q
ان المسلمين على مر تاريخهم، لم يشكوا أزمة عقدية حقيقية، كما تعرضت لها الأمم الاخرى، إنما مشكلتهم كانت دائماً سياسية واجتماعية، وهذا يفسّر موقف الأئمة المعصومين، عليهم السلام، من الانظمة السياسية في عهدهم، ولماذا لم يثوروا ويطالبوا بالحكم والخلافة التي يستحقونها؟...

قيل قديماً أن الفلاح الناجح من يغرس النبتة في تربتها الخاصة بها، ولو أن التطور العلمي في مجال الزراعة نسخ الفرضية وجعل من السهل اليسير زراعة أي بنات في أرض بالعالم – تقريباً- فراح المزارعون يتسابقون على غرس الشتلات التي تحمل انواع نادرة من الفاكهة والخضار التي كنا نراها في اميركا الجنوبية او افريقيا، في بلاد الشرق الاوسط، كما تمكنت بعض بلاد الخليج من تحقيق حلمها بزراعة النخيل في اراضيها الصحراوية الجرداء بفضل فسائل النخيل العراقية!

ولكن؛ في مجال الثقافة والفكر وما تبتني عليه حضارات الأمم وتقام عليها دعائم التقدم، فان المسألة لا تقبل التحوير او التصدير بأي حال من الاحوال، مهما سعى اليها الساعون وبذل المفكرون ومن ورائهم قوى كبرى في التخطيط والامكانات العظيمة المساندة، كما حصل مع انطلاقة ما يسمى بـ "العولمة الثقافية".

إن "التربة العراقية" على سبيل المثال لا الحصر، بحاجة الى إصلاح في الفكر والسلوك والعادات وايضاً؛ النظم السياسية والاقتصادية، فلا يحتاج الامر إلا لثلّة من المفكرين والمثقفين ممن يمتلكون الارادة والعزيمة والنوايا الصادقة، وقبلها الاهداف السامية، لأن ينطلقوا من نفس هذه التربة والبيئة الاجتماعية ويقدموا الحلول والبدائل نحو الاحسن، وهذا عين ما فعله مفكروا القرن السابع عشر والثامن عشر في اوربا – اذا راق للبعض المقارنة- عندما نهضوا فكرياً وثقافياً ليواجهوا واقع التخلف الذي صنعه القساوسة متأبطين أحكاماً وتعاليم ملفقة تحت عنوان "الانجيل" ووصايا النبي عيسى، عليه السلام، فبدل أن يكون الانسان حراً كريماً، كما دعت الى ذلك جميع الاديان السماوية منذ أول الخليقة، بات يجد نفسه عبداً ليس لله –تعالى- ولخالقه ورازقه، وإنما لمجموعة من الدجالين الذين وجدوا في نور العلم والمعرفة ما يكشف زيفهم، فحاربوه وزجوا الناس في ظلام التخلف والحرمان، بل حتى وصل الامر لأن يبتزوهم في لقمة عيشهم، فكانت المعالجة بصياغة الهوية القومية للشعوب، ثم صياغة الفكرة العلمانية التي تقدس العلم وكل ما يستشعره الانسان بحواسه دون المسائل الغيبية والمعنوية.

وفي هذا الحيّز المحدود لسنا بوارد تقييم التجربة الاوربية (الغربية) فيما أطلق عليه بعصر "التنوير"، وطبيعة النجاحات التي حققوها لبلادهم، وما نزال حتى اليوم نشهد آثارها الواضحة، إنما الذي يهمنا بشدّة طريقة تعاملنا مع المشاكل وايضاً الاحتياجات اللازمة لبئيتنا الخاصة (تربتنا) بخصوصياتها الاجتماعية والتاريخية والحضارية، فهل التعامل النظري والسطحي للأمور أثمر عن نتائج "إصلاحية" غير من واقع الامة بشيء طيلة السنوات الماضية؟

ومن يتحدث عن "الإصلاح الديني الناجح" في اوربا القرون الماضية وتحديداً في عصر "التنوير" وتحكيم قدرة العقل لدى الانسان في مقابل قدرات التضليل والتغرير من رجال الكنائس، فان مواجهة هذا الدين غير الانساني، جاء استجابة لنداء الواقع الاجتماعي المرير، بيد ان مرارة الواقع الاجتماعي في البلاد الاسلامية، لم يكن في الدين والعقيدة، بقدر ما كان في السلوك والنزعات النفسية والظواهر الاخلاقية، مثل؛ الجُبُن، والخذلان، والخيانة، والكذب، وعبادة الذات، وهي المشكلة التي رافقت الرسالة وحملتها والمضحين من أجلها، منذ بزوغ فجرها في البعثة النبوية، مروراً بحياة النبي الاكرم، ومن ثم الفترة اللاحقة وظروفها السياسية، وحتى يومنا هذا.

ولذا فان العلماء والباحثين يؤكدون دوماً على حقيقة ناصعة، وهي؛ ان المسلمين على مر تاريخهم، لم يشكوا أزمة عقدية حقيقية، كما تعرضت لها الأمم الاخرى، إنما مشكلتهم كانت دائماً سياسية واجتماعية، وهذا يفسّر موقف الأئمة المعصومين، عليهم السلام، من الانظمة السياسية في عهدهم، ولماذا لم يثوروا ويطالبوا بالحكم والخلافة التي يستحقونها؟ الاجابة بكل بساطة نجدها في الحوار الدائر بين النبي الأكرم، وأمير المؤمنين، عندما ينبأه بمقتله بتلك الطريقة المريعة، فيكون رد الإمام فوراً؛ بأن "وفي سلامةً من ديني"؟! فيجيبه النبي بالايجاب؛ بأن "نعم، في سلامة من دينك"، فكان في ذلك اطمئنان نفس الامام علي.

نعم؛ كان التدخل السريع والحازم للأئمة، عليهم السلام، عندما كانت حصون الدين تتعرض للتهديد من الخارج، كما حصل في عهد الامام الصادق، عليه السلام، عندما لاحظ الغزو الثقافي والعقدي محمولاً على الكتب المترجمة من البلاد الاخرى، وهي تشكك بوحدانية الخالق، وبصفاته، وتفترض تصورات للخلق والوجود وعلّة خلق الانسان وغيرها من المسائل العقدية، واستمر الامر في عهد الأئمة الاطهار، في ظهور بين فترة واخرى حسب مقتضيات الظروف آنذاك.

ومما يؤسف له حقاً ان نستغرق زمناً طويلاً في إثبات وجود هذه الحقيقة ليؤمن بها مثقفونا ومفكرونا طيلة عقود من الزمن مرت خلالها أجيال تشضّت بين "متحوّل عقدياً"، ومن انتمى الى تيارات معادية للدين وبات جندياً في مواجهة لا يدرك مستقبلها ومدياتها، ومنهم من تخلّى عن كل شيء والتحق بأهل النجاح والتقدم في الغرب، وربما تخلّى البعض عن التزماته الدينية هناك وترك لنفسه بعض الامور السطحية لحفظ الظاهر فقط! وبقي الواقع الاجتماعي (الاسلامي) يغوص في أزمات تلد أخرى، والحال مستمر حتى اليوم.

وما يدعو للتأمل؛ أن جدلية التراث والحداثة في دائرة الدين، ليست وليدة اليوم والبارحة، إنما تعود الى عقود مضت، وقد حضر مفكرون وعلماء من مغبة المضي في هذا الطريق غير محمود العواقب، ويجدر بنا نقل مقولة للشيخ محمد عبده، وهو من أعلام القرن التاسع عشر، وتوفي عام 1905، إذ يقول في هذا الصدد: "أولئك نبذوا الدين فنالوا الحرية والسيادة والسيطرة على العالم، ونحن نبذناه فمنينا بالذلة والانقسام والتفرقة والانحطاط والاستعداد لقبول كل ما يملى علينا ونجبر عليه ويلقى أمامنا".

ليس هذا وحسب، بل بالإمكان العودة الى أبعد من ذلك بكثير، حيث واقعة الطف، وموقف الامام الحسين، عليه السلام، في تلك الايام الفاصلة في التاريخ، من الاوضاع السياسية والاجتماعية المحيطة به، وكان إعلانه الشهير للتاريخ والاجيال: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالما، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، فهو لم يخرج لإصلاح الدين الذي سعى يزيد لتشويهه، فالمشكلة كانت في النفوس والضمائر والعقول، وكان لابد من تضحيات عظيمة بالعطش ومقتل الرضيع والابناء والاخوان والصالحين، ثم الحرق والسلب والنهب وايضاً سبي النساء لبعث الروح في جسد الامة، فتنهض وتدافع عن هذا الدين الذي ضحى من أجله هو، عليه السلام، ومن قبله أخيه وأمه، وأبيه، وجده المصطفى، ومن بعده الأئمة الاطهار وجحافل الصالحين والمجاهدين عبر التاريخ.

وللخروج من حيرة السؤال عن السبب في هذا الاستمرار الغريب في المتاهات "الإصلاحية" التي تستهدف الدين فقط وليس شيئاً آخر، يكفي ان نختبر قدراتنا في محاكاة الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، وايضاً قدرتنا على قراءته بشكل منطقي ومنصف، كما جربنا من قبل قراءة النظريات والافكار المستوردة، فلو أن المفكرين الغربيين الذي نقرأ لهم دوماً، تلفظوا يوماً الكلمة التي لا تفارق السنتنا بأن "هذا الشعب لا فائدة منه"! أو عبارات رديفة ومشابهة في الدلالة، لما كانوا يتركون أي بصمة في واقعهم الاجتماعي الذي عاشوه، ولم يتحولوا الى تلك الاسماء الكبيرة في عالم الفكر والحضارة بحيث تدين لهم الشعوب في تقدمها ورقيها.

لنلاحظ العلاقة الوطيدة واللصيقة بين المثقف والمجتمع في الغرب، فليس فقط المفكر والفيلسوف من ينتج الوعي لجماهيره، إنما الكاتب الروائي مثل فيكتور هوغو –الفرنسي- ووليام شكسبير – الانجليزي- والناقد المسرحي الانجليزي برناردشو، وايضاً الروائيين الروس، ليتحولوا الى ما يشبه الأئمة الهداة بالنسبة للشعوب المسيحية – والامثال تضرب ولا تقاس- رغم أنهم عاشوا في ظروف اجتماعية غاية في السوء والانحراف، حيث انتشار اللصوصية والفقر والطبقية، الى جانب ظواهر اجتماعية سيئة، مثل الربا والخيانة والغدر، بيد إن البدائل الايجابية والمضيئة التي قدموها للقارئ وللأجيال محت معظم البقع السيئة عن وجه المجتمع الغربي بشكل عام، مؤكدين على أن بالامكان صياغة الانسان الصالح والمفيد لنفسه ولمجتمعه.

اضف تعليق