وفي العلوم الاجتماعية الأوسع، يرى المنظور النظري للمادية الثقافية أن الثقافة الرمزية البشرية تنشأ من الظروف المادية للحياة البشرية، حيث أن البشر يهيئون الظروف للبقاء البدني، وأن أساس الثقافة موجود في التصرفات البيولوجية المتطورة، وهذا يتعلق بالجانب الوراثي المتراكم أو بما يسمى بالجينات التي تطبع مجتمع ما بمشتركات متعددة.
إن هذا الدور الواسع والمتمدد إلى جوانب عديدة للثقافة يعطيها مكانة الصدارة في قيادة ارتقاء المجتمعات وتطورها، لذلك فإن "الثقافة" هي مجموعة العادات والتقاليد والقيم للمجتمع، مثل مجموعة إثنية أو أمة ما، والثقافة هي مجموعة المعرفة المكتسبة بمرور الوقت، وبهذا المعنى، فإن التعددية الثقافية تقدر التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة التي تسكن كوكب الأرض، وفي بعض الأحيان، تُستخدم "الثقافة" أيضا لوصف ممارسات معينة داخل مجموعة فرعية من المجتمع، أو ثقافة فرعية، أو ثقافة مضادة، في إطار الأنثروبولوجيا الثقافية، فإن الأيديولوجية والموقف التحليلي للنسبية الثقافية يؤكدان أنه لا يمكن بسهولة تصنيف أو تقييم الثقافات بشكل موضوعي لأن أي تقييم يقع بالضرورة ضمن نظام قيم ثقافة معينة، ونظر لهذا التأثير النظري الفعلي المزدوج للثقافة، هذا يجعل منها متحكمة في طبيعة الحراك المجتمعي، أما في حالة غياب هذا الدور فسوف ينعكس ذلك سلبا على المجتمع باعتبار أن الثقافة إذا ارتقت ترتقي الأمة والعكس صحيح.
انزواء المثقف والمنظمات الثقافة
ولو أردنا أن نجري مسحا تطبيقيا عن الفعل الثقافي في العراق، وتأثيره على ما يجري من أنشطة في الجانبين المتعاكسين الجيد والرديء، سوف يلاحظ المتابع أو الباحث انعكاس ذلك بوضوح على مجمل الحراك المجتمعي، ولنأخذ عينة من هذا الحراك ونطبق الفعل الثقافي عليه، فنتساءل ما هو دور الثقافة فيما يجري اليوم من تظاهرات شعبية، بدأت من البصرة وشملت معظم محافظات الجنوب والوسط صعودا إلى المحافظات والمدن الشمالية، ألا نلاحظ غيابا خاطئا للمؤسسات والمنظمات الثقافية الرسمية والأهلية، في هذا الفعل الحقوقي المجتمعي، كما غاب الدور القيادي للثقافة (نقابات واتحادات ومنظمات ثقافية) مثلما غاب دور منظمات المجتمع المدني حتى الشكلية أو الصورية منها، ألا يفترَض أن تتصدر الثقافة الحراك المجتمعي في هذا المجال الحقوقي وفي سواه؟.
ثم ما الذي يبرر هذا التلكّؤ والانزواء للمثقف ليس بفعله الفردي، نحن لسنا إزاء استقصاء النشاط الفردي للثقافة، وإنما المقصود هو دور الثقافة المؤسساتي الفاعل، مثل وزارة الثقافة أو اتحادات الأدباء في بغداد والمحافظات والأقضية أو دور المنظمات الثقافية المختلفة، بالطبع هذا الخلل والضمور والتراجع لا يُحسب على الثقافة نفسها، وإن كانت بعض مضامينها تعاني من مشاكل فكرية أو مبدئية أو سواها، وإنما يتحمل مسؤولية هذا الخلل البائن في النكوص الثقافي ودوره في الحراك الشعبي المجتمعي، القائمون على الثقافة في العراق، لاسيما أننا كعراقيين نكافح كي نجتاز مرحلة بالغة الخطورة من حياتنا كمجتمع ودولة.
في الختام وبعد أن عرفنا الثقافة في المعنى والمفهوم، وعرفنا دورها الأساس المتقدم على سواه، ينبغي أن يكون دورها حاضرا في كل حراك مجتمعي سلوكي أو فكري أو تنظيمي، وإلا ما فائدة وزارة الثقافة في البلاد إذا غاب دورها في المشاركة والمتابعة والإسهام والتصحيح وما شابه؟، إذن هي دعوة إلى المؤسسات والمنظمات الثقافية بكل أحجامها ومهامها وفي شقّيها المدني والرسمي ندعو قادتها، أن لا يجهضوا الدور الرئيس للثقافة ولا يبعدوها عن الأنشطة الشعبية والمجتمعية، فقد غاب هذا الدور في النموذج الذي استقيناه من واقعنا الراهن، وهذا خلل لا يليق بثقافة تطمح أن تكون في الصدارة لقيادة المجتمع.
اضف تعليق