شبَّه البعض ما يجري في مدينة تكريت بالكرة التي يجري تقاذفها بين اللاعبين داخل الملعب، لكن الفرق بين الحقيقية والتشبيه يكمن في طبيعة المتنافسين اولاً، وفي تخمين من سيحقق هدف الفوز في نهاية المطاف ثانيا.
الحملة العسكرية الاخيرة (بعد ثلاث حملات فاشلة سبقتها) التي انطلقت قبل اسابيع لاستهداف تنظيم "داعش" المتطرف في محافظة صلاح الدين، ووصلت الى مشارف مدينة تكريت، كانت عملية نوعية وقوية، ساهمت في تحرير مئات الكيلومترات من الاراضي الخاضعة لسيطرة التنظيم، ووصلت الى مراحل متقدمة استعادت من خلالها اراضي لم تصل اليها القوات العراقية منذ عام 2003، باعتبارها مناطق كانت خارج نطاق سيطرة الحكومة والدولة العراقية، (تحولت من سيطرة تنظيم القاعدة الى تنظيم داعش)، لكن هذه الحملة في ايامها الاخيرة توقفت من دون سابق انذار، لاعتبارات تتعلق بسلامة المقاتلين بسبب تفخيخ عناصر التنظيم وسط تكريت بآلاف العبوات الناسفة، كما اكد القادة الميدانين.
لكن ما رافق حملة تكريت العسكرية من حملة اعلامية وسياسية حاولت تشوية صورتها ونقل حقيقية مغايرة لما يحدث على ارض الواقع جعلت العديد من المتابعين يشكك في صحة السبب المعلن وراء توقف الحملة بصورتها المفاجأة، لتفتح الابواب على احتمالات اخرى، قد تقف خلفها "اللعبة السياسية" الكبيرة في الشرق الاوسط، وصراع التحالفات الذي يضغط هنا وهناك، ليحقق المكاسب ويتجنب الخسائر.
كان التركيز المحلي والاقليمي والدولي الذي رافق الحملة العسكرية التي قادتها الحكومة العراقية بالاستعانة بفصائل "الحشد الشعبي" الشيعية (التي شكلت غالبية القوات المقاتلة)، اضافة الى المتطوعين من ابناء العشائر السنية والقوات النظامية الحكومية من الجيش والشرطة وفرقة مكافحة الارهاب وسلاح الجو وغيرها من الفرق والتشكيلات القتالية والاستخبارية، ينصب في الدفع باتجاه البحث عن جوانب سلبية لكبح الانتصارات، والتي كان ابرزها اللعب على اوتار الطائفية التي تخوفت من اشتعالها من جديد دول اقليمية بعد ان دخلت "القوات الشيعية" الى مناطق سنية، والذي يمكن ان يسبب حالات "انتقامية" تجاه اهل المنطقة من المواطنين السنة، وقد شارك في هذه الحملة "شيخ الازهر" بعد ان اتهم قوات الحشد الشعبي بانتهاكات استهدفت ابناء هذه المناطق.
كما تسبب عدم مشاركة او "امتناع" قوات التحالف الدولي او الولايات المتحدة الامريكية، في حملة تكريت، بحالة من الارتباك بين حلفائها في منطقة الشرق الاوسط، وسط تخوفهم من تنامي نفوذ ايران وجنرالاتها داخل العراق، بعد ان قاد قائد فيلق القدس "قاسم سليماني" العديد من المعارك الميدانية ضد التنظيم، ومنها معركة تكريت، الامر الذي فسرته هذه الدول على قبول ضمني للولايات المتحدة الامريكية، بإعطاء الضوء الاخضر للتدخل الايراني المباشر في العمليات العسكرية الجارية في صلاح الدين (وقد اشار رئيس اركان الجيش الامريكي "مارتن ديمبسي" بالقول "يمكن أن يكون لإيران دور إيجابي في الهجوم على تكريت طالما لم يؤد تدخلها لتوترات مع السنـة")، سيما وان ما تقوم به ايران في العراق يخفف الضغط على قوات التحالف الدولي (بعد 8 اشهر من الضربات الجوية التي استهدفت التنظيم داخل العراق) خصوصا على مستوى التدخل البري، وربط هذا التناغم الامريكي- الايراني بتقدم المفاوضات النووية ونفوذ ايران في سوريا واليمن التي تجد هي الاخرى نوعا من التوافق بين الطرفين فيما يخص نظام الاسد في سوريا والحوثيين في اليمن، بالمقابل فقد اشار قائد عمليات صلاح الدين الفريق الركن "عبد الوهاب الساعدي" ان "امتناع التحالف عن المشاركة هو لسبب سياسي وليس عسكريا"، وهو تصريح قد يحمل اكثر من دلالة ومعنى.
الاكراد لم يكونوا بعيدين عن المشهد السياسي لتكريت، وقد ادلوا بدلوهم هذه المرة عن طريق "سرور بارزاني" رئيس جهاز الامن والاستخبارات في اقليم كردستان، بالعزف على نفس النغمة الثلاثية (الميليشيات الشيعية، النفوذ الايراني، الفتنة الطائفية) بعد ان قال "هذا سيخلق مشكلة أكبر من الدولة الإسلامية، يجب علينا جميعا أن ننظر إلى الأمر باعتباره حربا ضد الدولة الإسلامية، يجب علينا أن نحارب الدولة الإسلامية سويا، لكن إذا حدث انتقام أو ثأر بين الطوائف أو الديانات أو الجماعات العرقية، فسيصبح هذا بالتأكيد مشكلة أكثر صعوبة"، ويرى محللون ان سبب تصريحات كردية من هذا النوع، ربما يقف خلفه "الهلع الكردي" من تحول انظار الولايات المتحدة الامريكية والتحالف الدولي نحو مقاتلي "الحشد الشعبي" بدلا من قوات "البشمركة" التي تحظى بكامل الدعم الغربي في عملياتها العسكرية شمال العراق، وحتى خارج العراق (مشاركتها في عمليات "كوباني" على الحدود التركية-السورية)، سيما وان حكومة اقليم كردستان قد اشتكت في الآونة الاخيرة من تباطؤ الدعم العسكري الغربي لقواتها في تصديها للتنظيم شمالا، وكانت اغلب المؤشرات تتحدث عن دور اساسي لقوات البشمركة في تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش، قبل ان يحقق المقاتلون الشيعة "الحشد الشعبي" انتصارات كبيرة داخل المناطق السنية (من دون اثارة اي عوامل طائفية حتى الان) لتميل البوصلة نحو امكانية مشاركتهم الفعلية في تحرير مدينة الموصل بعد الانهاء من كامل اراضي صلاح الدين.
اللعبة السياسية ما زالت قائمة في تكريت حتى اليوم، وما لم يتم حسمها بتقدم عسكري سريع (يماثل بداية الحملة) من قبل القوات العراقية المشاركة، فان الجدل يمكن ان يستمر والمعادلة يمكن ان تتغير تحت هذه الضغوط السياسية، وهذا مالا ترغب فيه الحكومة العراقية في الوقت الحاضر، مثلما قد لا ترغب فيه الولايات المتحدة الامريكية (وان كان بدرجة اقل حماسة)، وينبغي على القوات العراقية، ان تحسم المعادلة العسكرية في تكريت سريعا، حتى تتخلص من الضغوط السياسية، وتعطي انطباعا جيدا وايجابيا عن مستقبل العمليات القادمة التي ستكون بالتأكيد، اشد تعقيدا، واكثر غموضا، من سابقاتها.
اضف تعليق