q
نظرية المطابقة هي خاطئة او بلا فائدة، في الحقيقة انه من الصعب التخلي عن هذه الفكرة الواضحة بديهيا وهي ان الحقيقة يجب ان تطابق الواقع. مع ذلك، فان الانتقادات اعلاه يجب ان تشير الى ان هذه الفكرة ربما لا تعطي تفسيرا شاملا لطبيعة الحقيقة. انها...

في الفكر الابيستيمولوجي هناك ثلاث نظريات في معرفة الحقيقة او ما اذا كانت الفكرة صحيحة او زائفة، سنحاول التعرف عليها تباعا:

1- نظرية المطابقةThe correspondence Theory

وهذه النظرية هي الاكثر شهرة والاوسع انتشارا في معرفة حقيقة الشيء من زيفه، وهي ترى بان الشيء الصحيح او الحقيقي هو مدى مطابقته للواقع. الفكرة التي تتطابق مع الواقع هي فكرة صحيحة بينما الفكرة التي لا تتطابق مع الواقع هي فكرة غير صحيحة او زائفة.

من المهم ملاحظة ان الصحيح"truth" هو ليس الحقيقة "fact". قد يبدو في هذا نوع من التناقض، لكن التمييز هنا يتم بين الحقائق والمعتقدات. الحقيقة هي مجموعة من الظروف السائدة في العالم بينما العقيدة هي رأي حول ماهية تلك الحقائق. الحقيقة لا يمكن ان تكون اما صحيحة او زائفة ذلك لأنها ببساطة هي الطريقة التي يكون فيها العالم. العقيدة يمكن ان تكون صحيحة او زائفة لأنها قد تصف او لا تصف بالضبط ذلك العالم.

في ظل نظرية المطابقة، السبب الذي يجعلنا نصف عقائد معينة بانها "حقيقية" هو لأنها تتطابق مع تلك الحقائق حول العالم. وهكذا، الايمان بان السماء زرقاء هو ايمان "حقيقي" بسبب حقيقة ان السماء زرقاء. الى جانب العقائد، نحن نستطيع اعتبار البيانات والفرضيات والجمل يمكن ان تكون حقيقية او زائفة.

فكرة ان الحقيقة تعتمد على مطابقتها للواقع يمكن تعقبها الى افلاطون وقد وردت ايضا في فلسفة ارسطو. غير انه منذ وقت ليس ببعيد وجد النقاد مشكلة ربما افضل ما يمكن التعبير عنها في تناقض او مفارقة ايوبلدس Eubulides، التلميذ في مدرسة ميغارا للفلسفة والتي كانت دائما في تضاد مع الافكار الافلاطونية والارسطية.

طبقا لايوبلدس، فان نظرية المطابقة تتركنا في حيرة عندما نواجه اقوالا مثل "انا اكذب" او "ما اقوله هو زائف". تلك الاقوال يمكن ان تكون زائفة. فهي اذا كانت صادقة بسبب مطابقتها للواقع، عندئذ فانها كاذبة واذا كانت زائفة لكونها تفشل في المطابقة مع الواقع، فلابد اذاً ان تكون صادقة. وهكذا، لا يهم ما نقوله حول الحقيقة او الزيف في هذه الاقوال، فنحن ندخل في تناقض مباشر مع انفسنا.

هذا لا يعني ان نظرية المطابقة هي خاطئة او بلا فائدة، في الحقيقة انه من الصعب التخلي عن هذه الفكرة الواضحة بديهيا وهي ان الحقيقة يجب ان تطابق الواقع. مع ذلك، فان الانتقادات اعلاه يجب ان تشير الى ان هذه الفكرة ربما لا تعطي تفسيرا شاملا لطبيعة الحقيقة. انها وصف معقول لما يجب ان تكون عليه الحقيقة، لكنها قد لا تكون وصفا كافيا للكيفية التي تعمل بها الحقيقة في الذهن الانساني وفي المواقف الاجتماعية.

نظرية الانسجام The coherence Theory

وهذه النظرية هي الثانية من حيث الشهرة بعد نظرية المطابقة، وهي عادة تبدو كوصف دقيق للكيفية التي يعمل بها تصورنا للحقيقة. الايمان يكون حقيقيا عندما نكون قادرين على دمجه ضمن اسلوب منطقي ومنتظم مع نظام من العقائد اكبر حجما واكثر تعقيدا، اي ان العقيدة هي حقيقية عندما تنسجم مع مجموعة عقائدنا الاخرى بدون اي تناقض. احيانا قد يبدو هذا طريقة شاذة لوصف الحقيقة. العقيدة يمكن ان تكون وصفا غير دقيق للواقع وتنسجم مع نظام اكبر واكثر تعقيدا لأوصاف اخرى غير دقيقة للواقع، طبقا لنظرية الانسجام، ان العقيدة غير الدقيقة لاتزال تسمى حقيقية حتى عندما لا تصف بالفعل الطريقة التي فيها العالم حقا. فهل هذا يخلق اي معنى؟

ربما نعم والسبب هو لأن الاقوال لا يمكن اثباتها في مناخ من العزلة. فنحن حين نختبر الفكرة انما نختبر في نفس الوقت مجموعة كاملة من الافكار. فمثلا، عندما نلتقط كرة في يدنا ثم نلقي بها نحو الارض فهي ليست ببساطة ايماننا في الجاذبية التي تم اختبارها وانما ايضا ايماننا بمجموعة من اشياء اخرى من ضمنها احساسنا البصري. لذا، اذا كانت الاقوال تُختبر فقط كجزء من مجموعة اكبر عندئذ يمكن للمرء الاستنتاج بان القول يمكن تصنيفه كحقيقة ليس بسبب انه يمكن التثبت منه امام الواقع وانما لأنه يمكن ان يتكامل مع مجموعة من الافكار المعقدة، عندئذ كامل المجموعة يمكن اختبارها امام الواقع.

في هذه الحالة تكون نظرية الانسجام ليست بعيدة عن نظرية المطابقة والسبب هو انه بينما الاقوال الفردية يمكن الحكم عليها كصادقة او كاذبة بناءا على قابليتها للانسجام مع نظام اكبر، فانه يُفترض بان ذلك النظام هو نظام يتطابق بدقة مع الواقع. وبسبب هذا، فان نظرية الانسجام تنجح بالفعل في الامساك بشيء ما حول الطريقة التي نتصور بها الحقيقة في حياتنا اليومية. ليس من الغريب ان نرفض شيء ما باعتباره زائف لأنه يفشل في الانسجام مع نظام من الافكار نثق بصحتها. قد يكون النظام الذي نفترض ان يكون حقيقي هو تماما غير صحيح، ولكن طالما يستمر بنجاحه و قادر على اجراء التعديلات البسيطة في ضوء البيانات الجديدة، فان ثقتنا به تكون معقولة.

النظرية البرجماتية في الحقيقة

هذه النظرية تقرر ما اذا كانت عقائدنا صحيحة ام زائفة بناءاً على ما اذا كان لها تطبيق مفيد في العالم. اذا لم تكن لها فائدة فهي ليست حقيقية. كما في نظرية الانسجام، الحقيقة بهذا المعنى لا علاقة لها بالطريقة التي يكون فيها العالم حقا وانما هي فقط وظيفة حول ما اذا كانت الفكرة يمكن استخدامها كنموذج لعمل تنبؤات مفيدة لما سيحدث في العالم. وبالنتيجة الحقيقة البرجماتية يمكن تعلّمها فقط من خلال التفاعل مع العالم: نحن لا نكتشف الحقيقة بالجلوس وحيدين في غرفة والتفكير بشأنها.

هناك بالطبع عدد من المعارضات الواضحة يمكن ان تبرز ضد النظرية البرجماتية. فكرة "ما يعمل" هي غامضة. ماذا سيحدث عندما العقيدة تعمل بمعنى معين لكنها تفشل في معنى اخر؟ فمثلا، الايمان بان المرء سينجح قد يعطي الفرد قوة سايكولوجية لإنجاز الكثير ولكن في النهاية هو قد يفشل في هدفه النهائي. فهل عقيدته حقيقية؟

كذلك، عندما تعمل العقيدة بهذا المعنى، لماذا نسميها حقيقية؟ لماذا لا نسميها شيء مفيد؟ المفيد ليس هو نفس الايمان الحقيقي، والشيء الاسوأ هو ان الناس لا يستعملون كلمة حقيقي في محادثاتهم العادية لتعني مفيد. فمثلا، بالنسبة للفرد العادي، مقولة "من المفيد الايمان بان زوجتي هي مخلصة" لا تعني ابدا نفس القول "من الحقيقي ان زوجتي مخلصة". ربما العقائد الحقيقية هي ايضا العقائد المفيدة، ولكن ليس دائما. كما يقول نيتشة، بعض الاحيان غير الحقيقي ربما اكثر فائدة من الحقيقي.

اذاً البرجماتية ربما هي وسيلة ملائمة للتمييز بين الحقيقي و غير الحقيقي. الاشياء الحقيقية يجب ان تنتج نتائج يمكن التنبؤ بها في حياتنا. لكي نقرر ما هو الحقيقي وما هو غير الحقيقي فمن المعقول التركيز بشكل اساسي على تلك الافكار التي تعمل( لها فائدة عملية).

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق