التشبث بالسلطة إلى الأبد، واستخدام كل الأساليب بالأخص غير المشروعة للبقاء في ضمن الكابينة السياسية لقيادة الدولة، فهذا في الحقيقة فعل شنيع لا يرضاه أحد ويمقته الشعب بشكل قاطع، وقد يظن منتهجو هذه الأساليب بأنهم قادرون على خداع الناخبين إلى الأبد، لكنهم واهمون، ونعني بكلامنا هذا الكتل والأحزاب والشخصيات التي تريد أن تبقى في المقدمة دائما...
مع كل الاهتمام والإعجاب الذي حاز ويحوز عليه الإبداع الفردي، إلا أن هناك نكهة خاصة للعمل الجمعي، تجعله يتربع مكان القمة دونما سواه من العمل الفردي، وربما أروع وأجمل ما يمتاز به العمل متعدد الأطراف أو المشاركين أنه لا يتهاوى بالسرعة التي تُزاح بها الأفعال الفردية حيث يغلُب عليها الطيش والتعجّل والخيلاء، لدرجة حتى الأطفال يحبون الاتحاد بالفطرة، ويرددون مع بعضهم الجملة الشهيرة (الاتحاد قوة)، وهو بالفعل قوة لجميع أفراده المشاركين في المنجز الجمعي العلمي أو العملي.
تراثنا الشعب يمطرُ قصصاً ذات تجارب رائقة، منها تلك الحكاية الشعبية تقول أن أحد الآباء حين بدأ ملَك الموت يحوم فوق رأسه وكان يبغي انتزاع روحه من جسده، أرسل طالبا حضور أبناءه الذكور وهم كثر، طلب ذلك قبل أن يتوفاه الأجل كي يوصيهم بما لديه من خبرة في الحياة تقيهم من مكائدها وعثراتها، وفورا حضر جميعهم في لمح البصر، واستداروا حول أبيهم، وقالوا بكلمة واحدة، وصِّنا يا أبانا إننا مستمعون، وما أثار فضول الأبناء أن الأب كان يضع إلى جنب فراش الموت الذي كان مسجّى فوقه، حزمة من الأغصان اليابسة، بدأ الأب يوزّع على أبنائه حزمة الأغصان تلك بشكل منفرد، أي أعطى لكل ابن غصنا يابسا، وطلب الأب من ابنه الأول أن يكسر الغصن وفعل ذلك بسهولة، أي بمجرد أن ضرب الغصن بقبضته انقسم نصفين، ثم الابن الثاني فكسر الغصن من دون عناء، وفعل الثالث من دون أية صعوبة تُذكر، وكسر جميع الأبناء العشرة أغصانهم بسهولة، ثم طلب الأب أن يجمعوا له الأغصان في حزمة واحدة وفعلوا، فصارت الأغصان متينة وبالغة القوة، ثم طلب الأب من ابنه الأكبر أن يكسرها، فحاول بكل ما أوتيَ من قوة لكنه فشل، وجرَّب جميع الأبناء محاولة كسر الأغصان (المتحدة)، لكنهم لم يتمكنوا من فعل ذلك، هنا نظر الأب إلى أبنائه موجّها لهم وصيته الأهم من كل الوصايا الأخرى في نظره، وقال لهم، إذا تفرقتم عن بعضكم سوف يسهل كسركم وأنتم فرادى، وإذا اتحدتم فمن الصعب بل المستحيل أن يتمكن أعداؤكم من كسركم جماعةً.
الابتعاد عن إسقاط الآخرين
وهنا لا يقصد الأب وحدتهم المادية، وإنما وحدتهم في العمل والتنسيق والتعاون كي يفلحوا، إن ساستنا اليوم يفترض أنهم أخوة من رحم واحد وأرض واحدة ومصالح واحدة، لكنهم لم يستجيبوا لوصايا آبائهم التي لا تزال حتى هذه اللحظة تُعاد عليهم بين حين وآخر، فالمرجعية الدينية التي يصغي لها الجميع، ويمتثل لما تبديه من نصائح ووصايا، بحَّ صوتها كما أعلنت غير مرة، وهي توجّه الأبناء السياسيين وتوصيهم بحسن التدبير وجودة الإدارة والحرص على الأمة والشعب، وكثيرا ما أوصتهم بأهمية العمل الجمعي المتناسق، والابتعاد عن إسقاط الآخرين بالصراع، نعم يمكنك أيها السياسي أن تتقدم على غيرك من السياسيين ولكن بمعيار المنافسة الشريفة، فهذا المعيار أو المكيال هو الذي ينصفك ويمنحك درجة أعلى على غيرك من العاملين، أما الاحتيال والخداع والتخندق في موقع الحيلة والشر، واللهاث وراء المكسب الفردي السريع، فهذه كلها تعدّ عند الحكماء من توافه الأمور وصغائرها التي لا يصح أن ينشغل بها من هو مسؤول عن حياة الشعب وأرزاقه ورفاهيته وثرواته، والأخذ بيده إلى مصاف الدول والشعوب المتقدمة.
في الانتخابات النيابية الأخيرة، ظهر للعيان أمراض خطيرة أفرزتها النخبة السياسية (كتل، وأحزاب، وشخصيات)، ورافقتها أعمال حتى المبتدئون في العمل السياسي قد ينأون بأنفسهم عن اقترافها، وحين نعود إلى أوائل التغيير السياسي وأولى الدورات الانتخابية قد لا نستغرب ما رافقها من إجراءات خاطئة ومحرّمة من أجل كسب أصوات الناخبين، ولكن بعد عقد ونصف من عمر التجربة وما جرى في ميدان العمل السياسي الديمقراطي، بات من المعيب أن تغيَّب المنافسة الشريفة وأساليبها في الانتخابات، لتحل محلها عمليات بائسة كالتزوير على نطاق واسع وحرق صناديق الاقتراع، أو (تهكير) أجهزة العد والفرز الإلكتروني، أو السعي لإفشال الانتخابات من قبل الخاسرين بأية طريقة كانت، مقبولة أو غير مشروعة.
نقاء التاريخ السياسي
هذا كله يدل على عدم التزام السياسيين بوصايا الآباء، ولا هم ملتزمون بالتاريخ السياسي النقي لأئمة أهل البيت عليهم السلام، خصوصا الأحزاب والساسة التي تدّعي الانتماء لهم، أما البحث عن نجاح العراق وساسته، فإنه يستوجب بدرجة حاسمة، قبول نصيحة الأب أولا وذلك بالاتحاد، واعتماد مبدأ المنافسة، والنأي بالنفس (كتلة، أو حزبا، أو شخصية)، عن أساليب الربح الفردي الذي سرعان ما يتحول إلى خسارة تطيح بهؤلاء عاجلا وليس آجلا، لذا توجّب التخلي عن محاولات خلط الأوراق التي يسعى لها الخاسرون كما تشير دلائل الأمور، ومحاولة الظهور بمظهر الحريص على الشعب والوطن وعلى العملية السياسية، فالصحيح عليك أن تتقبل الخسارة برحابة صدر، حتى تكون مؤهلا للفوز في فرصة قادمة.
أما التشبث بالسلطة إلى الأبد، واستخدام كل الأساليب بالأخص غير المشروعة للبقاء في ضمن الكابينة السياسية لقيادة الدولة، فهذا في الحقيقة فعل شنيع لا يرضاه أحد ويمقته الشعب بشكل قاطع، وقد يظن منتهجو هذه الأساليب بأنهم قادرون على خداع الناخبين إلى الأبد، لكنهم واهمون، ونعني بكلامنا هذا الكتل والأحزاب والشخصيات التي تريد أن تبقى في المقدمة دائما على الرغم من أنها خسرت الانتخابات الأخيرة، فإذا قبلت بإرادة العراقيين وصححت مسارها إلى ما هو أفضل، من الممكن أن تعود إلى الصدارة بقوة، لكن الإصرار على تدمير وحدة العمل السياسي وقواعد اللعبة الديمقراطية، وتدمير النسيج الاجتماعي، واعتماد أسلوب التحايل وخلط الأوراق، هذه كلها أساليب تم كشفها وباتت أداة فضح للجهات التي تستخدمها لخلط الأوراق، ولا يمكن أن تعيد المزورين المخادعين إلى الصدارة.
وما على هؤلاء سوى العودة إلى نصيحة الآباء وهضمها جيدا، والعمل في ضوئها بعد الإيمان بها، فوحدة الصفوف، وقبول مبدأ الفوز والخسارة وتثبيت قواعد اللعبة ودعمها، والإيمان بأساليب المنافسة الصحيحة، كل هذه الاشتراطات سوف تضمن للخاسر فوزا جديدا، لكن الألاعيب المعيبة سوف تقود الخاسر إلى تحريف إرادة الشعب، لكنها ستقضي على من يلجأ إليها، ليصبح خارج حلبة المنافسة التي رفض الالتزام بقواعدها.
اضف تعليق