يتوغل كثير من المفكرين ويسهبون في شرحهم لنظريات الغزو الثقافي، وعدَّهُ كثيرون منهم أسلوباً محدثاً أو نسخةً محدّثةً للغزو العسكري، وبديلاً معاصراً للاستعمار، ومن أساليبه اعتماد القوة الناعمة في إحداث الزلزال الكافي، لتدمير الأسس والمرتكزات التي ترتكز عليها ثقافة شعب أو أمة ما، وكثيرة هي طرق وأساليب القوة الناعمة لإنجاح مهمات الغزو الثقافي، منها تسويق وترويج الأعمال الدرامية على شكل أفلام ومسلسلات تلفزيونية مترجَمة لغوياً وصوتياً (مدبلج).
وحين ننبش الفحوى والمتن الفكري والتصويري وما يرافق ذلك من إيحاءات إخراجية للنسبة الأكبر من هذه الأعمال والمسلسلات، فإننا سنصل إلى نتيجة لا غبار عليها، بأن المطلوب منها تمرير أفكار تسعى إلى غرس قيم لا تتسق مع القيم الاجتماعية والأخلاقية التي نتمسّك بها، باعتبارها صمام الأمان الأخلاقي لمجتمعنا، وما يُلاحَظ على هذه الأعمال الدرامية اعتمادها أسلوب إثارة الدهشة لدى المُشاهِد أو المتلقي، عبر السلوك الصادم المختلف المتجاوِز لحدودنا وعاداتنا المحافِظة.
المثال الشاخص الذي نورده عن هذا الأسلوب، في الغزو الثقافي المتفشي منذ سنوات، هو ما يتم عرضهُ من مسلسلات على قنوات بعضها تسمّي نفسها عراقية، وأخرى عربية يصدر بثّها من بعض القنوات التي تمولها جهات مشكوك في أمرها، وهنا يكمن مربط الفرس، أي أن المشكلة في هذه القنوات تعود إلى المموِّل، والأخير يخضع إلى الجهة التي تتعاقد معه، وهي في الأعم الأغلب دوائر مخابرات مرتبطة بدول معادية للإسلام، فتسعى لتدمير القيم والعقائد التي تحفظ المجتمع من التردّي والانحراف، والسقوط في براثن المحظور من العادات المسيئة.
فحوى هذه الأعمال الدرامية يقدَّم بطريقة الحكاية والصراع، وتضرب مضامينها على وتر المشاعر والعاطفة، وتمرر في هذه الأعمال قيما غريبة عن عاداتنا وتقاليدنا، ولا تلتزم بما تراه الشريعة وما يوجبهُ الدين من التزام أخلاقي يحفظ الجميع من الانحدار، وبسبب نعومة الأسلوب، وامتلاء هذه الأعمال بحكايات ومواقف تتعلق بالأسرة والصداقة والوفاء وكثير مما يملأ حياة المجتمع، فإن المشاهدين أو بعضهم لا يتنبّه للسموم التي يتم تمريرها بصورة غير مباشرة.
على سبيل المثال حين تتعرض إحدى الفتيات غير المتزوجات إلى طرد من البيت الذي تسكنه، فإن المؤلّف يدفع بها إلى بيت شاب تقول إنه (صديقها)، أي أنه غريب عنها، ولا توجد أي صلة قرابة تربطه بها، ومع ذلك تلجأ إليه وتسكن معه في بيته، وتنام معه في مسكن واحد، والمشاهدين (المسلمين) أو بعضهم، قد لا يتنبّه للفخ، وربما يتعاطف مع البنت المطرودة ولا يجد في مبيتها وسكنها مع رجل غريب عنها أمرا ذا تجاوز للقيم المحافظة التي يقوم عليها سلوكنا الاجتماعي، كما أن مثل هذا السلوك يمثل تجاوزا للشريعة وما يستدعيه الدين الإسلامي.
وهكذا يتم تمرير المئات من هذه المواقف في هذه الأعمال الدرامية، وكأنها أمر إنساني مألوف ولا غرابة فيه، ولا يحمل أي تجاوز، وربما قليل من يتنبّه إلى مثل هذا التزوير والخداع الثقافي الذي يستميت في محاولات غرس قيم مدمّرة لتقاليدنا وعقائدنا وقيمنا التي سعت منذ أزمنة بعيدة، إلى حماية المجتمع من مثل هذه الاختراقات الغريبة، لتأتي اليوم مثل هذه الأعمال المتخفية بغطاء الفن، لكنها تخبّئ آلاف النوايا الخبيثة للتخريب الاجتماعي، أخلاقا وسلوكاً.
وشيئا فشيئا تتسلل الثقافة الوافدة من الغرب أو سواه إلى القيم الأخلاقية التي حمتْ مجتمعنا والمسلمين في البلدان الأخرى، من مثل هذه الانحرافات التي يعاني منها الغرب نفسه، فالتفسخ والانحلال والفساد بات مشكلة كبرى تواجه تلك المجتمعات، لهذا السبب يسعون إلى عولمة التفسخ ليشمل الجميع، بعد أن فشلوا في مواجهة العديد من الظواهر المميتة التي أنتجتها قيم مسيئة للعلاقات الاجتماعية، تحت حجج واهية مثل الحرية المطلقة أو غير المحدّدة بثوابت القيم، لكن العواقب الوخيمة التي لمسها دعاة هذه الثقافات العرجاء، جعلها تدفع بها إلى الانتشار عالميا.
يُضاف إلى هذه الأهداف المبيّتة، ما ذكرناه في مقدمة هذا المقال، وهو اتخاذ الاستعمار المعاصر شكل الغزو الثقافي عبر وسائل لا محدودة، ومن بينها تمرير القيم المشوهة في إطار أعمال درامية، تقدّم على شكل قصص محبوكة، تغص بمشكلات الإنسان كالفقر والحب العاطفي، والصراع المادي المقترن بظواهر الظلم، وإظهار الحرص على المرأة ومعالجة المواقف الحرجة التي تتعرض لها، لكن من خلال هذه الأزمات والتعاطف معها، سوف يتم استدراج المشاهِد، بالأخص الشباب من الجنسين، إلى دائرة التأثّر بها والاندماج معها، محقّقة بذلك جزءا من هدفها، وهو غرس قيم مشوهة بديلة عن القيم الأصيلة التي همّها الحفاظ على الإنسان، ذكر وأنثى، في إقامة روابط ومشتركات تحمي كيان المرأة ومستحقات الرجل.
بهذه الطرائق المخادعة، شهدت الشاشات التلفازية تكالب أعداد كبيرة من الأعمال الدرامية، المسلسلات الأجنبية، بالأخص ذات الترجمة الصوتية (المدبلجة)، والغرض من ذلك ليس خفيّاً عن ذوي الشأن، وليس أمامنا سوى وضع الأسوار الحامية والمضادة لمثل هذه الطرائق الخبيثة، التي تنوي تخريب الوشائج الرابطة بين طبقات المجتمع وفئاته، ومن ثم تخريب القيم، وتدمير العادات الأصيلة، وعدم ترك أي فرصة لتعزيز الهوية الثقافية، وبالتالي تسهل عملية الغزو الثقافي في مهمتها.
تقع على الشباب، والآباء والأمهات، والحوزات العلمية، والمنابر، والمدارس بمختلف مراحلها، والمنظمات التوجيهية باختلاف أنواعها، مسؤولية قيادة ومواجهة هذا النوع من الغزو الثقافي وكشف أساليبه للجميع، ومن ثمَّ وضع الخطوات والأساليب المضادة القادرة على تسوير العقول بمختلف مستوياتها بالقيم الحامية، والكاشفة لمثل هذه الغزوات المبيّتة، ولكن يبقة الأهم أن تكون وسائل وطرائق هذه المواجهة مبتكرة جديدة جادة بما يوازي خطورة وخبث وخديعة أساليب الغزو الثقافي الذي يضع في مقدمة أهدافه، تدمير البنية الأخلاقية، وتهشيم العادات الأصيلة والقيم الحامية للمجتمع والمتوارثة أبا عن جَدّ.
اضف تعليق