q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

النزاعات الاهلية والحروب الداخلية

عوامل التأجيج ووسائل التكييف

الحروب في تفسيرها الى نظرية الجشع لدى بعض الباحثين وهي تكشف عن الحرص لدى الاطراف المتنازعة على الاستحواذ على الموارد الطبيعية والمعدنية في البلد وابقاء الثروة والسلطة رهن بأيدي تلك المجموعات، وغالبا ما تكون هذه الحروب وفق منطق هذه النظرية في الدول الغنية بالموارد الطبيعية...

وسمت النزاعات الاهلية مجتمعاتنا العربية وصارت جزء من بنية واقعنا العربي في تاريخه المعاصر، واتسم سلوكنا السياسي بذلك النوع من النزعات الباحثة عن الاستثارة العدوانية والجاهزة للإثارة في كل وقت، ولم يكن التصنيف لهذه النزاعات يقتصر على محدد ثقافي أو سياسي أو ايديولوجي، وبات غير خاضع الى تأطير يؤشر نوعية هذه النزاعات بل انتقل الى حالة من التعميم في الجسد السياسي العربي المعاصر، فهناك نزاعاتنا المذهبية والطائفية الدينية والتي باتت تتسيد المشهد السياسي العربي وتتجذر في البنية التكوينية للعالم العربي، وأعني به التجذر الهوياتي الطائفي في هذا العالم المخترق تاريخيا ودينيا بالطائفية.

وبالقدر نفسه هو مخترق تاريخيا وسياسيا بالتجذر الهوياتي الاثني والذي شكلت وانتجت من خلاله الاثنيات الهويات الفرعية التي صارت تهديدا خطيرا للهوية الوطنية، بالقدر الذي شكلت الهوية الطائفية تهديدا خطيرا للهوية الدينية - الاسلامية التي تشكل تأسيسا مهما في بنية عالمنا العربي.

واذا كان الثقافي والايديولوجي يوجه هذا النوع من النزاعات، فان السياسي هو الذي يوجه النزاعات داخل الطائفة الواحدة والاثنية المحددة، مما يربك المعادل التفسيري في طبيعة تلك النزاعات حين يتم استعراضها بين الثقافي والايديولوجي والسياسي.

فالنزاعات العربية الداخلية صارت ذي اتجاهات متعددة وموضوعات مركبة في بيئة من اللاانسجام والتفتت الحاد في الواقع الاجتماعي العربي، والذي تم ضخ المعنى السياسي – السلبي في حيثيات وفراغات هذا التفتت الاجتماعي، ولا يمكن حصر أسبابه في البعد السياسي أحادي الجانب، فالأسباب الثقافية والتاريخية حادة وفاعلة في نشأة وتطور التفتت العربي نحو صيغ أكثر ذرية في التجزئة والانقسام، ولقد صارت تلك التحديدات والتنظيرات منهجية فكرية ومعرفية سائغة لدى كبار الكتاب العرب في تحليل الواقع العربي وتفسير عوامل الارتداد والتخلف ( راجع، النزاعات الأهلية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية ) وصولا الى سقوط الدولة العربية التي تسببت تلك النزاعات الأهلية في انهيارها أو بقائها على السطح كضرورة لتسيير الامور اليومية للأفراد والمواطنين، وهي تكتفي بذلك الحد من نظام دولة غريب وطارئ على مفهوم الدولة سواء بمعناها القديم والحديث – العراق، اليمن، لبنان – انموذجا – أو حتى زوال وانهيار ذلك السطح السياسي والاداري – ليبيا انموذجا – أو تهديده بالانهيار التام – سوريا – ومقاربة السطحية في التعريف لهذه الدول انها لا تمتلك ذلك العمق اللازم لها في رسوخ القناعة بها في أذهان المواطنين الساكنين فيها، مما يفسح في اطار تلك العلاقة بالسكن الى انطباق وصف أو مفردة الافراد عليهم دون المواطنين، فالمواطنة مفهوم يرتبط بنيويا بالنظام الدولتي للدولة الحديثة.

لقد مضى على الدولة العربية الحديثة ما يقارب قرنا من الزمان وهي الدولة التي تشكلت بفعل النزاعات والحروب الدولية لاسيما الحرب العالمية الأولى، وهي الدولة التي غفلت أو تغافلت عن دور وإمكانية النزاعات الأهلية في انهيارها حتى اذا حدثت متغيرات دولية – انهيار نظام القطبين - وإقليمية خطيرة – حروب الجوار العربي – بدت الساحة السياسية العربية مكشوفة أمام تأثير تلك المتغيرات وكانت النزاعات الأهلية أخطرها بعد ان افتقدت الساحة العربية التي تتركب فيها الدولة العربية الحديثة شبكة نظام من الحماية يتركب في نظام أوسع من العدالة الاجتماعية يسد الثغرات الداخلية في المواجهات الاقليمية.

وتعود تلك الثغرات الداخلية تاريخيا وثقافيا الى النزاعات الفكرية – الكلامية والفقهية التي كانت تتكدس فيها تلك الثقافة في مخطوطات وأوراق صفراء يعكس اصفرارها تاريخية غابرة لم تكن حتى موضع اهتمام المستشرقين والباحثين عن كنوز التراث العربي المعرفية والعلمية، وعلى أثر ظهورها الذي صاحب ما أطلق عليه الصحوة الاسلامية تسببت في اندلاع النزاعات الاهلية ذات الصبغة الطائفية بعد ان عادت بواسطتها مفردات الحروب الدينية، وهي مفردات الردة والبدعة والرقيق والجزية ومقولات التكفير التي شملت أحكامها عامة المسلمين فضلا عن غيرهم من اهل الذمة وفق التسمية الفقهية الاسلامية لهم، وقد أزاحت تلك المفردات مقومات الدولة الحديثة ومصطلحاتها في الهوية الوطنية والمواطنة ودولة القانون، لكن قبل كل ذلك كانت الدولة العربية الحديثة تتسبب بانهيارها ذاتيا وليس بفعل التاريخ والثقافة فقط.

فهذه الدولة – العربية كانت فقدت المبادرة أوليا أو كليا في بناء نظام اجتماعي عادل في تحديد الواجبات والفصل بين السلطات وتوزيع متساو للثروات وللحقوق وكفاءة الاداء السياسي فيها الذي كلفها افتقادها له انكشافها امام غزوات التاريخ السلفي، فكانت الأقليات والإثنيات فريسة سهلة أمام تداعيات العودة الى كتب ومعايير الأحكام السلطانية والخلافة الشرعية التي كانت تنتفي في أولوياتها أو تتأخر في اهتمامها شؤون العدالة الاجتماعية واحكام العدل في الحكم والسياسة، بل كان موضوعها ومحورها تطبيق أحكام الشريعة وفق رؤية الاجتهاد البشري والسلطاني، هذا الاهتمام بالدولة السلطانية التي لم يخرج عن مضمونها وان خرج عن شكلها مضمون الدولة العربية الحديثة والمعاصرة تحول الى هوس ولعله عصابي في الذات السياسية الرسمية والشعبية العربية فكانت نظرية التآمر التاريخي والخروج المبكر عن الاسلام هي مشرعات أو موجبات الحرب التي شنتها الحكومات والشعوب العربية على الآخر الديني والمذهبي والآخر الاثني والقومي.

ورغم القناعة المتداولة في الفكر العربي المعاصر بأولوية وأهمية الثقافي والايديولوجي والسياسي في النزاعات العربية والحروب الداخلية، لكن الى أي مدى يمكن الاستعانة بهذه الافكار والنظريات في تحليل وتفسير النزاعات و الحروب العربية الداخلية؟

ويبدو هذا السؤال أكثر اهمية اذا أدركنا انتقالات تلك النزاعات الى داخل الطائفة الواحدة والاثينة المحددة، واشتباك المرجعيات الخاصة بهذه الطوائف والاثنيات في نزاعات وحروب تدميرية فيما بينها، وتفتيتية للذات المنكفأة والهوية الفرعية وبمعزل عن نزاعاتها وحروبها مع الطوائف والاثنيات الاخرى.

علينا أن ندرك منذ البداية أن واقعنا العربي هو جزء من متغير سياسي حديث وانه ليس مجرد طرف داخل في هذا الواقع السياسي والاجتماعي الحديث للعالم المعاصر بل هو أسير كل متغيراته وتابع في حركته التاريخية باتجاه المتغير الكبير والرئيس في التاريخ المعاصر للعالم وهو متغير الاقتصاد والتحاق بوصلة السياسة باتجاه تغيراته، ورغم التسويق العلمي – الاكاديمي والمعرفي للثقافة في منافستها للاقتصاد والسياسة في التحليل والتفسير لاسيما الرؤى والتصورات الانثروبولوجية واللبرالية في تحليل طبيعة الصراعات والنزاعات، ورغم الاهمية غير المستثناة في الاستعانة بهذه المنهجيات المعاصرة في العلوم الانسانية يظل الاقتصاد يمارس سلطته وهيمنته المستمرة في تحليل طبيعة الصراعات والنزاعات ذات الصور المتعددة والاشكال غير المستقرة وغير المتوقفة للحروب لاسيما الداخلية منه وهي موضوع بحثنا.

لقد تطورت في عصر الحداثة أو منذ عصر الحداثة جملة من الأنظمة الاقتصادية والمالية وكانت تقف خلفها وبإزائها التفسيرات الفلسفية والتحليلات المعرفية – الثقافية، وكانت أنواع الاقتصاديات تشهد توالدا ونتاجا مستمرا دعت اليه الحاجة وتطورات الحياة المادية الحديثة، لقد صار الاقتصاد علما شائكا أو لعله علما أبويا لعديد العلوم لاسيما العلوم الانسانية.

وصارت الحروب الحديثة تأخذ منحى اقتصادي بشكل يركز على ضمان الهيمنة على الموارد الاولية وعلى العوائد المالية والربحية من هذه الحروب لاسيما الصناعات العسكرية والتسليحية، وقد خضعت الى ذلك المنطق الربحي والتفسير الاقتصادي حتى الحروب الداخلية، وقد أظهرت الدراسات أن استراتيجيات النزاعات الاهلية تكون في المناطق التي تتوفر فيها الموارد المعدنية – النفط، الذهب، الفحم - وهو ما يقود في هذه الدراسات الى تحديد العلاقة بين مكامن هذه المعادن وجغرافية هذه النزاعات – سيراليون، أنغولا، كولومبيا – وقد انضمت اليها موارد أخرى عدتها هذه الدراسة من موارد الاقتصاد السياسي للحروب الداخلية، وهي الموارد الطبيعية او غير المعدنية – الارض، الاخشاب، الموارد المائية – وقد اضافت لها الاطراف المشاركة في هذه الحروب موارد أخرى ارتفعت الى مستوى اعتبارها في هذه الدراسة موردا اقتصاديا مهما واساسيا في الاقتصاد السياسي للحروب الاهلية، وهي عمليات الابتزاز والنهب والاتاوات، وأضافت اليها الدراسة ايضا التبرعات الفردية التي تقدمها المجتمعات الاهلية للأطراف التي تمثلها في هذه النزاعات – سري لانكا، حركة نمور التاميل – واحيانا تكون تحت التهديد، وكذلك أشارت الدراسة الى دور المساعدات الانسانية كمساعدات الطواريء والمساعدات التنموية في تشكيل موارد مهمة واساسية لهذا النوع من الاقتصاد السياسي – الاقتصاد السياسي للحروب الاهلية، بي اس دوما، ترجمة عبد الاله النعيمي – وهو اقتصاد مشّوه في طبيعته وتركيبته كاقتصاد ينتج عن العقلانية التنموية التي طبعت الاقتصاديات الحديثة، لكنه يعتمد آليات ووسائل في العمل تكرس وسائل بقاء الجهات والاطراف العاملة والمتكونة اقتصاديا بواسطته وهي الجماعات المسلحة التي كانت تخوض حروب التحرير مع السلطات القائمة وهي ذات صبغة أهلية وأثنية.

وقد اخضعت تلك الحروب في تفسيرها الى نظرية الجشع لدى بعض الباحثين وهي تكشف عن الحرص لدى الاطراف المتنازعة على الاستحواذ على الموارد الطبيعية والمعدنية في البلد وابقاء الثروة والسلطة رهن بأيدي تلك المجموعات، وغالبا ما تكون هذه الحروب وفق منطق هذه النظرية في الدول الغنية بالموارد الطبيعية، لكن نظرية الجور تفسر تلك الحروب الداخلية بالمظالم الاجتماعية والاقتصادية التي تجري في مجتمعات ودول حصرت الامتيازات والثروات بيد مجموعات عرقية وأثنية محددة – المصدر نفسه – ولا يمكن التشكيك في صحة هذه النظرية تاريخيا في تفسير الصراعات وأسباب النزاعات، لكن لا يمكن ايضا التشكيك في جدوى نظرية الجشع التي بدت واضحة في تجارب سياسية للكثير من الحركات والاحزاب والجماعات السياسية التي كانت تشغل دور المعارضة للأنظمة السياسية الدكتاتورية في المنطقة، وهو ما يفسر أيضا تركيز منظمات ارهابية لاسيما داعش على المناطق التي تتمتع بموارد معدنية وطبيعية وتختزن كنوز الآثار ومواقعها المهمة في تجارة الآثار غير المشروعة – الموصل، تدمر –.

واذا كانت النزاعات الأهلية تنشأ عن الاختلافات الثقافية والتاريخية او تنشأ عن المظالم الاجتماعية والاقتصادية أو حتى تنشأ عن الرغبة بالاستحواذ على الهويات المجاورة بذريعة الحق التاريخي في السلطة، فإنها تتطور باتجاه الحروب الداخلية نحو القصدية المعلنة أحيانا والخفية غالبا باتجاه الهيمنة على مصادر المال والثروة في الدول التي شهدت او لاتزال تشهد هذه الحروب او تظل تعاني من آثارها، وغالبا ما يرافق توجهات الهيمنة في الاستحواذ على الاقتصاد هو نشوء الحروب التفتيتية والذرية داخل الطائفة الواحدة والاثنية المحددة وهي تشكل علامة فارقة على أهمية العامل الاقتصادي في تفسير الحروب الداخلية.

والملاحظ في هذه الحروب الداخلية ان فشل المشاريع الثورية والتحررية التي قادتها المنظمات والاحزاب والجماعات المسلحة والمطالبة بحقوق مجتمعاتها سواء كانت أكثرية أو أقلية، قاد الى تحول العديد من قادة هذه الجماعات السياسية ذات الصبغة الطائفية أو الأثنية الى أرباب ثروات غامضة في مصادرها واصحاب رأسماليات مشّوهة التكوين والعمل وترسخت في ثقافتها السياسية المجلوبة من بقايا التراث السلطاني أن السلطة أحد اهم بوابات الثروة والمال، وهنا تبدو عوامل التأجيج بصورة جلية.

والملاحظ في ثنايا نظام الحروب الداخلية ازدهار وسائلها الاقتصادية والخاصة بها، او بالأحرى نتوءاتها الاقتصادية الضارة وهي تجارة المخدرات وتجارة الاسلحة غير المشروعة وبمنأى عن سلطة القانون والاستغلال غير الشرعي للموارد المحلية العامة وأساليب الإتاوات، وحين تكف هذه الحروب الداخلية بفعل ظروف دولية وإقليمية فان اقتصاديات هذه الحروب تظل تمارس دورها واعمالها، ويضاف اليها وسائل أخرى أهمها استغلال الموارد الوظيفية العليا والمقايضات الربحية والمالية في التعيينات الوظيفية حتى الدنيا منها، ورهن مناصب الدولة العليا والوسطى بالفوائد المالية المتحققة، وضمان حركة تلك الاموال المستحصلة والتي تعادل اقتصاديات مؤسسات مالية كبرى الى خزانات الاحزاب والجماعات القابضة على السلطة والدولة، وهي تشكل اسوأ النتوءات الاقتصادية في نظام الاقتصاد السياسي المتخلف والمترسب عن الحروب الاهلية في البلد، والذي تحافظ عليه وعلى ديمومته تلك الاحزاب والجماعات القابضة على السلطة والبلد، والتي تسعى بنفس الوقت الى الحلول محل الدولة في ظل توازن مخطط له في السلطة والقبض على موارد الثروة والمال.

والغاية من التوازن السياسي الذي تبتغيه احزاب السلطة هو ضمان حالة السلام مثل كل النهايات التي تسفر او أسفرت عنها الحروب الداخلية في تجارب دول العالم الثالث التي خاضت مثل هذه الحروب واسفرت النتائج عنها بعقد صفقات السلام بين الاطراف المتحاربة، وهي وسائل التكييف للحرب من اجل مرور المال بكميات أكبر ومردودات اعلى وارباح اكثر، لاسيما ما توفره المحاصصات الوظيفية العليا والوسطى في حالة السلام والتعامل بطريقة هذا لك وهذا لي في البلد وبدون استعمال السلاح.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق