q

بعد ان عادت فلسفة العلوم والاخلاق والسياسة في الغرب لتتخذ مرة اخرى المسار الما بعد حداثوي للنسبية واللاعقلانية، فلا شيء افضل من الالتفات الى كارل بوبر (1902-1994) وفلسفته في العقلانية النقدية.(1)

الفلسفة كمشكلة

في اكتوبر عام 1946 قرأ كارل بوبر ورقة مثيرة للجدل في نادي صغير للعلوم الاخلاقية بجامعة كامبردج في انجلترا. انه نادي خاص للنقاش. كان من بين الشخصيات المميزة في النادي لودفيغ فيتغينشتاين (1889-1951)، وهو احد الدعامات الاساسية لـ"الفلسفة اللغوية".

هذه الطريقة في ممارسة الفلسفة بدأها Moritz Schlick في حلقة فيينا في الفترة ما بين الحربين العالميتين. بوبر تلقى الدعوة للحديث في نادي كامبردج كفرصة ثمينة لمواجهة فيتغينشتاين، بطل التفلسف اللغوي وهي الممارسة التي اعتبرها بوبر منذ شبابه في فيينا ليست اكثر من لامعنى.

برتراند رسل احد الذين اعجب بهم بوبر كان من بين الحاضرين بانتظام وكان بوبر اعتبره حليفا له في خلافه ضد الفلسفة اللغوية والوضعية واراد اظهار فهما عميقا معه اثناء الجلسة. حديث بوبر كان بعنوان "هل هناك وجود للمشاكل الفلسفية؟"، اعتقد بوبر ان الفلسفة تعاملت ويجب ان تتعامل مع المشاكل الحقيقية. لذا هو اراد مهاجمة فيتغينشتاين الذي كان على عكس بوبر يؤمن بعدم وجود مشاكل في الفلسفة وان ما موجود هو فقط الغاز لفظية.

يرى فيغينشتاين ان مهمة الفيلسوف كانت توضيح المفاهيم وتصحيح استخدام الكلمات، وحل الالتباسات اللفظية. هذه كانت المهمة التي سخر فيتغينشتاين لها نفسه في اول كتاب له (رسالة منطقية فلسفية) عام 1922. لاحقا، وفي اوراق جُمعت بعد وفاته بعنوان تحقيقات فلسفية (1953)، هو لم يكتف بالدعوة الى حل الاشكالات الفلسفية باستخدام اللغة دون غموض وانما قام بهذا عمليا. وعلى اية حال، هو اعتقد بمذهب حلقة فيينا في ان الفرضيات ذات المعنى تكون فقط على شكل نوعين: افتراضات تحليلية وتعني تيلولوجيا منطقية ورياضية، وافتراضات تجريبية يتم التأكد منها بالملاحظة. كل شيء آخر هو ميتافيزيقا لامعنى له.

وعلى عكس ذلك، كان بوبر دائما يعتقد بان على الفلاسفة ان يواجهوا المشاكل الواقعية حتى لو لم يستطيعوا حلها بشكل كامل: مشاكل مثل فشل الاستقراء، طبيعة الاحتمالية، العلاقات بين السبب والنتيجة، امكانية الرغبة الحرة، معنى الافتراضات الاخلاقية. (كان دائما يلوم من يضع في بحثه فقرة ماهي المشكلة؟ بقوله ان المشكلة لا يمكن فهمها كليا الا بعد ان تُحل). في الحقيقة ان كل اكتشافات منطق العلوم الذي صرف فيه بوبر جزء كبير من وقته، هو "ميتافيزيقي" لكنه لايزال مليء بالمضمون والمعنى.

الطريقة العلمية

في رسالته للدكتوراه عام 1928، عرض بوبر حلا جزئيا لعدد من المشاكل الاساسية في نظرية المعرفة. الاولى كانت حول الخط الفاصل demarcation line الذي وضعه وضعيو حلقة فيينا بين الفرضيات ذات المعنى وتلك التي بلا معنى. خطهم الفاصل بين الاثنين كان حول ما اذا كانت الفرضيات قابلة للاثبات تجريبيا، فاذا لم تكن كذلك فهي بلا معنى. يرى بوبر ان لا وجود لفرضيات ذات معنى يمكن اثباتها، خاصة الفرضيات الاخلاقية والجمالية. الخط الفاصل لديه لم يكن بين الفرضيات ذات المعنى وتلك التي بلا معنى وانما بين الفرضيات العلمية (يمكن دحضها) وتلك غير العلمية (اي التي لا يعرف المرء كيفية دحضها)(2).

المشكلة الثانية التي حلها بوبر جوهريا كانت مشكلة الاستقراء. ديفد هيوم اشار الى اننا لا نستطيع التأكد من ان الشمس ستشرق غدا فقط لأنها اشرقت مرارا وتكرارا في الماضي. بوبر عمم هذا بالقول انه يستحيل الاعلان عن صحة النظرية عبر المشاهدات المتكررة لظروفها، ما هو ممكن فقط هو دحضها عندما نكتشف ان تنبؤاتها كاذبة. المرء يستطيع فقط الزعم متاكدا ان فرضية جميع البط هو ابيض بالاستقراء بعد ملاحظة جميع البط في الماضي والحاضر والمستقبل، هذه المنهجية ليست مثمرة جدا. من هنا يطرح بوبر استنتاجين اساسيين: انه من الخطأ السعي الى اليقين، وان المعرفة لم تتقدم عبر اثبات او تأكيد الفرضيات وانما عبر محاولات دحضها.

وكما اشار بوبر ان حل اي مشكلة سيثير مشكلة اخرى جديدة. الطريقة العلمية هي اكثر من مجرد تطبيق ميكانيكي للطريقة الاستنتاجية الافتراضية. التفنيد هو نادرا ما يكون نهائي واحيانا يتمسك المرء بالنظرية المفندة ليعطيها صلاحية لما يترتب عليها من نقود- لكن هذا يستمر فقط ليوم آخر. نشير هنا الى صورة ادبية على الغلاف الخارجي لكتاب (منطق الاكتشافات العلمية، 1959) تذكر ان "النظريات هي كشباك الصيد، فقط من يقوم برميها هو الذي سيصيد".

المجتمع القبلي (المغلق) والمجتمع المنفتح

في كتاب "المجتمع المنفتح واعداؤه لكارل بوبر 1945، 1957" نجد على غلاف الطبعة الاسبانية صورة لأولئك الأعداء الثلاثة وهم افلاطون وهيجل وكارل ماركس. كان للكتاب تاثيرا عميقا في الولايات المتحدة وبريطانيا. ذكر بوبر لأحد اصدقائه انه وبعد ان اعلن هتلر عن ضم النمسا لألمانيا النازية بدأ يفكر ان كان يتوجب عليه قتل هتلر. هو قرر تحطيم الفلسفة التي جسدت فكر القيادة الالمانية. ذلك خلق فضيحة في الحلقات الاكاديمية بسبب ذلك الحماس الكبير في تدمير اولئك المفكرين الكبار الثلاثة.

رفض بوبر فكرة التاريخية التي ترى ان التاريخ يتطور بشكل مستمر وضروري طبقا لقوانين عامة ممكن معرفتها نحو غايات حتمية ودقيقة، واعتبر هذه الرؤية هي الافتراض المسبق الذي يؤطر كل اشكال التوتاليرية والسلطوية، فالتاريخية يراها تأسست على افتراضات خاطئة بشأن طبيعة القانون العلمي والتنبؤ. فاذا كان النمو في المعرفة الانسانية عامل سببي في تطور التاريخ الانساني، وبما ان "لا مجتمع يستطيع التنبؤ بوضعه المستقبلي من المعرفة"، يتبع ذلك ان لا وجود لعلم تنبؤي للتاريخ الانساني.

بوبر تحدى افلاطون كعدو رجعي لأثينا وكصديق لسبارتا. برنامجه السياسي لا يسمو اخلاقيا على التوتاليرية، وهو في الاساس مشابه لها. هو يقول ان افلاطون يعترف فقط بمعيار نهائي واحد هو مصلحة الدولة. كل شيء في هذا المجال هو جيد واخلاقي وعادل، وكل شيء يهدد الدولة هو سيء وشرير وغير عادل. الافعال التي تخدم الدولة هي اخلاقية، وتلك التي ضدها هي غير اخلاقية، بكلمة اخرى، برنامج افلاطون هو برنامج نفعي صارم يضع الدولة قبل الفرد.

وبوبر اتُهم بسوء الفهم العتيق للثقافة اليونانية وبعدم القدرة على فهم الفلسفة الالمانية. وفي الدوائر المحافظة كانت هناك صدمة اخرى في رؤيته لماركس بتعاطف اكثر من شعوره نحو افلاطون وهيجل. قد لا يتفق البعض مع بوبر حول نقده لأفلاطون، ولكن يجب تذكير المعجبين بجمهورية افلاطون انهم يجب عليهم تأمل خطر الفيلسوف-الملك ومقارنة ذلك الحوار بالخطاب الجنائزي لبريكلس في الذكرى السنوية الاولى لحرب البيليبونيسية بين اثينا وسبارطا.

وبالنسبة لهيجل فهو اصل التاريخية المعاصرة، وهو باعتباره خادما للدولة البروسية كان اسوأ من افلاطون، لا نجد هناك اسوأ من الصورة التي خلقها بوبر عنه. لنتذكر معركة جينا عام 1806 التي سحق بها نابليون الجيش البروسي. كتب هيجل قائلا "انا رأيت الامبراطور، روح العالم، يسير ممتطيا حصانه متأملا مملكته". للمعجبين بهيجل يمكن القول انهم في مثل هذا النمط من إعطاء الاشياء اقل مما تستحق لابد ان تكون لديهم صعوبة في فهم لغته الالمانية.

وفي نقده لماركس اعلن ان الماركسية هي مشابهة للنظريات النفسية. فهي تتألف اساسا من ادّعاءات لا يمكن تفنيدها، وهي كانت تاريخية، ولهذا لا يمكن وصفها بالعلمية. ماركس ادّعى ان نظامه السياسي تنبؤيا. لكن ماركس لم يتبع المعايير الصارمة للتفنيد، فعندما فشلت تنبؤات النظرية (مثل فشل الطبقة العاملة بالثورة في اوربا) فان النظرية لم تُرفض.

مستقبل التاريخ لم يُكتب بعد

تحليل بوبر لفلسفة ماركس يركز بالأساس على اخطاء التاريخية "historicism "التي ورثها من هيجل. التاريخية ترى ان التاريخ يتبع مسارا ضروريا. البعض اعتقد ان هدف العلوم الاجتماعية هو التنبؤ بتطور التاريخ. محاضرات بوبر في التاريخية نبهت الناس الى فكرة ان التاريخ لم يُكتب بعد. هو طور هذه الفكرة في كتابه (فقر التاريخية، 1947)، فيه ميز بين نوعين من النظريات في التاريخ: "ضد الطبيعي" (رفض تطبيق العلوم الطبيعية على العلوم الاجتماعية) و"المناصرة للطبيعي" (تطبيق العلوم الطبيعية على العلوم الاجتماعية). الاولى اعتبرت المجتمعات الانسانية لا يمكن دراستها بطرق العلوم الطبيعية، اما الثانية ترى ان طرق الفيزياء يجب ان تطبق على السوسيولوجي. النظريات الهيجلية تنتمي الى النوع الاول لأن هيجل يرى التاريخ تطور للذهن او العقل. النوع الثاني من النظريات اقترحها اوكست كومت، فيه رأى ان ملاحظة البيانات الايجابية كشفت عن ان المجتمعات الانسانية تقدمت بالضرورة نحو التنظيمات الشمولية والمركزية.

بوبر كان مقتنعا بالقول "نحن لا نستطيع التنبؤ بمستقبل اكتشافاتنا العلمية بواسطة الطرق العلمية او العقلية ". لو استطعنا ذلك، فهي لا يمكن ان تكون المستقبل. هذه الاعتبارات تنطبق ايضا على التكنلوجيا كما كشفت عنه تجربة الخمسين سنة الاخيرة.

سبب تعامل بوبر مع ماركس بتعاطف كبير هو ان ماركس انتج بلا قصد نظرية قابلة للاختبار عن النزعة الضرورية للرأسمالية نحو الاحتكار والافقار الحتمي للطبقة العاملة وان هذه النظرية ثبت زيفها عبر المسار الذي اتبعه المجتمع الغربي. هناك ايضا شعور بوبر العاطفي نحو الديمقراطية الاجتماعية التي دعا اليها Malachy Hacohen (2002) والتي شجعت بوبر لتوجيه اللوم لقسوة الرأسمالية المبكرة وتفضيله دولة الرفاهية.

Library of Economics and Liberty,5 Feb 2018

........................................
الهوامش
(1) العقلانية النقدية critical rationalism هي فلسفة ابيستيمولوجية طورها كارل بوبر، وترى بوجوب اختبار جميع الاجوبة مع ابقاء العيون مفتوحة نحو الفشل. بوبر لا يعتقد بان النظرية هي نهاية البحث وانما هي البداية. جميع الادّعاءات المعرفية هي بالنهاية نظرية قابلة للدحض، انها مجرد تخمينات نستطيع اختبارها لكنها لا يمكن ابدا ان تصبح مؤكدةً عبر اجتياز تلك الاختبارات. لا يمكن ابداً تأسيس حقيقة بأي مقدار. ان تفنيد النظريات العالمية ممكن منطقيا، نحن نحتاج فقط الى حدث مضاد واحد. فرضية "كل البط ابيض" لا يمكن اثبات صحتها باي عدد محدد من الشواهد الايجابية للبط الابيض، ولكن ممكن دحضها فقط بحالة واحدة من البط غير الابيض، وبهذا فان هذه النظرية بالنهاية جرى دحضها بعد اكتشاف بط اسود في استراليا.
(2) منهجية بوبر الفلسفية تؤكد بان النظريات العلمية تتميز باحتوائها على تنبؤات ربما ينكشف زيفها في الملاحظات المستقبلية. وعندما تُدحض النظريات بمثل هذه الملاحظات يستجيب العلماء اما باعادة مراجعة النظرية او برفض النظرية لمصلحة المنافس لها، او عبر الإبقاء على النظرية كما هي مع تغيير الفرضيات المساعدة، وفي جميع الاحوال، هذه العملية يجب ان تهدف الى انتاج تنبؤات جديدة يمكن دحضها. يرى بوبر ان العلماء حين يحققون في النظرية فهم يقومون بمحاولات متكررة وصادقة لتفنيدها، بينما انصار النظريات الميتافيزيقية يتخذون وبشكل روتيني معايير لكي يجعلوا الواقع الملاحظ ينسجم مع تنبؤات النظرية. اذاً النظرية وفقا لبوبر تُعتبر علمية فقط عندما يمكن تفنيدها، هذا قاده لمهاجمة الماركسية ونظريات التحليل النفسي باعتبارها نظريات لا يمكن تفنيدها.
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

...........................

اضف تعليق