يتبع تصميم المكان مزاج الإنسان ووعيه ومنوال ثقافته، وينعكس الوعي والمزاج والمخزون الثقافي بطريقة غير مباشرة على المكان، شكلا، وعمقاً، وتصميماً، ليس في المدار الهندسي وحدهُ، ولا في الملامح الخارجية، كالدوائر والأقواس والخطوط، والتصاميم المعمارية للبنايات والشوارع والساحات والحدائق العامة، بل حتى في الأبعاد والمنحنيات وسواها، بالنتيجة يُقال أن المدينة تُشبه سكانها في الانشراح والانغلاق، حتى الشوارع قد تنبسط وتتقلص تبعا للذوق العام.
حين نلقي نظرة على المدن ذات الطابع التحرري في المدار المجتمعي، فإن ذلك ينعكس على الشكل المكاني للمدينة وتوابعها (عمارة، شوارع، حدائق، مكتبات..... إلخ)، وفي الأعم الأغلب تكون حدائقها بلا محدّدات كالأسوار أو الحيطان، أي أنها مفتوحة على الأمكنة المجاورة، فتوحي بالفضاء الحر غير المحدّد بسياج أو أي عازل عن المحيط المجاور، ويُقال أن هذه ثقافة مجتمعية تطبع التصميم العمراني وتنبثق من عقلية مجتمعية تؤمن بالفضاء المفتوح الرافض للتقنين الجبري.
وفي مقارنة بين مدن الدول المتقدمة والمتأخرة من حيث التصميم، سيظهر الفارق جليّاً بين النقيضين، وأقول نقيضين، لأن الرائي سوف يكون حيال منظر مختلف بين المدينتين أو المكانين، فالمدن المتقدمة كما سبق الذكر، تأخذ تصاميمها الانفتاحية من فكر التجمع البشري المقيم فيها، كما أن التنسيق الهندسي سوف يكون عالياً، ويغلب عليه الفضاء المفتوح، فالحدائق التي تحدّ الشوارع لا نجد لها أسوار تحدد شكلها أو وجودها، أما سعتها فتكون بائنة للعيان، فيعطي المكان انطباعا عن عدم تخوّف الناس من الحرية، على عكس ما يجري للسكان في المدن المنكمشة على نفسها، فإنها نتاج أناس يخشون الانفتاح، وهم أكثر تحفظّا، بل يغالون كثيرا في النسق المنغلق، كلاما أو تفكيرا أو سلوكا، فيعطي المكان عنهم صورة مقاربة.
ليس الانكماش وحده سيكون نتاج العقلية المتأخرة، بل الفوضى في المكان والعمارة وهندسة البنايات وتخطيط الشوارع، فالفوضى والتداخل سيكون رديفا للانكماش، ويمكنك أن تقرأ الوعي الفوضوي المنكمش في تصاميم المدينة المتأخرة لشوارعها وبناياتها وحدائقها، وما يزيد الطين بلّة ليس الفوضى النابعة من قلة الوعي وحدها، فهناك استخدام عبثي للمكان من قبل العقول غير الواعية، أو كما يصفها أحد المهندسين بالعقول الفوضوية العبثية.
فهل يعني هذا، أن الوعي والفكر والثقافة هي التي تصنع المكان أم العكس؟، بالطبع سوف يتشكل المكان كما يرسمه العقل، فإذا كان واعيا مثقفا مفكرا منتظما، سيكون المكان منظّما في الصورة والشكل والتصاميم، وقد يكون معبّرا عن الانفتاح على الآخر، وربما سيدل على خشية وانقباض ونكوص وتردد في حال سيطرة الفكر المتنمّر للسلطة على المجتمع.
بالنتيجة سيكون المكان تصميما وترتيبا، حصيلة لفكر السلطة أو النظام السياسي، لو كانت الحرية والنظام الانفتاحي يحكم النظام سيظهر ذلك في البنية التصميمية العمرانية التخطيطية للمدن وتوابعها من شوارع وحدائق وساحات وبنايات مختلفة، فيقول العلماء المختصون ومنهم علماء النفس والاجتماع والهندسة وحتى علماء السياسة، أن المكان يتشكل من الوعي المجتمعي وثقافة السكان، وهذه كلها تتبع الأنساق الحاكمة للسلطة، فلا يمكن أن يشجع الحاكم الدكتاتور على الفضاء المفتوح، بل يضاعف من الأسوار الشاهقة التي تحدد الساحات والحدائق وحتى المكتبات، سوف تجدها قابعة خلف جدران عالية، وستجد أسوار الحديد القاسية تفصل الحدائق عن الشوارع والساحات، ليس هذا فحسب، فتفصل بين الحدائق المتجاورة نفسها، وليس هذا يحصل جزافا، فهناك فكر مهيمن، وسلطة، ومجتمع منغلق بالقوة.
وأصعب ما يحدث في هذا المضمار، ما يضيفه السكان من عبث وفوضى في استخدام التصميم المديني، يعبثون بالشوارع، يخنقون الأرصفة بالبضائع، يدفعون الرشوة للمسؤول البلدي حتى يغض الطرف، يعبثون بالحدائق، يدمرون جماليات المكان، فيمكن للزائر الغريب أن يفهم نفوس الناس وعقولهم ويفسر أفكارهم بمجرد أن يلقي نظرة فاحصة للمكان وتشكيله الفوضوي المتداخل، وليس الأمر مستغرَبا، فالبيت العبثي سيكون وعي صاحبه عبثيا فوضويا، والبيت المنظّم نتاج العقول التي تسكنه، ولكن نحن إزاء مشكلة أوسع وأشمل، نحن لا نقف أمام بيت واحد بل آلاف إن لم نقل ملايين البيوت ومئات الحدائق والشوارع والساحات والأرصفة، ولك أن تتخيل عندما تعم الفوضى والعبثية كل هذه الأمكنة، يُضاف إليها الاستخدام المتخلف لهذه الأمكنة وما ينتج عن ذلك من خسائر معنوية مادية مكانية هائلة.
نظرة سريعة يمكن أن يلقيها الراغب إلى المدن العراقية مع تباين الأشكال والصور، ليجد أنه يقف إزاء مشاهد دراماتيكية عبثية فوضوية مثيرة للاشمئزاز، لماذا؟؟ الأمر غاية في اليسر والسهولة، إنك تقف حيال عقل جمعي فوضوي، ووعي ضامر، وثقافة عرجاء تمشي على ساق واحدة، مصدرها إرث فكري قمعي تراكمي يتجمع منذ عشرات العقود فوق بعضه، فهل ثمة علاج؟؟.
الزمن كفيل بإظهار الحل المناسب، هكذا يقول المحللون من علماء الاجتماع والنفس والعمارة، الوعي المجتمعي أولا، وقدح الفكر، واستنهاض الثقافة المجتمعية، فيبدأ الحل من إيقاظ العقول النائمة، أو المغلفة بالبلادة والارتجال، زجوا بالفكر والوعي نحو الجماعة، بتنظيم إعلامي مؤسساتي مدني علمي، يتحرك في خطط متساوقة واضحة المفاهيم والمضامين والأهداف، تطل على الناس جميعا بانتظام، تشذّب عقولهم، وتمنحهم ثقافة الجمال والتنظيم والانفتاح المحسوب، وتغرس قيم الخير والتعايش فيما بينهم، ليكون الحرص ديدنهم، يخشون على بعضهم، ويراعي الفرد الكل، ويهتم الكل بالفرد، ويأخذون من تجارب العالم أحسنها، ويطبقونها على البيت أولا، فالمدرسة فمكان العمل، فالدائرة، فالشوارع، وسيارات الأجرة، والمقاهي، فيُحال المجتمع طرّاً إلى كيان متذوق الجمال المكاني والمديني.
ليس في الأمر محال، ما يعوز العراقيين، التخطيط العلمي، التصميم، الإرادة، نهل الوعي من منابعه، استقدام الثقافة من مصادرها الأصيلة، تكبير العقول، وتنقية النفوس، وفي النتيجة سيتم طرد العبث، وتُطفَأ جذوة الفوضى، ويعم النظام، ويرى الناس في الانفتاح المحسوب طريقا نحو المدنية، وتنظيم الأمكنة، وتجميل المدن، ليس شكلا فقط، هذا ليس هدفنا، أولا هو الجمال العميق للروح المعاصرة، وسوف تتبعها الجماليات التالية في فعل متعالق لاحق، تنتج عنه حالة من التناغم بين الإنسان والمكان، ولا ريب سينعكس ذلك على النظام السياسي، فيكون أكثر معاصَرة، وأقرب إلى المدنية من غيرها.
اضف تعليق