q

من الظواهر اللافتة بعد العام 2003 كثرة منظمات المجتمع المدني في العراق. منظمات ثقافية وانسانية وغيرها من المسميات، التي ضجت بها واجهات مبان حكومية وغير حكومية، هجرها شاغلوها، بعد ان توقفت الحياة لاشهر، نتيجة تعطل الدولة وغياب النظام. وصار من المشاهدات اليومية للعراقيين، انبثاق منظمة مجتمع مدني جديدة في هذه المنطقة او تلك، يحرص الذين يقفون وراءها على جمع عدد من الاشخاص في مكان معين، ومن ثم اجراء انتخابات بينهم، تنتهي بوضعهم على راس تلك المنظمة. حتى ان احد الكتاب، نشر في احدى الصحف، وقتذاك، مادة وضع لها عنوان طريف، "في بيتنا امين عام"! في اشارة منه الى كثرة تلك المنظمات التي نافست عدد بيوت العراقيين، وتنافس من خلالها هؤلاء "الامناء العامون" على طرق الابواب المختلفة للحصول على "دعم مالي" لمنظماتهم! ولم تمض سوى مدة قليلة حتى صارت اعداد تلك المنظمات وفقا للاحصائيات الرسمية، تتجاوز الثلاثة آلاف وربما اكثر بكثير، وارجو ان لا اكون مبالغا. ولكي يكرس اصحابها انفسهم، صاروا يقيمون جلسات احتفائية، بلا لون او طعم او رائحة، لشخصيات مختلفة الاختصاصات، تنتهي بتسليمهم دروعا او شهادات تقديرية، الامر الذي حرّك السوق الخاصة بصناعة وطباعة تلك الدروع والشهادات بشكل واضح!

كان من المفروض ان نشاط هذه المنظمات، يجد صداه في المجتمع الذي تمثله او تدعي تمثيله وتنشط وسطه، لكن صوتها صار مع الايام والسنين، لا يتجاوز حيطان المكاتب التي تشغلها، فنستها الناس، ونساها ايضا اغلب الذين تحمسوا لها، واكتشف الجميع تقريبا، ان الامر لا يعدو كونه مجرد هبّة، خفتت مع خفوت الاحلام الكبيرة التي سكنت رؤوس الكثيرين، قبل ان يصحوا على واقع بلد تناهبته مخالب الارهاب ونهشه الفساد، الذي لم تجد الناس أي دور لأغلب منظمات المجتمع المدني، او من تسمي نفسها كذلك، في التصدي له.

قبل ايام، استأجرت سيارة تاكسي وبعد تبادل الحديث مع السائق، عرّجنا على موضوع الانتخابات القادمة، ففاجئني بالقول انه لم يذهب لأي من الانتخابات التي جرت بعد العام 2003 وحين طلبت منه ان يشرح لي السبب، عرفت من اجابته انه لا يملك اية ثقافة انتخابية، ولا يعرف كيف تحتسب الاصوات، وآليات الترشيح وغيرها من المعلومات العامة التي يجب ان يتسلح بها أي مواطن عادي، وان سبب عزوفه هو نقمته على الاوضاع التي آلت اليها البلاد، الامر الذي اضطرني ان اشرح له بعض هذه الامور، وبقدر ما اسعفتني به معرفتي المتواضعة، حينها قال، انه لم يعرف من قبل أي شيء من هذا، ولو كان يعرف او وضّح له احد ذلك لشارك في الانتخابات السابقة. وقد وعدني بالمشاركة في الانتخابات القادمة، لاسيما بعد ان قلت له ان عدم المشاركة، يعني ابقاء الفاسدين، واوضحت له كيف ان المشاركة تؤثر في حجم القاسم الانتخابي، وتبعد من ليس لديه اصوات كبيرة، في حال مشاركة اكبر نسبة من الناخبين في التصويت.

بعد ان ودعت هذا المواطن، رحت احدث نفسي عن جدوى وجود هذه المنظمات التي توزعت المدن العراقية منذ نحو خمسة عشر عاما، ثم تساءلت عن دورها في الانتخابات القادمة، والذي يجب ان يبدأ قبل عام من موعدها في الاقل، من خلال اقامة الندوات التثقيفية في الاوساط الاجتماعية، ان كانت فعلا موجودة وليس مجرد واجهات لاستجداء المال وتحقيق مصالح شخصية، اذ لا قيمة لوجودها ان لم تحض الناخب على المشاركة، وتوضح له سبل تخليص البلاد من الفاسدين من خلال انتخاب الذين لم يتورطوا بنهب المال العام. وهذا في تقديرنا اهم بكثير من التظاهرات غير المجدية التي تطالب بالقصاص من الفاسدين، بعد ان يفرغ المئات من المتظاهرين حمولة غضبهم في الساحات، ثم ينفضون تاركين صدى هتافاتهم يتردد في مكاتب منظمات المجتمع المدني المنتشرة حولهم في تلك الساحات!

الشيء الذي يجب التنبيه اليه، ان عددا غير قليل من تلك المنظمات، تقف وراءها احزاب سياسية، او استقطبتها في اطار نشاطها لجمع الاصوات الانتخابية، وبذلك اصبحت تابعة لهذا الحزب او ذاك، وان احتفظت بأسمائها وعناوينها المختلفة! وهذه المنظمات هي الاكثر نشاطا اليوم، ليس لممارسة دورها في تثقيف المواطن، بل لتوجيه صوته باتجاه معين.. وهذه طامة "مدنية" اخرى!.

اضف تعليق