q
لم يعد التوتر بين بريطانيا وروسيا، على خلفية تسميم الجاسوس الروسي السابق في بريطانيا سيرغي سكريبال وابنته، مجرد تبادل اتهامات كلامية، بعدما حشدت لندن اكثر من خمسة وعشرين دولة غربية للمشاركة في حرب طرد الدبلوماسيين الروس، وهو ما وصف بانه اكبر حرب سياسية من نوعها في التاريخ...

لم يعد التوتر بين بريطانيا وروسيا، على خلفية تسميم الجاسوس الروسي السابق في بريطانيا سيرغي سكريبال وابنته، مجرد تبادل اتهامات كلامية، بعدما حشدت لندن اكثر من خمسة وعشرين دولة غربية للمشاركة في حرب طرد الدبلوماسيين الروس، وهو ما وصف بانه اكبر حرب سياسية من نوعها في التاريخ، وبينما بدت روسيا وحيدة امام تحالف كبير يبدو ان موسكو تريد هذا الأسلوب الذي يضعها في قلب مشروعها الطامح لاستعادة بريقها العالمي رغم الاضرار الجانبية التي قد لا تعالج بسهولة.

القضية بدات بعد العثور على الجاسوس السابق سيرغي سكريبال (66 عاماً)، وابنته يوليا فاقدين للوعي على مقعد في مدينة سالسبوري، جنوب غرب إنكلترا، في الرابع من مارس/ آذار الحالي، ونُقلا إلى المستشفى في حالة "حرجة" بعدما تعرضا لمحاولة قتل، حسب السلطات البريطانية، التي قالت إن شرطياً تدخل في المكان هو حالياً في حالة خطيرة. وتصاعدت الاتهامات البريطانية لروسيا بالمسؤولية عن الهجوم، لتعلن السلطات أن سكريبال وابنته هوجما بمادة من العناصر السامة "نوفيتشوك" التي أعدتها روسيا في عهد السوفييت وتعتبر بالغة الخطورة.

الاتهام الرسمي لموسكو بالوقوف وراء الهجوم، جاء على لسان رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، التي أكدت في كلمة لها أمام النواب البريطانيين مسؤولية روسيا عن تسميم الجاسوس السابق. وأعلنت ماي طرد 23 دبلوماسياً روسياً من المملكة المتحدة، و"تعليق الاتصالات الثنائية" مع موسكو التي كان لديها 59 دبلوماسياً معتمداً في المملكة المتحدة. وقالت إن طرد هؤلاء الدبلوماسيين جاء "بموجب ميثاق فيينا، وتم تعريفهم على أنهم ضباط استخبارات سريون"، مشيرة إلى أنها أكبر عملية طرد لدبلوماسيين من لندن منذ 30 عاماً.

وقامت 25 دولة مختلفة بطرد 140 ديبلوماسيا روسيا من أراضيها فيما يعد أكبر عملية عقاب ديبلوماسي في التاريخ. وقد أدانت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، قرار دول الاتحاد الأوروبي قائلة إن هذه الدول "تفسر التضامن مع بريطانيا بشكل مختلف"، وأكدت موسكو أنها سترد بشكل "مناسب" على القرار الأمريكي.

احياء الحرب الميتة

روسيا لا ترى فيما يحدث الا ابتزازا غربيا وبداية لاعادة احياء الحرب الباردة، اذ قال سفير روسيا لدى استراليا نهاية شهر اذار الماضي، إن العالم سيدخل "حالة حرب باردة" إذا واصل الغرب تحيزه ضد موسكو تحت ذريعة تسميم الجاسوس المزدوج سيرغي سكريبال.

وقال السفير جريجوري لوجفينوف للصحفيين في كانبيرا "يجب أن يفهم الغرب أن الحملة المناهضة لروسيا لا مستقبل لها. إذا استمرت، فسوف ندخل في حالة حرب باردة".

واعلنت استراليا في الرابع والعشرين من الشهر الماضي انها ستطرد دبلوماسيين روسيين اثنين مما دعا لوجفينوف إلى الحديث على عجل إلى وسائل الإعلام. ورفض لوجفينوف المزاعم بأن موسكو مسؤولة عن الهجوم وقال إن بلاده لم تحدد حتى الآن ردها على الإجراء الدبلوماسي من جانب حلفاء بريطانيا.

عملية ابتزاز كبرى

وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قال إن واشنطن "تنظم عملية ابتزاز كبرى" لروسيا مشيرا إلى أنه لم يعد هناك إلا "قليل من الدول المستقلة في أوروبا الحديثة".

وأكد لافروف أن بلاده سترد بشكل مناسب على القرار الذي وصفه بأنه "غير ودي واستفزازي"، مشيرا إلى أن بلاده لا يمكنها "التغاضي عن هذه الصفاقة". وحدد لافروف الولايات المتحدة وحملها المسؤولية الأولى عما يجري قائلا: "عندما تقع عملية طرد ديبلوماسيمن دولة ما يُهمس إلينا سرا بالاعتذار ونفهم بالتأكيد أن هناك ابتزازا ضخما وضغوطا هائلة وهي الوسيلة الأولى للأسف لواشنطن في التعامل على الساحة السياسية الدولية".

وأضاف لافروف "أعتقد أننا كنا على حق عندما أكدنا من قبل أنه لم يعد هناك إلا قليل من الدول المستقلة في أوروبا الحديثة".

وفي هذا السياق، رأى رئيس تحرير مجلة "روسيا في السياسة العالمية"، فيودور لوكيانوف، أن "قيام الولايات المتحدة بطرد 60 دبلوماسيا روسياً مقابل 23 فقط من بريطانيا، يكشف من هو المتحكم الفعلي والمستفيد الأكبر من الأزمة في العلاقات بين روسيا والغرب".

دول رفضت المشاركة

ورغم مشاركة 25 دولة حتى الآن في حملة طرد الديبلوماسيين الروس فإن هناك عدة دول رفضت منها دول في الاتحاد الأوروبي مثل اليونان والبرتغال، كما أعلنت أستراليا أنها لا تنوي طرد أي من الديبلوماسيين الروس على أراضيها. لكنها عادت وأعلنت عزمها طرد اثنين من الدبلوماسيين الروس.

أما نيوزيلندا فأكدت أنها لم تكتشف وجود أي من أعضاء البعثة الديبلوماسية الروسية يمارس نشاطا جاسوسيا وقالت إنها لن تتردد في إبعاد أي ديبلوماسي روسي إذا ثبت تورطه في نشاط مثل هذا.

من جانبها، أكدت بلجيكا أنها لا تعتزم حاليا إبعاد ديبلوماسيين روس وقال رئيس الوزراء شارلز ميشيل بأن بلاده تستضيف مقر الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلسي (الناتو) وتستضيف سفارتين لروسيا في الهيئتين.

كاس العالم هو المستهدف

واتهمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بريطانيا والولايات المتحدة بالسعي لمنع بلدها من استضافة نهائيات كأس العالم لكرة القدم. وقالت زاخاروفا، في مقابلة مطولة، مع محطة تلفزيونية روسية، إن "هدفهم الرئيسي" هو "حرمان روسيا من استضافة كأس العالم".

وياتي اتهام زاخاروفا في الوقت الذي وصف وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، تنظيم روسيا كأس العالم بتنظيم ألمانيا النازية للألعاب الأولمبية عام 1936، ودعا نائب عن المعارضة في مجلس العموم إلى تأجيل كأس العالم 2018 أو سحبه من روسيا.

في مقابلة مع القناة الخامسة التلفزيونية الروسية، قالت زاخاروفا: "انطباعي أنهم جميعا مهتمين بحرمان روسيا من استضافة كأس العالم". وأضافت: "سيستخدمون أي وسيلة. لا يفكرون سوى في تلك الكرة وأنه لا ينبغي أن تلمس ملعب كرة قدم روسيًّا".

هل حقا الرياضة هي المستهدفة

وفي الوقت الذي تستعر الحرب بين الغرب وروسيا استنكر عدد من المسؤولين الروس، في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، رفض سفارة الولايات المتحدة في موسكو منح تأشيرات لأعضاء منتخب المصارعة، للمشاركة في كأس العالم التي تحتضنها مدينة آيوا الشهر المقبل.

ووفقاً لميخائيل مامياشفيلي، رئيس الاتحاد الروسي للمصارعة الحرة، فقد كان أعضاء الفريق الروسي على موعد الأربعاء للحضور إلى السفارة الأميركية للحصول على تأشيراتهم، إلا أن "السفارة رفضت تنظيم هذا الاجتماع".

وقال مامياشفيلي، في مقابلة نشرت على موقع الاتحاد الروسي للعبة، "إذا كانوا لا يريدون مشاركتنا في كأس العالم، فهذه مأساة كبيرة"، مؤكداً أن الاتحاد الأميركي "يقوم بكل ما في إمكانه" لمشاركة الروس في البطولة.

وفي تصريح لوكالة "آر-سبورت" الرياضية الروسية، ندّد الملاكم السابق نيكولاي فالوييف الذي أصبح نائباً، بـ"الخفايا السياسية الواضحة لهذه المسألة"، بينما دعت أسطورة التزلج على الجليد إيرينا رودنينا، الفائزة بثلاث ذهبيات أولمبية في عهد الاتحاد السوفياتي، الرياضيين الروس إلى "عدم المشاركة في بطولات مقامة في الولايات المتحدة".

واعتبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن رفض السفارة الأميركية للموعد الذي أعطي مسبقاً للمنتخب الروسي، "مثال صارخ على تدخل الولايات المتحدة في مشاركة الرياضيين الروس في المسابقات الدولية".

النتائج المترتبة

موجة طرد الدبلوماسيين بين روسيا وعدد من الدول الغربية التي تضامنت مع بريطانيا أثارت، تساؤلات حول حدود التصعيد الغربي ضد روسيا ومدى واقعيته في ظل المصالح الاقتصادية والاستثمارية والروابط في قطاع الطاقة التي تربط روسيا بأوروبا.

يشير المحلل السياسي، فاليري سولوفيه، إلى أن "طرد الدبلوماسيين في حد ذاته لا يشكل خطورة على روسيا، بينما لا يزال اعتماد عقوبات اقتصادية جدية مرهوناً بإرادة سياسية وتنسيق أكبر بين الدول الغربية". ويضيف، في تصريحه لصحيفة "العربي الجديد"، أن "تنسيق طرد الدبلوماسيين هو مجرد التعبير عن التضامن مع موقف بريطانيا، وهو، بالطبع، يضر بسمعة روسيا، ولكنه لا يشكل أي خطورة عليها".

وحول العوائق التي تحول دون تشديد بريطانيا موقفها من قضية سكريبال، يقول سولوفيه: "ماذا يمكن لبريطانيا أن تفعل؟ إذا وجهت ضربة إلى الأوليغارشيين الروس، فكيف سيكون رد فعل الأثرياء الصينيين والعرب المقيمين فيها؟ حتى دون ذلك أثيرت ضجة بأن بريطانيا لم تعد ملاذاً آمناً لرؤوس الأموال، مما قد يتسبب لها في مشكلات كبيرة وبدء خروجها".

اضرار متفاوتة

ومع ذلك، يوضح الخبير الروسي أن "الغرب لا تزال لديه آليات لإلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد الروسي مثل فرض حظر، ولو جزئياً، على شراء النفط الروسي، والحظر الكامل على الاستثمار في السندات الروسية وعلى تزويد روسيا بالتكنولوجيا".

وفي ما يتعلق بواقعية مثل هذا السيناريو المتشدد، يتابع: "يتطلب تحقيقه استعدادات وتنسيقا بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، وهذه مسألة الإرادة السياسية. لم تدخل هذه الإجراءات مرحلة المناقشة الجادة بعد، ولكنها قد تبدأ الآن".

لكن حتى بعد التصعيد في قضية سكريبال وتضامن فرنسا مع بريطانيا، لم يعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن إلغاء زيارته إلى روسيا في مايو/أيار المقبل للمشاركة في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، ما يأتي أيضاً كمؤشر على قوة الروابط الاقتصادية بصرف النظر عن الظروف السياسية.

وعلى عكس العقوبات الأميركية بحق روسيا التي تم تثبيتها على مستوى القانون، لا يزال الاتحاد الأوروبي يمدد عقوباته بحق موسكو كل ستة أشهر، وهو أمر يترك له مجالاً للمناورة وتخفيفها في أي وقت يراه.

اضف تعليق