التجربة الديمقراطية العراقية نجحت في ترسيخ الكثير من الأسس لميلاد دولة ناجحة، وهذه الأسس في طور التحسن وتتمثل في انتشار ثقافة القانون ومحاولات إيجاد نظام اقتصادي الى النظام الأمني الذي يعد الانجح الان، والى الحقوق المدنية العامة واولها حرية الراي والتعبير، لكن هذه التجربة الوليدة قد فشلت في الكثير من التفاصيل من بينها انتشار الفساد والهدر بالمال العام وهي حالات يمكن معالجتها لو تم اصلاح النظام الحالي وليس الغاؤه...
الديمقراطية عموما تقوم على حرية الفكر والنقاش في مختلف القضايا بغية تكوين اراء صحيحة للمواطنين، كما انها تسهم أيضا في اصلاح الثغرات التي توجد في النظام الاجتماعي العام، سواء بسبب اغفالها من قبل الذين سبقونا او بفعل المتغيرات الجديدة التي تجعل التعديل على النظام القائم امرا لا بد منه.
التجربة الديمقراطية العراقية هي وليدة التزاوج بين الرغبات الغربية والوطنية الخالصة في تحالف أدى الى اسقاط نظام الحكم الديكتاتوري، وحل محله تشكيلة متنوعة من الأحزاب والطوائف والقوميات، وبشكل طبيعي نالت التجربة الوليدة حظها من النقد المستمر منذ عام 2003 لحظة ولادتها الى ان وصلنا الى أيامنا هذه حيث زرعت الشوارع والبنايات العالية بالدعايات الانتخابية.
وكما هو معتاد تم تناول هذه التجربة بالأسود والأبيض، فهناك من يراها انها حولت العراق الى جنة عدن، وبكل سهولة يقارنها مع ما كان يحدث في حقبة البعث السوداء، اما الفريق الاخر فاخذ اللون الأسود بكل قتامة ليعبر عما يحدث في العراق، والتحولات التي كانت واضحة لاكثر من عقد من الزمان، حاول هذا الفريق حشد اكبر قدر من الأدلة والتقارير الدولية من اجل اثبات ان العراق هو الأسوأ على مستوى العالم، ليسقط هذا الفريق في فخ تسقيط سمعة الدولة العراقية امام الراي العام العالمي، في حين انه لا يهدف الى ذلك انما كان يقصد في الغالب من يحكمون البلد، أي الحكومة.
كان هذا الفريق مستعدا للتحالف مع أي جهة لاثبات ان حكومة العراق بشخوصها الحالية غير مؤهلة لحكم البلد، بل انه حول صورة البلد الى مستنقع من الفساد والتزوير، وهي أمور فيها الكثير من الحقيقة لكن فيها الكثير من الجوانب التي شوهت صورة البلد، اذ كانت هناك وسائل أخرى اكثر فائدة للطرفين الحاكم والمعارض وبما يسهم في الارتقاء بالبلد لا تسقيطه امام الراي العام العالمي.
في مقالنا السابق في "شبكة النبأ المعلوماتية" حول التجربة البعثية وضعنا أربعة أسس يجب على كل حكومة ان توفرها والا فقدت شرعيتها وهي:
الاول: ان يوجد معيار للسلوك الاجتماعي العام يحدد العلاقة بين المواطنين أنفسهم وبين المواطنين والحكومة، وهو ما يسمى بـ "القانون".
الثاني: اقتصاد قوي يلبي متطلبات العيش للمواطنين.
الثالث: جهاز أمنى قادر على منع أي اعتداء على ممتلكات المواطنين او حقوقهم.
الرابع: ان يكون للمواطن حرية الحديث عن القضايا العامة دون قيود من أي جهة كانت.
وفي نفس المقال حاولنا تتبع هذه الأسس ومدى توافرها في حقبة البعث، فوجدناها غائبة تماما، اذ لا قانون فوق الحزب، والعلاقات بين الناس يحددها مستوى القرب او البعد عن الحزب، كما ان الاقتصاد غير موجود أصلا، حتى ان البلد وصل الى مرحلة مبادلة النفط بالغذاء، والجهاز الأمني كان وحشيا لدرجة ان مركزا امنيا مثل "الشعبة الخامسة" في بغداد أصبحت في ذلك الوقت مرادفا حقيقيا للموت، وفي النتيجة اغتيل صوت المواطن وسجن لسانه حتى التاسع من نيسان عام 2003 في أسوأ حقبة مرت على تاريخ العراق الحديث.
بالنسبة للتجربة الديمقراطية، فان اهم ما افرزته انها حررت العلاقة بين المواطنين الى حد بعيد، واستطاعت ان توفر مجالا واسعا من الحوار بينهم وان يكونوا اقرب للمساواة بنسبة تكاد تكون كبيرة، واصبح بإمكان المواطن ان يذهب ويقدم شكوى على مدير الدائرة الفلانية، او حتى مسؤول الحزب الفلاني، ويمكنه ان يزاحمه في الكثير من الأمور.
الا ان هناك أيضا الكثير من ترسبات حزب البعث لا تزال عالقة في اذهان الشخصيات الحزبية وخاصة الأحزاب التي عانت من ظلم حزب البعث، وكانها تريد ان تأخذ بالثار من الظلم الذي لحق بها من خلال اسقاطه على المواطن، وهي في المحصلة حالة طبيعية تفرزها تجربة فتية ويمكن معالجتها باتباع أساليب عدة من بينها اللجوء الى القانون، واذا ما فشل القضاء في اخذ الحقوق فان وسائل الاعلام بتعددها يمكن ان توفر وسيلة ضغط كبيرة تعدل من مسارات الاحداث.
وهنا فان النقد الذي يوجه لهذه التجربة لا يعني دوما الحنين الى حقبة البعث، اذ ان ما نعيشه اليوم بمساوئه الكثير يكون افضل بكثير من نظام لا يعرف سوى لغة الزنازين والقتل بالغازات السامة والاعدامات، فالافضل هو محاولة اصلاح ما نحن عليه وليس محاولة الغائه تماما.
على المستوى الاقتصادي، فالحقيقة الظاهرة للعيان ان عدد ميسوري الحال تضاعف عشرات المرات، والدولة لها ميزانية عامة تحدد مستويات الصرف ومجالاته يقرها برلمان منتخب، كما ان هناك محاولات لترشيد الانفاق ووضعه في اسسه الصحيحة، واصبح المعلم يستطيع ان يشتري بيتا وسيارة، وله القدرة على السفر الى الخارج كما انه قادر على شراء الكثير من الحاجات الكمالية مضافة الى اشباع حاجاته الأساسية.
والحال ينطبق على التعليم العالي فالاستاذ الجامعي اليوم له هيبته وله القدرة على التمتع بمزايا اقتصادية جيدة والطبيب كذلك، كما ان هناك مجالات واسعة لمتوسطي التعليم اذ ان اغلبهم يستطيع الحصول على وظيفة في جهاز الشرطة او الجيش، ورواتبهم مجزية، وحتى من لا يملكون وظيفة أصلا فلديهم رواتب الرعاية الاجتماعية رغم بساطتها وبؤسها، الا انها مؤشر على مدى اهتمام الدولة بالمواطن.
ما يعاب على النظام الاقتصادي العراقي هو اعتماده على النفط وعدم استثمار موارده بشكل صحيح، بل ان هناك الكثير من الاسراف في مشاريع غير مجدية، وانتشار الفساد بشكل كبير، وهاتين القضيتين لو تمت معالجتهما لأصبح حال المواطن أفضل بأضعاف مضاعفة.
في المستوى الثالث الذي وضعناه لتقييم التجربة وهو مدى توفير الامن للمواطن، فالبلاد مرت بحالة من الفشل الأمني قل نظيرها في العالم، وباتت اخبار الاعتداءات الإرهابية مرادفة لاسم العراق، واستمر الحال حتى عام 2015 والأسباب متعددة بينها تنامي الحس الطائفي، وأخرى دعم الدول الخارجية لجهات تخريبية في البلد، أي ان الامر يتعلق بعوامل داخلية وخارجية، رغم ان اغلبها اقتصر في العاصمة العراقية بغداد ومحافظة ديالى ومدينة الفلوجة.
هذه الحالة أيضا لا تعني باي حال من الأحوال ان تكون العودة لنظام البعث الاجرامي هي الحل، كما يروج الكثير من الحالمين بعودته، لان انعدام الامن هنا لم يأتي بقصد من أجهزة الحكومة انما هو فشل مركب بين الداخل والخارج، ويتحمل الداخل نسبة كبيرة منها، وبذلت الحكومات المتعاقبة جهودا كبيرة لمعالجته، وقد تم ذلك في السنتين الماضيتين حتى هزمت الجماعات الإرهابية، وعادت الحياة افضل بكثير من الحقب التي مر بها العراق.
ويبقى الأساس الرابع الذي وضعناه لمحاكمة التجربة الديمقراطية وهو الأهم، وهو مدى وجود ظروف تهيئ لحرية الراي والتعبير وتسمح للمواطنين بتداول آرائهم، ويكاد يكون العراق متفردا من ناحية حرية الأشخاص في التعبير على آرائهم حتى على الكثير من الدول التي ترسخ لديها النظام الديمقراطي، ويعود الفضل الكبير بذلك للمواطنين الذي يصرون على رفض أي محاولة لتقييد حرياتهم التي سلبت في الحقبة البعثية السوداء.
نعم، تحدث بعض الخروقات لهذه الحريات بسبب الجماعات المسلحة التي ترفض ان يوجه لها النقد الحاد، لكن في إطار محدود، وأيضا تقوم الدولة بالمساعدة في التخلص من هذه القيود الجانبية، وهي حالة طبيعية في نظام سياسي واجتماعي لا يزال في حالة التشكل.
التجربة الديمقراطية العراقية نجحت في ترسيخ الكثير من الأسس لميلاد دولة ناجحة، وهذه الأسس في طور التحسن وتتمثل في انتشار ثقافة القانون ومحاولات إيجاد نظام اقتصادي الى النظام الأمني الذي يعد الانجح الان، والى الحقوق المدنية العامة واولها حرية الراي والتعبير، لكن هذه التجربة الوليدة قد فشلت في الكثير من التفاصيل من بينها انتشار الفساد والهدر بالمال العام وهي حالات يمكن معالجتها لو تم اصلاح النظام الحالي وليس الغاؤه.
اضف تعليق