لقد كانت وظيفة الانتخابات في عالمنا العربي هي اضفاء الشرعية على الانظمة غير القابلة للشرعنة القانونية والاخلاقية، فقد كانت أنظمة الحكم الفردية والدكتاتورية تحظى بمزيد من الدعم الذي يطفو على سطح من الاكاذيب السياسية التي كانت تمتهنها تلك الانظمة، وتدخل في ممارساتها غير القابلة للتبرير العقلاني والاخلاقي، بل شكلت موضوعا للتهكمات السياسية لدى الشعوب العربية.
فالرئيس المرشح وبلا منافس يحوز على تأييد واصوات الشعب بالدرجة المئوية غير القابلة للتخفيض، مما يثير التهكمات في المواقع التي يأمن فيها الشعب من المراقبة والمتابعة، ولقد كانت تلك الانظمة وأفرادها على علم بهذه التهكمات بل قد يتداولها أفراد الحكم في حالة من الضحك الخفي على الذات وبمنأى عن عيون الشعب من أجل المحافظة على هيبة الحكم، لكن هؤلاء الأفراد مع رؤسائهم قد نسوا حقيقة اجتماعية – سياسية هي ان هذه التهكمات هي الخطوة الأولى والصامتة على طريق الثورات، وهو ما حدث فيما سمي بثورات الربيع العربي التي هدفت الى ازاحة خريف النظام السياسي العربي الذي اصاب الخرف في ظله تلك الانظمة العربية غير القابلة للشرعية القانونية والاخلاقية.
لكن هل استطاعت تلك المتغيرات السياسية الخطيرة والصادمة احيانا أن تمس الذات العربية ؟ أو تحدث تغييرا في جوهر الشخصية العربية فتنعكس تلك المتغيرات على ممارسات وسلوك تلك الانظمة التي أعقبت أو نتجت عما يسمى الربيع العربي؟ وطبعا يشكل سقوط نظام الدكتاتور في بغداد امتدادا تاريخيا أو جزء من حقبة تلك المتغيرات التي طرأت على الساحة العربية في أعقاب التدخل العسكري الأمريكي في العراق.
لقد كانت الديمقراطية هي البديل السحري الذي قدمته التنظيرات الليبرالية وصنعت منه الإدارة الاميركية نموذجها الخلاصي للشرق وعولت عليه كثيرا في احداث التغييرات في المنطقة، وقد ألهبت تلك البدائل مشاعر الملايين من العرب الذين سعوا الى الاطاحة بأنظمة حكم دكتاتورية غير قابلة للبقاء، وانتهجت الانتخابات في بناء نظام حكم جديد اعتمدت ان لا يكون نسخة مكررة لأنظمة الدكتاتورية العربية ورفعت الشعارات الهجينة فيها، وموضوع التهجين فيها هو استيعاب افكار الاسلام السياسي السائد في المنطقة لفكرة الديمقراطية وترويج امكانية ان تستوطن في ثقافته امكانية القبول الديمقراطي للآخر ولمشروعية الشعب مصدر السلطات.
وجاءت نتائج الانتخابات في أول لحظة خروجها من صناديق الاقتراع لتعلن فوز الاسلام السياسي في تونس ومصر ومن قبل في العراق وقبل ذلك في قطاع غزة والضفة الغربية لتمهد الى الانتقال من الشعارات الى التطبيق ومن التنظير الفكري الى المنجز العملي، لكن الصدمة كانت شديدة بإزاء التخلي المبدئي عن كل مبادئ الديمقراطية التي صنعتها ثقافة الغرب واختصت بها من بين كل شعوب العالم تاريخيا وثقافيا، ورغم انها نجحت في بلدان أخرى خارج نطاق أوربا لكنها ضمن مديات غير واسعة النطاق مما يؤشر السمة الحضارية للديمقراطية في ثقافة أوربا.
وقد بدت الصدمة أكبر حين تم التخلي الستراتيجي عن مبادئ الاسلام في نظام العدالة الاجتماعية الذي كان المطمح الأكبر في عقيدة الشعوب العربية وهي ترى في عودتها الى الاسلام ذلك الخلاص السياسي والاجتماعي الذي يكتنفه الخلاص الروحي.
وكان صعود قوى الاسلام السياسي في العراق وقبل احداث الربيع العربي تعبير عن انتشار ثقافة الاسلام السياسي في المنطقة الذي برهنت عليه واقعة واحداث ذلك الربيع العربي، واذا كان الخلاص بكل صيغه السياسية والاجتماعية والروحية – الثقافية يشغل تلك الشعوب المتطلعة الى غد أفضل وتطور ينهض بأعباء الواقع العربي المتردي حضاريا وثقافيا، فان جماعات واحزاب الاسلام السياسي جعلت أكبر همّ لها هو السلطة بناء على قاعدة "قد يزع الله بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن" وهي مقولة تشكك بقدرة القرآن على بناء الانسان والمجتمع، لاسيما وان تلك المقولة قد وضعت في ظل السلطان الفاقد للشرعية الدينية والشعبية، لكن جماعات الاسلام السياسي السني قد استغلتها في استقطاب تأييد واسع لها في صفوف الجماهير العربية التي كانت قد نفضت يدها من كل القوى السياسية المنافسة من علمانية ويسارية وقومية لاسيما في أعقاب الهزيمة المدمرة للذات العربية في حرب حزيران من العام 1976م، وكانت تسميتها بنكسة حزيران تعبير عن ذلك الدوار الذي انتاب العقل العربي والشخص العربي، فلم يعد يعرف اين يكون مدار الذات ومركز الانطلاق، فأعادت اليه أنظمته السياسية والاجتماعية – الثقافية الحديث عن العصر الذهبي الذي كان يشغله العرب في الماضي، ولتكون نافذة الاسلام السياسي العربي من خلاله.
وقد سعى الرئيس أنور السادات الى تلك الاحيائية السياسية للإسلام السياسي والدفع به الى مواجهة اليسار المصري والقومية الناصرية، وكان جزء من تلك الاحيائية التي مارسها الاسلام السياسي هو بعث الاهتمام السياسي بالماضي العربي، وقد فسر في حينها في سبعينات القرن الماضي المستشرق الفرنسي جاك بيرك ذلك الاهتمام العربي بالماضي السعيد للعرب فسره بمركب النقص الذي انتاب الشخصية العربية للتعويض عن فشلها في الحاضر وهو ما يثير عقدة النقص لديها، ولقد كان تحول ذلك الاهتمام الشعبي العربي والتبجيلي للإسلام أو ما عرف حينها بالصحوة الاسلامية الذي كان يوسف القرضاوي أحد أهم المنظرين لها، تحول الى أهم وسائل كسب الاصوات وتأييد الشعوب لجماعات الاسلام السياسي التي بدت نتائجها واضحة ومثيرة للاهتمام في الانتخابات التي أعقبت سقوط الأنظمة العربية الدكتاتورية وغير القابلة للبقاء تاريخيا.
وبالقدر الذي استطاعت فيه هذه الانظمة الصاعدة والسلطة التي أمسكت بها ان تحقق الشرعية القانونية التي جاءت بها الى السلطة من خلال صناديق الاقتراع والانتخابات، فإنها لم تستطيع ان تحقق الشرعية الاخلاقية التي تبقى المعيار الماثل والرئيسي في ثقافة عالمنا، وهي آلية التفسير التي تمنح المشروعية لنظام الحكم، وأحيانا أهم من الشرعية القانونية والشرعية الاخلاقية هي محتوى أو مضمون مبادئ العدالة الاجتماعية التي تترسخ في مفهوم النظام الديني الاسلامي.
وأعتقد ان سبب تردد الجماهير العراقية لاسيما في طيفها الشيعي في المشاركة في الانتخابات القادمة يعود الى التشكيك في المشروعية الاخلاقية–الثقافية التي تؤهل الطبقة السياسية والاحزاب المرشحة للانتخابات البرلمانية، وهي المبدأ الاساسي في امكانية بناء الثقة التي تحتاجها العملية الانتخابية والتي تقوم اساسا عليها، فالجماهير تمنح ثقتها لمن تجد فيه امكانية تحقق المشروعية الاخلاقية والتي تبدو عسيرة التحقق في نظر الشعب العراقي الذي بدأت تظهر علامات واضحة على عزوفه عن الانتخابات.
اضف تعليق