في العراق وكنتيجة لحرمان الجمهور من حقهم الانتخابي طيلة وجود الأنظمة الفردية الانقلابية، لم تتبلور بنية فكرية انتخابية رصينة، ولم يتشكل وعي جمعي أو فردي يفهم حجم المسؤولية وعمقها ومدى خطورتها، لهذا انتشرت في بعض الأحايين سلوكيات انتخابية شائنة، منها يقع على عاتق المرشّح وأخرى على عاتق الناخب...
الناخب هو الذي يحق له انتخاب من يمثله في التشريع أو التنفيذ وفي صنع القرار، والانتخاب يقع ضمن سياسات الأنظمة الديمقراطية، وجاء في تعريف ومعنى الناخب في قاموس المعجم الوسيط، النَّاخِبُ أو المُنتخِب، انْتَخَبَ الشيءَ أي اختارَه، ونُخْبةُ القَوم ونُخَبَتُهم أي خِـيارُهم، وقال الأَصمعي: يقال هم نُخَبة القوم، بضم النون وفتح الخاءِ، وثمة كلمات قريبة من ذلك، مثلا سَتَبْدَأُ الحَمْلَةُ الانْتِخابِيَّةُ في بِدايَةِ الأسْبوعِ الْمُقْبِلِ أي الدِّعايَةُ لِلْمُرَشَّحينَ الَّذينَ سَيَنْتَخِبُهُمُ الْمُنْتَخِبُونَ.
وتتبلور اتجاهات الناخبين تبعا لميولهم وثقافتهم ووعيهم الفكري، وفي الأغلب تتشكل قاعدة الانتخاب في إطار بنية فكرية تمنحها بيئة المحيط الاجتماعي للناخب، وهذا يعني أن المجتمع وثقافته لها الدور الأهم في توجيه خيارات الناخبين، مُضافا إليها الثقافة الذاتية للناخب نفسه، من هنا يتضح أن البنية الثقافية والفكرية للناخب سيكون لها القول الفصل في منح الصوت الانتخابي لهذا المرشَّح أو ذلك.
وحين تكون بنية الثقافة الانتخابية تقليدية لا يطولها التحديث والمغايرة، ولا نجد فيها ما يواكب المستجدات والتطورات في الوعي والثقافة، فإننا كدولة وكأمة سنكون في مواجهة نتائج مخيبة للآمال، بسبب الانتخاب الآلي الذي يأتي كأنه إسقاط فرض لا أكثر، أي أن الناخب في هذه الحالة كأنه يريد أن يتخلص من عبء يثقل كاهله ويريد أن يتخلص منه بأسرع وقت ممكن وبأية طريقة كانت!!.
ولكن الأمر ليس كذلك بتاتا، فالناخب بمنحه صوته إلى هذا المرشح أو ذاك، إنما ينبغي أن يتوخى صحة القرار، وصلاح الاختيار، كون الأمر لا يتعلق بشخصه، فهناك الملايين من الشعب يتعلق بهم صوته وما سيؤثر بصورة وأخرى على النتائج الانتخابية، ومنح الشرعية بصورة صحيحة أو خاطئة للمرشحين، فالأمر في هذه الحالة يحتاج إلى انطلاق الاختيار من قاعدة ثقافة ووعي محدث، مواكب للتطورات الحداثوية في العصر، وأي توجّه مخالف أو قاصر لا شك سيؤدي إلى نكوص في الاختيار أو عملية منح الصوت الانتخابي.
في العراق وكنتيجة لحرمان الجمهور من حقهم الانتخابي طيلة وجود الأنظمة الفردية الانقلابية، لم تتبلور بنية فكرية انتخابية رصينة، ولم يتشكل وعي جمعي أو فردي يفهم حجم المسؤولية وعمقها ومدى خطورتها، لهذا انتشرت في بعض الأحايين سلوكيات انتخابية شائنة، منها يقع على عاتق المرشّح وأخرى على عاتق الناخب، فالأول لجأ في أكثر من دورة انتخابية إلى أساليب إعلان وحملات ترويج مخادعة، مشوهة، تسعى لتسويق المرشح بطرق بائسة تستغل حاجة الناخب أبشع استغلال، مثل توزيع بعض الحاجيات التي يفتقد لها الناخب، وهي حاجات قليلة الثمن تسد بعض الاحتياجات البسيطة للناخب ولكن لأنه يفتقدها ربما يوافق على منح صوته لمن يقدمها له.
والواقع الحالي يحمل لنا الكثير من الأمثلة عمّا دوَّناه في أعلاه، ووسائل الإعلام المختلفة، كالقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي وسواها، نقلت لنا الكثير من هذه الأمثلة التي أكدت على رداءة البنية الانتخابية الفكرية للناخب والمرشّح على حد سواء، فالناخب لا يُعفى من مسؤوليته حتى لو كان العوز والفقر يحاصره ويطيح به، ويدفعه نحو منح صوته الانتخابي الى من لا يستحقه من المشترين لصوته بأقلّ الأثمان وأسوأ أساليب الخديعة، وحتما أن الناخب سوف يخاطِر عبر هذا السلوك الشائن، بحاضره ومستقبل الأجيال القادمة، في مقابل ثمن بخس، وهو سلوك وغير شرعي ولا مسموح به من الطرفين الناخب والمرشّح، مهما كانت الظروف أو درجة الفقر والعوز والحاجة للناخبين.
وقد يتبادر إلى أذهان كثيرين تساؤل مفاده، ما هو السبب الأساس الذي يدفع بقطبيّ العملية الانتخابية إلى مثل هذه الأساليب المتدنية؟، وستأتي الإجابة بوضوح لا يقبل اللبس، أن البنية الفكرية الانتخابية هشة وقائمة على أسس غير سليمة، بحيث باتت الحاجة إلى دعم وترميم وتطوير البنية الفكرية للسلوك الانتخابي أمرا لا يقبل التأجيل، بالأخص أن التجربة العراقية في بناء دولة المؤسسات لم تعد تحتما التسويف أو التأخير، ولا يمكن أن تبقى المصالح الحزبية والعائلية والفردية تتفوق بكثير على المصالح الوطنية ومصالح عموم الشعب.
ومن الآن فصاعدا لابد أن تتحرك النخب المعنية في بناء الشخصية الانتخابية بشقيْها الناخب والمنتخَب أو المرشّح، بأقصى وأدق ما يمكن من عمليات البناء في هذا المجال، فالقضية برمتها باتت على المحك، وقد بلغ السيل الزبى، وما على الجهات السياسية والفكرية النظرية والإجرائية سوى الشروع الفوري بوضع الخطط اللازمة للارتقاء بوعي الناخب والمرشح وسلوكهما إزاء العملية الانتخابية، وتخليصهما من الموروث البائس للأنظمة السياسية غير الديمقراطية.
ولكن كيف يتم ذلك؟ سؤال بالغ الأهمية يجب أن تتم دراسته وتطبيقه بنفس مستوى الأهمية التي أوجبت طرحه على المعنيين، فالقضية هنا ليست كمالية ولا تكميلية، إنما هي تحتل مكانتها في الدرجة القصوى من حاجة العراقيين إلى تصحيح المسار الانتخابي، وربما العملية السياسية التي عانت من كثير من الزلل والأخطاء المقصودة أو تلك التي فرضت نفسها فرضا على الناشطين في السياسة.
وربما يعد ذلك من أهم الأسباب التي حدت بالمهتمين من المفكرين والعلماء وبقية قادة النخب وقواعدها، بأولوية التصحيح والتغيير والتعويض بما هو أكثر جودة وإتقانا في إحكام العملية الانتخابية وضبط إيقاعها كي نبني ناخبا ذكيا واعيا مخلصا لوطنه وشعبه ونفسه، ومرشّحا يدرك ما هي أهمية وصوله وحصوله على الصوت الانتخابي، وما يعقب ذلك من أهمية قصوى في بناء دولة العدالة وحماية الحقوق والحريات؟.
ويبقى الأمر منوطا بمن في يده تعديل المسار الانتخابي لما هو أفضل وضامن لبلوغ العراقيين مرتبة المسؤولية الانتخابية الأتم والأكمل، لأن بقاء الحال على ما هو عليه قد يؤول إلى تضييع الفرصة الذهبية لبناء دولة الوطن والمواطن المتكافئة، وهذا الأمر في تقديرنا مرتبط بصورة جدلية بالمساعي التي تُبذَل في مدار تنمية الوعي والثقافة والفكر الديمقراطي الانتخابي لأقطاب العملية الانتخابية بما يضمن أداء الدور الانتخابي المسؤول في أكمل وجه.
اضف تعليق