العراقيون حتى تحت القبضة الحديدية للأنظمة الدكتاتورية لم يستكينوا، والأدلة المنظورة حاضرة، وتأريخ الاحتجاج العراقي يثبت عدم الخذلان والتراجع أمام البطش مهما اشتدّ أواره، وإذا أردنا أن نحلل طبيعة المظاهرات الحالية، فإننا سنبحث أولا عن طاقة الحشود وما هو نوع الوقود المعنوي والفعلي الذي يحركها، أما إذا أقررْنا بأن الشباب هم دعاة الاحتجاج تنظيماً ومطالبات، فستكون هذه الميزة وحدها كفيلة بفرز نوع جديد يدخل بقوة في الواقع السياسي العراقي...
العراقيون حتى تحت القبضة الحديدية للأنظمة الدكتاتورية لم يستكينوا، والأدلة المنظورة حاضرة، وتأريخ الاحتجاج العراقي يثبت عدم الخذلان والتراجع أمام البطش مهما اشتدّ أواره، وإذا أردنا أن نحلل طبيعة المظاهرات الحالية، فإننا سنبحث أولا عن طاقة الحشود وما هو نوع الوقود المعنوي والفعلي الذي يحركها، أما إذا أقررْنا بأن الشباب هم دعاة الاحتجاج تنظيماً ومطالبات، فستكون هذه الميزة وحدها كفيلة بفرز نوع جديد يدخل بقوة في الواقع السياسي العراقي.
وإذا قلّبنا صورة الواقع العراقي بحياد ودقة، فإننا سنلاحظ بأقوى الوضوح وقوع الشباب فريسة للفساد والإهمال، أما سندان البطالة فتأخذ بهم صوب الجهل الذي لا ينمو ولا يعيش إلا في دهاليز الظلام، كما هي العناكب التي تهرب من الضوء الى الزوايا المظلمة، والفساد والجهل صنوان، لايفارق أحدهما الآخر، فأينما وُجد الجهل والظلام، يوجد الفساد ويزدهر في الخفاء والظلام، حيث تتحرك فيه كل عناصر الشر التي تخشى العمل والتحرك تحت ضوء الشمس، وقد يكون هذا الخطأ الإستراتيجي هو من أوصل الأوضاع العراقية إلى ما هي عليه الآن من تردٍ واحتقان.
ومن الأخطاء الرسمية أيضا، إضافة إلى الإهمال، تركيز النظام البيروقراطي ونشر الفساد في المفاصل الإدارية، وعزل طاقات الشباب ومحاصرتهم بالفراغ، لهذا السبب لابد من شيوع الشفافية في حركة الانتاج بجميع أشكالها واصنافها ونوعياتها وانتماءاتها أيضا، بمعنى يجب أن تكون جميع الانشطة الرسمية والاهلية الفردية والجمعية التي لاتدخل ضمن الاسرار الشخصية، تحت البصر والبصيرة، لكي نضمن تلاشي طبقات الظلام ونرى جميعا نتائج الحراك المجتمعي الرسمي وغيره، حتى تتولد فرصة لتجاوز حالات الفساد وشبكاته التي تجد في إشاعة الجهل والتخلف والظلام مرتعا نموذجيا لازدهارها وهيمنتها في مقابل القضاء على أي فرصة لامتصاص فورة الشباب وزج قدراتهم ومهاراتهم في الوقت والمكان المناسبين.
وبعد أن أيقن أرباب السياسة بالعراق توطّن القيم الخاطئة، صار لزاما تغيير السلوك الحكومي وحركة الأحزاب، وإذا كان الربط بين الجهل والفساد مفهوما، وواضحا، فإن العمل على إبطال أسباب الجهل تُصبح ملزمة للجميع، خصوصا المؤسسات الرسمية المعنية، وخلاف ذلك، فإن القبول بالجهل والظلام وبالفساد نفسه، يعني أمرا مقصودا، وفق هذا وذاك ضحيته شريحة الشباب التي تعد أهم الشرائح وأكثرها حيوية وفاعلية، هنا لابد أن تتحرك الجهات المعنية لاسيما الرسمية منها، للقضاء على الجهل والظلام، كتمهيد لابد منه للقضاء على الفساد، وهذا لايتم من دون خطط محكمة، يضعها متخصصون في القضاء على ظاهرة الفساد، سواء كانوا من الداخل أو من خارج البلد، ممن لهم تجارب في مكافحة هذا النوع من الامراض الخطيرة، التي تستشري كما ذكرنا في المجتمعات القابعة في زوايا التخلف والظلام، يتبع هذه الخطوة، خطوة أكثر أهمية تتمثل بطريقة التنفيذ، أي بتحويل هذه الخطط المكافِحة للفساد ووضعها موضع التنفيذ المجدي، لاسيما أن حركة الاحتجاجات أخذت بعدا جديدا.
هناك من يدعو إلى التريث وإعطاء فرصة زمنية كافية للمعالجات، ويغض الطرف عن الأسباب التي جعلت من كرة (الأخطاء) تكبر وتتجمع وتتضخم، حتى بات من الصعب تفتيتها أو معالجتها، علما هناك تلكّؤ واضح ليس حكوميا فقط، في مجال مكافحة الفساد، فحتى المنظمات الأهلية المعنية بالمكافحة مقصرة كما سبق الذكر، ويضاف إلى ذلك دور مهم جدا يتعلق بالمواطن نفسه وسعيه الدؤوب في الاسهام الجاد بالقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، ولابد للمواطن كنعصر هام في المجتمع أن يبادر من موقعه الاجتماعي والعملي بصورة عامة لتقديم أقصى ما يمكن إسهاما منه في الحد من تنامي الفساد ومعالجه من خلال عدد من الخطوات التي يستطيع من خلالها تخفيف وطأة هذه الظاهرة واضرارها الفادحة التي لاتتحدد بإلحاق الضرر بشخصه او عائلته فحسب، إنما تمتد مضاعفاتها الى عموم أفراد وشرائح المجتمع، بالأخص شريحة الشباب التي لا تتحمل مسؤولية الأنظمة الإدارية والأخطاء الحكومية، لأن الشاب عادة ما يكون مستقبِلا للتوجيه وليس منتجا له.
لذا فالشخصيات السياسية والأحزاب المهيمنة مطالبة بمكافحة الفساد، حتى المواطن عليه أن يبدأ بنفسه في مسألة معالجة هذه الظاهرة، ونعني هنا امتناعه أولا عن ارتكاب كل ما من شأنه يدعم الفساد، فلا يجوز للمواطن الواعي أن يسهم في تشجيع السلوكيات الخاطئة بتبرير هيمنة القيم الدخيلة، لذا ينبغي الإسهام بالقضاء على مظاهر الفساد ومنها اللجوء إلى الرشوة حتى لو تعلق الأمر بتسهيل معاملة أو إجراء معين، إداريا كان او غيره، بل لابد أن يبادر بفضح كل من يشجع إشاعة أشكال الفساد التي تشل المفاصل الإدارية بالبيروقراطية التي تكبّل الدولة وتعرقل حركتها ونموها الطبيعي.
إن المطلوب بعد المظاهرات الشبابية الأخيرة، تغيير شامل في البنيات السياسية والثقافية والاجتماعية، مع إعطاء الفترة الزمنية الكافية، على أن يشارك الجميع بهذا الجهد الكبير، حتى الموظف الحكومي نفسه مشمول بتصحيح مسار الحركة المجتمعية الوظيفية، بمعنى أن هناك موظفين ملتزمين أخلاقيا ووطنيا ودينيا ولا يقبلون أية حالة للفساد مهما صغر حجمها أو أضرارها، وهذا النوع من الموظفين الحكومين له دور كبير في معالجة ظواهر الفساد والمساعدة في القضاء عليها، والنتيجة سوف تصب في تقليل الاحتجاج مع ضمان فرص نمو وتطور كبير للشريحة الشبابية التي تضررت كثيرا بسبب الفساد حتى أن الخوف من المستقبل أخذ يشل تفكيرهم وجعلهم يفقدون الثقة بأنفسهم، مما ساعد على تسيّد اليأس بصورة كلّية على عقولهم الغضة.
فمن يا تُرى يتحمل مسؤولية ما حدث ويحدث الآن للشباب، وهل هناك ضوء في آخر النفق، وما هي الإجراءات القادرة على محو اليأس المكدّس في نفوسهم وهم يعبرون من فشل إلى آخر، نحن نرى في التظاهرات الحالة خطوة تصب في صالح أرباب السياسة العراقية، وهي فرصة أخرى لهم، لكنها على الأرجح (أخيرة)، لإدراك المركب العراقي قبل أن تلتهمه أمواج الفساد وتغرقه، وتغرق معه كل من أسهم من الأحزاب والعاملين في الميدان السياسي، في إيصال الأمور إلى ما هي عليه من خطورة وتوتر واحتقان، وعلى الساسة أن يدركوا بأن الأمر قابل للتعديل والإصلاح، ولكن وفق أنساق عملية جديدة مختلفة لا تشبه حالات الترقيع السابقة التي جاءت لتهدئة الشباب والمحتجين بشكل وقتي وليس دائمي.
اضف تعليق