q

د. هيثم الحلي الحسيني

 

إن الديمقراطية كنهج للحياة في الدولة والمجتمع، لا تعتبر نظاماً سياسيا فقط، فهي تحيط بالحياة العامة في جميع مجالاتها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتتشكل بها المسارات الرئيسة، للبناء الديمقراطي السليم للدولة.

إن الديمقراطية السياسية، لا تكون ذات أثر عملي، دون أن تكملها الملاحق المتممة لها، ضمن المسارات الديمقراطية الأخرى، سواء في الإقتصاد أو المجتمع، أو مناحي الثقافة والإبداع والحريات العامة، في الفكر والرأي، ويعبّر عن هذه المنظومة المتكاملة، في الأدوار والمهام والواجبات، بدولة المؤسسات، وهي شكل التنظيم السياسي للدولة، الذي تتجلّى به المأسسة والمنهجية، في الإدارة وآليات صنع وإتخاذ القرار، والدور المجتمعي والثقافي، الذي يعتمد الديمقراطية كنهج للدولة، والتخطيط الحكومي المنهجي، في بناء مؤسساتها، وتفعيل أدوارها ومهامها.

فالديمقراطية السياسية، تتحقق من خلال أنشطة وفعاليات المؤسسة السياسية، التي تتشكل من الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية، والتي تنعكس في سلوكيات الدولة وسياساتها، فيما تتشارك مؤسسات الدولة في المجالات الأخرى، والتي يضطلع فيها النشاط الخاص، بدور اللاعب الرئيس، فيما المسارات الديمقراطية الأخرى، تنهض فيها مكونات المجتمع المدني، وهو المجتمع التعاقدي المنظّم وفق القانون، مقابل المجتمع الطبيعي، القائم على المصالح والمنافع الفئوية.

إن مفاهيم المجتمع المدني، وأغراضه وأهدافه، وأدواره التي يضطلع بها في دولة المؤسسات، والإتجاهات المستقبلية المخطط لها، في تنشيطها وتفعيلها، تضمن إستقامة النظام الديمقراطي، وثوابته وآلياته، وبالتالي نشر ثقافته، وتعميم الوعي المجتمعي، في تبيان حقوق الفرد وواجباته، من خلال مهام المجتمع المدني، بصفتها الضمانة الأساس، في العملية الديمقراطية.

إن مسارات العملية السياسية، والسجال المحتد بين الفاعلين فيها، وإحتمالات إنعكاسات تداعياته المجتمعية، في مستقبل بناء الدولة، وإستقرار أمنها الوطني، وضمان السلم المجتمعي فيها، تستدعي الحاجة والضرورة، لإستقراء وتعميم ونشر، ثقافة الديمقراطية ومتبنياتها، في فلسفتها وآلياتها، والذي يشكل الحجم الرئيس فيها، بنيوات المجتع المدني وتنظيماته.

توفر الديمقراطية بوصفها أسلوب ومنهج في الحياة، فرصة لذوي الكفاءات وأنشطة الخدمة المجتمعية، من ذوي المعارف والمهارات المنتجة والخلاقة، للعمل والإبداع للصالح العام، بما يضمن تقدمهم للمجتمع، وتيسير مخرجات إمكاناتهم فيه، فتتشكل بهم الجمعيات والفعاليات المجتمعية، والتي يعبّر عنها في أدبيات المجتمع المدني، بالمنظمات غير الحكومية NGOs، "nongovernment organizations"، وفق دستور الدولة الديمقراطية، الذي يمنحهم امكانية المشاركة، في مجمل أنشطة العمل العام.

إن المجتمع المنظّم، هو الذي تكون هيئاته وتنظيماته، هادفة إلى منح جميع أفراده، الفرص الكافية، المتكافئة والمتعادلة، لإشباع حاجاتهم في الحرية والحياة الكريمة، ولكي يتمكن المجتمع من الإرتقاء لهذا المعنى، لا بد لطليعة أفراده أن يؤدوا الخدمة للصالح العام، بحيث يشعر هذا الفرد، انه يؤدي دوره في الحياة، إذا اشتغل لأجل المجتمع.

من خصائص الديمقراطية، أنها تدفع أصحاب الموهبة والكفاءة للبروز، وتوفر لهم أسباب العمل والنجاح، والبيئة التي تساعد على إشغالهم المواقع التي يستحقونها، فتفتح أمامهم الطريق واسعا، ليظهروا إمكاناتهم في ميدان العمل العام.

إن هذا الكسب الذي يبدو في النظرة الضيّقة، إنه مكسب فردي، غير أنه في الواقع العملي والمحصلة النهائية، إنما هو مكسب للمجتمع، ليتقدمه ويقوم بخدمته، من هو الأكفأ والأجدر على ذلك، ولذلك فان على النظام الديمقراطي، أن يجري نفس آلية التنافس الحر في اختيار القادة للنظام السياسي، ومثلها في إختيار المؤهلين للخدمة الاجتماعية العامة، عملا بالمثل القديم "الوظيفة هي التي تظهر قدرات الإنسان".

فمن أجل إعداد القادة المؤهلين للخدمة الاجتماعية، يوفر المجتمع الديمقراطي فرصة للنخب المؤهلة وذات الكفاءات النوعية، للانضمام إلى مجموعة كبيرة من المنظمات والجمعيات والهيئات والمؤسسات التطوعية، غير الحكومية، NGOs، فيما يطلق عليها اصطلاحا، بالمجتمع المدنيsociety civil، C.S..

برغم أن مفهوم المجتمع المدني، هو أكثر إتساعا من ذلك، لأنه يشمل أنشطة وفعاليات أخرى، فاعلة في المحتمع، وإن تكن غير منخرطة بتنظيم أو منظمة، ومنها دور الفرد والأسرة، وحتى العشيرة، في المجتمع ذات الطبيعة القبلية، وكذلك دور الرأي العام، والنشاط الجماهيري العفوي، وحركة الشارع ونبضه ومزاجه، ورؤيته للحكم والدولة، وتطلعاته ورغباته وحاجاته، فضلا عن فعالياته المختلفة، المنظمة منها وغير المنظمة، غير أن هذه المنظمات، لجهة كونها الحجم الرئيس في الفعاليات المجتمعية، أصبح عنوانها متماه ومعبر عن المجتمع المدني.

إن هذه المنظمات غير الحكومية، التي يتشكل منها الحجم الأكبر من المجتمع المدني، لا تخضع لسيطرة الحكومة، ولا تمولّ من قبلها، وان من حق الأفراد في المجتمع الديمقراطي، الانضمام بحرية اليها بشكل واسع، وهذا أمر جوهري وأساس، بالنسبة للنظام الديمقراطي وآلياته، فعندما تتّحد وتشترك مجموعة من الأفراد، أو جزء من المجتمع، تربطهم مصلحة مشتركة، أو اهتمام مشترك، فذلك يمنحهم قدرة أكبر، لإسماع أصواتهم، وإمكانية تأثيرهم، في مجمل المسائل العامة في الدولة والمجتمع، مما يؤهلهم لان يكون لهم صوت مسموع في قضايا الساعة العامة، ورأي في القرارات والإجراءات التي تتخذ في هذا الشأن، بما يعبر عنه بمجموعات الضغط.

وبالتالي سيكون لهم حضور في مراكز صنع القرار ومتابعة تنفيذه، وهي المجلس أو الجمعية أو الهيئات المنتخبة، ذات الوظيفة التشريعية أو الرقابية أو الاستشارية في الدولة، إذ أن تمتع مكونات المجتمع المدني، بدرجة من الاستقلالية، يحفظ لها مكانا وسطا بين الدولة وعموم المجتمع، بما يضمن للحكومة المنتخبة، ويفرض عليها، إضطلاعها بالدور المتوازن، في التعبير عن إرادة القاعدة الشعبية، وثوابت الأداء الديمقراطي.

يعود مصطلح المجتمع المدني، إلى فلاسفة العقد الاجتماعي، الذين تعاملوا مع العلاقات التنسيقية والتعاونية بين الأفراد، باعتبارها علاقات منشئة للمجتمع وحافظة لاستقراره، ثم تطوّر المفهوم، ليوصف باعتباره شبكة من التفاعلات التلقائية، القائمة على العادات والأعراف والتقاليد، بما يعبر عنه بالثقافة العامة culture، ضمن المفهوم الأوسع للمفردة، ليتميز بذلك مقصد المجتمع المدني، عن مفهوم الدولة، التي توصف بأنها مجموعة من المؤسسات السياسية والقانونية، التي تمارس في إطارها، شبكة العلاقات المكوّنة للمجتمع.

وبرغم هذه الجذور التاريخية للمفهوم، إلّا أن استخدامه بشكل مكثف في أدبيات السياسة المقارنة، ارتبط بالتطور في إتجاه الديمقراطية ومدركاتها، وعليه فان مفهوم "المجتمع المدني"، قد ولد في رحم البناء الديمقراطي، فاصبح يعبّر عن مجموعات المنظمات الاجتماعية غير الحكومية، التي تتمتع باستقلاليتها عن الدولة، وتعبّر عن إرادة القاعدة الشعبية الإجتماعية، وتمثل المؤشر الإجتماعي للحكومة، والضمانة للثوابت الديمقراطية فيها.

ولجهة الحكومة، فان المجتمع المدني يمثل الضمان لحصولها على الثقة الشعبية، من خلال نواب الشعب وممثليه المنتخبين، والمصدر الحيوي لاختيار الائتلاف السياسي وتكليفه لتشكيلها، فهو ليس جزءا من الحكومة أو الدولة، ولا يهدف أو يسعى، لإشغال أية مواقع في مؤسساتها، ولا يشكل جزءا من سلطاتها، وإن كان يعبّر عنه مجازا، بسلطة رابعة أو خامسة، بقصد تبيان دوره الرقابي المجتمعي، ونشاطه الإستشاري، وممارسته في توفير المعلومات الأساس، لمؤسسات الدولة وسلطاته.

وعليه فالمجتمع المدني، لا يمارس العمل السياسي التقليدي، أسوة بالأحزاب والكيانات السياسية، الذي يبتنى على التنافس الإنتخابي، والسعي للفوز في العملية الإنتخابية، في ممارسة التداول السلمي للسلطة، فذلك خارج مهامه وإختصاصه وأهدافه، فهو يمارس دورا رقابيا حصريا، من خلال مجموعات الضغط، فضلا عن أدواره الرئيسة في الخدمة المجتمعية.

ينعكس مفهوم "المنظمة" في الإدارة، على مجمل مكونات المجتمع المدني، التي يعبر عنها بالمنظمات غير الحكومية، فالمنظمة هي وحدة بناء المجتمع المدني، وعندما يضبط عمل المنظمة، وفق أساسيات الأداء الديمقراطي، ينسحب ذلك على أداء المجتمع المدني، فالمنظمة هي ترتيب أو كيان اجتماعي، تجري فيه السيطرة على الأداء، وتوجيهه نحو تحقيق أهداف اجتماعية، وهي ليست مجرد كيانات مادية ومعنوية، بل هي قبل ذلك، كيانات حية، تنشأ وتنمو، وتحيا أو تموت، ضمن البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، التي تحيط بها وتتفاعل معها.

عليه فلأجل أن تحيا هذه المنظمات وتنمو وتتطور، لا بد من إيجاد البيئة والوسط الملائمين لذلك، إذ أن هنالك بعدين في العمل، لأية منظمة أو مؤسسة، الأول هو "البعد الفلسفي"، وهو الأساس النظري الذي تقوم عليه فكرة أي عمل أو نشاط ضمن المنظمة، ويتحدد ضمن الاتجاه المادي أو الفكري المثالي. أما البعد الثاني، فهو "بعد الإنجاز"، وهو الأساس والبناء التطبيقي، الذي يعمل على تحويل الأفكار والمبادئ، إلى واقع ملموس.

وهنالك إتجاهان في البعد الإنجازي، الأول يؤكد على الأساس الفردي للعمل والإنجاز (individualism)، ويضع مصلحة الفرد فوق كل اعتبار، على أساس أن جميع القيم والحقوق والواجبات، تنبثق من الأفراد، وان الفرد هو وحدة التنظيم الرئيسة، وهذا الإتجاه من المنظمات، منتشر في المجتمع الغربي.

أما الاتجاه الثاني، فهو الذي يؤكد على قيم الجماعة وأهميتها وأسبقيتها، وان الإنجاز الجماعي هو الأساس، والمصلحة الجماعية تأتي بدرجة سابقة لمصلحة الفرد، عليه فان الجماعة في هذا الاتجاه من المنظمات، هي وحدة التنظيم الرئيسة، وهذا الأسلوب منتشر في المجتمع الياباني مثلا.

إن التركيز على وحدة الفرد التنظيمية، يشجع على التفوق والتنافس نحو الأفضل في العطاء والإبداع، في حين أن وحدة الجماعة التنظيمية، ستمنع إشاعة نظرة التفوق والفردية، وحب الذات، وتشيع العمل الجماعي المرتبط بقيم التعاون والتكامل الإبداعي.

وعليه فان المنظمات التي تنسجم ومتطلبات مجتمعاتنا، لا بد لها من تحقيق الموازنة بين الإتجاهين، الفردي والجماعي، لتكون النموذج الأمثل في العمل والأداء، وصولا إلى ما يمكن أن يطلق عليه، بالمنظمات المجتمعية المتكاملة.

اضف تعليق