ان تمتلك وسائل إعلامية ذات ثقل دولي، فانت مثل الذي يمتلك حاملة طائرات فيها أفضل ما توصلت اليه تكنلوجيا الطيران العسكري، وتستطيع ان تحرق أي منطقة في غضون يوم واحد، اما اذا ساندتك وسائل التواصل الاجتماعي بجيوشها الالكترونية فبالتأكيد أصبحت لديك حاملة طائرات وغواصة فكرية تصل الى أعماق الراي العام...
ان تمتلك وسائل إعلامية ذات ثقل دولي، فانت مثل الذي يمتلك حاملة طائرات فيها أفضل ما توصلت اليه تكنلوجيا الطيران العسكري، وتستطيع ان تحرق أي منطقة في غضون يوم واحد، اما اذا ساندتك وسائل التواصل الاجتماعي بجيوشها الالكترونية فبالتأكيد أصبحت لديك حاملة طائرات وغواصة فكرية تصل الى أعماق الراي العام دون ان تستطيع اكتشافها، او انك تعجز عن الرد على هجماتها لكثافتها رغم ما يبدو عليها من عشوائية.
في ورقة بحثية نشرها البروفسور شريف درويش اللبان عن حرب الصورة، يستعرض فيها كيف حرصت الإدارة الامريكية اثناء غزو العراق عام 2003 على إيجاد تغطية إعلامية تلائم أهدافها من خلال اعداد "فريق عمل إعلامي يضم (500) صحفى منهم (375) أمريكيًا، 80% منهم أمريكيون والباقي من بقية دول العالم قاموا بمصاحبة القوات الأمريكية وتم تزويدهم بـ (13) صفحة من التعليمات التي أقرها البنتاجون والتي تحدد لهم نطاق التغطية الإعلامية وحدودها، فالبنتاجون يشرف عليهم ويوجههم للأماكن التي يريدها ويتدخل فيما يكتبونه ويبثونه من صور إلى مؤسساتهم الإعلامية".
ومنذ الأيامِ الأولى للحرب، برز اهتمامُ إعلام التحالف بصور الأطفال؛ فنشرت صحيفةُ "نيويورك تايمز" New York Times الأمريكية صورةَ جندي أمريكي يحتضن طفلةً عراقيـة وتحتها تعليق: "الجندى يحتضنها لأن أمها قُتلت في الحرب". وصورة أخرى لضابط أمريكي يداعب طفلًا عراقيًا عرضها الجنرال الأمريكي فنسنت بروكس في مقر قيادته في قطـر، معلقًا أن أطفالَ العراق يتعرفون على الحرية للمرة الأولى في بلدهم.
في الجانب الاخر، كشفت الصورُ التي نشرتها وسائلُ الإعلامِ العراقية عن حجمِ المقاومة العراقية وما تلاها من أسرٍ وقتلٍ لعديدٍ من الجنود الأمريكيين والبريطانيين، وصور إسقاط مروحيات وطائرات عسكرية، وصور لجثث أمريكيين لقوا مصرعهم أثناء معارك الناصرية جنوب غرب العراق، وصور الجنود الأمريكيين الجرحى في مستشفى البصرة وهم ممدون فوق البلاط، وصورة الأمريكى الذي فقد ولده المشارك في حرب العراق وهو يحمل صورته الفوتوغرافية مخاطبا بوش: "لقد انتزعت مني ولدي الوحيد وصرت بلا ولد الآن. هل أنت مسرور؟ أريد من بوش أن يلقي نظرة على صورة ابني.. إنه ابني الوحيد"، وكذلـك صورة أم أمريكية تتوسل إلى الرئيس الأمريكي لإنقاذ ابنها الواقع في الأسر العراقي ووضع حد لهذه الحرب العبثية، وهو ما جعل وزيرَ الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد يعتبر نشر مثل هذه الصور مخالفًا لاتفاقات جنيف بشأن معاملة الأسرى.
في كتابه الرائع "صنع العدو او كيف تقتل بضمير مرتاح"، يقول المفكر الفرنسي بيار كونيسا، أن الحرب "هي ترخيص ممنوح شرعياً لقتل أناس لا نعرفهم، أحياناً هي عكس نظام القيم الموجودة أصلاً حيث القتل جريمة، فينعكس الوضع ليصبح القتل مشروعاً ويكافأ الجنود عليه، الحرب هي أن نقول: إنه من غير الممكن التحادث مع هذه المجموعات؛ إذن يجب قتلها، هذا النظام الإستراتيجي موجود ليقنع الرأي العام في البلدان الديمقراطية بأن لا مجال إلا للحرب، وهذا يتم من خلال المثقفين والإعلام، وهو عمل مجموعة، والمثقف هو صوت لا يمكن قياس تأثيره، يوضح للرأي العام ما هو حاصل، يشرح لماذا علينا أن نصنع الحرب، أو لماذا يجب تفاديها، أو ما العدو".
هناك علاقة طردية بين الحرب والصحافة، لان أي نزاع عسكري لا بد وان يكون بين طرفين وصلا الى مرحلة من الخلافة التي يصعب معها ليس الوصول الى اتفاق، بل يصعب أيضا الوصول الى سلام، ما يؤدي الى تفجر الموقف الى مواجهة مباشرة، وفي السابق كانت اغلب الحروب تحدث لاسباب دينية، والشعوب متباعدة عن بعضها، والحكم ديكتاتوري ويكفيه ان يامر بالحرب ليهب الناس للمشاركة فيها دون أي سؤال او اعتراض.
اما الان وفي ظل الأفكار التحرري فالحكومة مضطرة اليوم لاقناع جمهورها (كما يقول كونيسا) بان اعلان الحرب فيه فوائد كثيرة، واذا ما فقد العدو فيجب صناعته، وهذه المهمة تقوم بها وسائل الاعلام، اذ ان هناك خطوات كثيرة تسبق الاعداد للعمل العسكري يجب القيام بها وبدقة، والا فقدت قدرتها على التاييد الذي يعد شرطا لاي نظام حكم لياخذ لقب الديمقراطي بجدارة.
عندما أخذ الاتحاد السوفييتي بالانهيار في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين، خرج "ألكسندر أرباتوف" المستشار الدبلوماسي للرئيس السوفييتي "ميخائيل غورباتشوف"، مخاطباً المعسكر الغربي قائلاً: "سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو!" إلا أن نظرية الإبطال للعدو هذه لم تستمر طويلاً بحسب ما يقول تقرير لموقع "ميدان" حيث وجد "العالم الحر" ضالته سريعاً ممثلاً "بالأصولية الإسلامية" الكارهة - كما صورتها الدعاية الإعلامية- للقيم الحضارية الحديثة ونمط الحياة الغربي.
وبالعودة الى المفكر الفرنسي "كونيسا" الذي يرى انه "في الحرب العادلة، يحدد العدو نفسه عبر عدوانيته، إذ إن تعرضه للهجوم هو أمر حتمي، هذا ما اعتمد عليه "توني بلير" في تبرير الحرب على العراق، حيث قال: "صدام حسين يمتلك صواريخ يمكن نشرها خلال 54 دقيقة، حيث يمكنه قتل 30 ألف شخص".
لقد وضع مفكرو المحافظين الجدد "الحرب الاستباقية" دليلاً ومبرراً لهم، واعتبرت الولايات المتحدة أنه يمكنها أن تتخذ قراراً أحادياً حين تعتبر أن شروط "الحرب العادلة" متوافرة من أجل المصلحة العامة؛ ما يعني بالنسبة لهم أن المصلحة الأمريكية هي مصلحة العالم، والدولة المارقة هي دولة عدوانية بطبيعتها.
في الامس استطاعت بريطانيا صناعة عدو لدود لها في غضون أيام قلائل، حادثة تسميم لجاسوس روسي مزدوج، حشدت الدول الاوربية لشيطنة روسيا بعد اتهامها بتسميمه قبل ان تصدر أي جهة تحقيقية حقيقة الامر، وقامت وسائل الاعلام بالمهمة الأكبر من خلال العودة لسرديات الوحشية للنظام الروسي، لينتهي العرض الإعلامي بقيام خمسة وعشرين دولة غربية بأكبر عملية لطرد الدبلوماسيين الروس.
في سوريا باتت مسرحا للحروب الإعلامية، وكأنها استوديو لصناعة برامج الواقع، لكنها تبدو اكثر وحشية من تلك التي تعرض في أمريكا، فمتى ما ارادت واشنطن شن غارات على الجيش السوري، فان وسائل الاعلام مستعدة لتصوير حادث "هجوم كيميائي" قام به الجيش السوري "افتراضا"، ويجب محاسبته فورا بضربة عسكرية، رغم ان النظم الديمقراطية تؤكد ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته.
الحرب باتت نظيفة جدا بنفس مقدار قذارتها، في التضليل والكذب الإعلامي، فالجريمة هي ان يقتل عسكري مسلح متظاهرا سلميا غير مسلح (هكذا تقول الادبيات الديمقراطية، لكن اذا حدث ذلك في فلسطين فالمجرم هو المواطن غير المسلح، ولا تسال عن السبب لان وسائل الاعلام قالت ذلك، اما في اليمن وسوريا وليبيا فالقاعدة نفسها، عندما تقول لك وسائل الاعلام ان الشمس تشرق منتصف الليل فعليك تصديق ذلك او الانتظار قليلا فأن ذلك سيحدث، لكن في بغداد فقط، حينما حولت القنابل الامريكية العاصمة العراقية الى شعلة من النار دون ان نسمع عن عدد الضحايا. هكذا هي الحروب الإعلامية، للعدو الموت وللصديق حق ممارسة رياضة القتل.
اضف تعليق