ان أمريكا ستكون أولا في عهد ترامب لكنها في مجال تخريب النظام العالمي وهي الفرصة التي ستوفرها واشنطن لبكين من اجل إعادة بنائه وفق الأسس الجديدة التي تتطابق مع مصالحها وليس مصالح الولايات المتحدة الامريكية...
اذا جاز تسمية الفترة الواقعة بين الحرب العالمية الأولى وسقوط الاتحاد السوفيتي بالحرب الباردة، فانه يمكن تسمية الفترة التي تسنم فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه بعصر التفكيك العالمي، او "عصر تفكيك أمريكا لكل شيء غير امريكي"، فاعادة صعودها وفق رؤية ترامب تختلف عن سابقها من حيث الأسلوب المستخدم لإعادة ترميم طريق العظمة الامريكية.
صنعت الولايات المتحدة الامريكية لنفسها سمعة عالمية منذ بداية القرن العشرين، وجعلتها تتسلق سلم العالمية بسرعة كبيرة، واعتمدت في ذلك على استراتيجية واضحة للجميع قائمة على التفوق في كل شيء، واخذ التصنيع العسكري مجالا واسعا في هذا الصدد فقامت بصناعة احدث الأسلحة والمعدات والطائرات والبوارج وحتى جاء تفوقها الكبير عبر صناعة القنبلة النووية التي انهت من خلالها الحرب العالمية الثانية لتكسب السباق نحو القمة من دون منافس.
اما من حيث الصناعات المدنية فاعتمدت على انتاج كميات كبيرة من السلع دفعتها الى فتح الأسواق في الدول الأخرى من اجل تصريف تلك المنتجات الامريكية ذات الجودة العالية، ولم تنسى واشنطن فكرة صنع هالة لها تحت مسمى "الحلم الأمريكي" ووظفت لهذا المشروع كل طاقتها في مجال السينما والاعلام، وأصبحت هي الرائدة في المجال السينمائي والإعلامي من دون أي منافس، فتم خلال تلك الفترة ربط كل نجاح بالولايات المتحدة وكل فشل بالاتحاد السوفيتي او الدول التي تعارض النجاح الأمريكي، لانه من الطبيعي اذا كانت الدولة ناجحة في المجالات العسكرية والصناعات المدنية واستقرار النظام السياسي والاجتماعي ان يتهم من يعارضها بانه مخرب بكل سهولة.
ولان القانون الطبيعي لصعود الامبراطوريات وهبوطها هو نفسه سواء على الولايات المتحدة او الإمبراطورية العثمانية و الرومانية، فان امبراطورية أمريكا لا بد وان تصيبها الشيخوخة، وكل امبراطورية تسقط بالحيلة التي جاءت بها، وفي الحالة الامريكية اعتمدت هذه الإمبراطورية على عنصر السرعة في كسب أي سباق تسلح او سباق في مجال الابتكارات العلمية وخلال سنوات حولت كل شيء الى عالم سريع، من حيث ظهور الأشياء او اختفائها، انعكس هذا القانون على المدة الزمنية اللازمة لبقائها حاكما اوحد على العالم، فبدأت في النزول من السلم او تباطأت حركتها فلحق بها من يجيد فن صناعة "العظمة" لتجد ان عصر التصدير تحول الى عصر الاستيراد من العملاق الصيني الصاعد وما عادت واشنطن هي المبتكر الأول ولا هي المصدر الأول ولا هي القوة العسكرية الوحيدة في العالم.
يضع الرئيس الأمريكي "الوقح" دونالد ترامب كل هذا في حساباته، لكنه لا يعيد محاكمة التجربة الامريكية كما تعودنا سابقا من خلال توجيه النقد لانفسهم لاصلاح الخلل انما جاء بفكرة اسرع عبر اتهام حلفائه باستغلال بلاده التي توفر لهم خيمة تحميهم من سخونة أجواء الصراع العالمي المتصاعد بشكل خطير. وفي الجانب الاخر يرى ترامب ان أعداء واشنطن يستغلون مستوى "البراءة" الامريكية ليحققوا طموحاتهم غير المشروعة.
بالنسبة للحلفاء الذين يراهم ترامب يستغلون بلاده، وتحديدا القارة الاوربية متمثلة بحلف شمال الأطلسي "الناتو"، فهؤلاء الشركاء لا يدفعون المال اللازم مقابل الحماية التي توفرها واشنطن لهم، بل انهم يقومون بدفع أموالهم لاعداء واشنطن، حيث قال ترامب صراحة ان المانيا تمتنع عن دفع الأموال لحلف الناتو لكنها تشارك بدعم الاقتصاد الروسي عبر تقديمها مليارات الدولارات له مقابل شراء الغاز.
وفي الجانب الاخر "المعادي" وجد ترامب طريقة سهلة لاستعادة الحق الأمريكي المسروق بحسب ترامب، وذلك عبر إجراءات عقابية شديدة الصرامة او اقل من ذلك بحسب مستوى العداء للولايات المتحدة وقوة هذه الدولة، فاذا تعلق الامر بكوريا الشمالية فانه يعني اغلاق كل أبواب الاقتصاد الكوري ومنع وصول علبة سكائر الى هذه الدولة الفقيرة، لانها دولة مكروهة من قبل المجتمع الدولي إضافة الى انها دولة ضعيفة اذا ما قورنت بالولايات المتحدة الامريكية، وبالتالي فان فرض هكذا نوع من العقوبات الشديدة مع التهديد بشن حرب عسكرية يعد متعة سياسية ونزهة لترويض الراي العام الذي لا يحب دونالد ترامب. ونفس الحال تماما ينطبق على ايران، لكن العقبة الوحيدة فيه ان طهران استطاعت عام 2015 من اقناع المجتمع الدولي ان نظامها السياسي ليس خبيثا مثل كوريا الشمالية ولا يريد تخريب المنظومة الدولية بقدر محاولته الدخول اليها، لذلك كان فرض العقوبات عليها من جديد مثيرا للمشاكل مع حلفاء واشنطن.
وبالنسبة للصين فان فرض العقوبات عليها جاء بطريقة "مؤدبة جدا" لان التنين الصيني قد يصيب الاقتصاد الأمريكي بمقتل اذا ما تم التحرش به بقسوة فجاء ترامب بفكرة فرض الرسوم الجمركية على البضائع الصينية، لترد الأخيرة الصاع صاعين، برسوم اشد، وتعزيز التعاون مع الاتحاد الأوربي وروسيا وايران والبلدان العربية مشكلة بذلك تهديدا فعليا لهيمنة الولايات المتحدة على العالم.
والهجمة التي تشنها إدارة الرئيس ترامب على اعدائها مثل ايران او كوريا الشمالية او الصين هي نفسها التي تشنها على حلفائها الاوربيين او على دول الخليج العربية، بل انه يوظف اعدائه لتخويف حلفائه من اجل دفعهم لزيادة الأموال المقدمة لواشنطن بحجة توفير الحماية لهم.
عبر هذه الاستراتيجية يرى ترامب انه يجعل من أمريكا في المقدمة، للتغطية على التاخر الأمريكي في مجالات كثيرة وترهل امبراطوريته والفشل في جميع تدخلاتها العسكرية، لانه بهذه الطريقة سيعرقل مسيرة الصين الصاعدة بثقة نحو الريادة العالمية، ويستثمر بالاموال الاوربية القادمة بحجة النفقات الدفاعية من اجل تعزيز اقتصاد بلاده الذي بدأ يصغر ويبدو اقتصادا عاديا امام الصين، لكن المشكلة تمكن في ان هكذا سياسة ستدفع حلفاء واشنطن الى الضفة الأخرى.
سوف تتحول الصين الى مركز جذب عالمي وقرارات ترامب قد عجلت بذلك كثيرا، فحينما انسحب من اتفاقية المناخ، لم تنهار الاتفاقية انما قادتها الصين وخلفها الاتحاد الأوربي، وحينما انسحب من الاتفاق النووي الإيراني رفضت اوربا طلبه فقادت جهود الاستمرار به عبر التعاون مع الصين وروسيا، واليوم يهدد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي، وقد ينفذ تهديده بكل بساطة وهو ما يعني الحاجة لنظام عسكري اخر يحمي القارة الاوربية، والوجهة اما تكتل اوربي خالص او الاستفادة من قائد خارجي يكون هو الأقوى عالميا لكنه ليس الولايات المتحدة.
وحتى الدول العربية التي تبدو ضعيفة اما قوة افتراس ترامب راحت تركض خلف الصين، اذا رحب وزير الخارجية السعودي بالمساعي الصينية لدخول الأسواق العربية بقوة واستثمار مليارات الدولارات في السنوات المقبلة.
ان أمريكا ستكون أولا في عهد ترامب لكنها في مجال تخريب النظام العالمي وهي الفرصة التي ستوفرها واشنطن لبكين من اجل إعادة بنائه وفق الأسس الجديدة التي تتطابق مع مصالحها وليس مصالح الولايات المتحدة الامريكية.
اضف تعليق