عندما كتبت عن تكريم جرحى ومعوقي الحرب ضد تنظيم داعش في وقت سابق من العام الماضي، كانت الحرب على أشدّها، ورجالاتها يواصلون تقدمهم وانتصاراتهم على عناصر داعش، وايضاً تقديمهم التضحيات الجسام لطي صفحة هذا التحدي الجديد بنجاح، وكانت الغاية؛ تعزيز المعنويات وتعبئة النفوس بروح ايجابية تساعد المقاتل على الصمود والتصدّي في ميادين القتال.
أما اليوم فقد وضعت الحرب على الارهاب اوزارها الثقيلة، وتوقفت معظم العمليات العسكرية الرئيسية في محاور القتال ضد هذا التنظيم الارهابي، ما عدا بعض الجيوب النائية على تخوم الحدود مع سوريا، وتم تحرير جميع المدن الرئيسية في محافظتي الانبار والموصل، فقتل من قتل وأصيب من أصيب، فالشهداء عند ربهم يُرزقون، أما المصابون فهم بين معاق، فقد أطرافه أو كُفّ بصره أو أصيب بالشلل او غير ذلك، وليست لديّ احصائية دقيقة عن عدد هؤلاء المصابين، بيد أن المهم في أمرهم.
انهم الوحيدون –ربما- يشعرون أن الحرب مستمرة ولم تتوقف، كونهم يعيشون ذكريات القتال والاستبسال والتضحية، فهم ليسوا كالآخرين تنحصر ذكريات الحرب لديهم في مناسبات معينة، تنتهي خلال ساعات ويذهب كلٌ الى عمله.
واذا نسمع عن حروب خاضتها شعوب في العالم، ويتم بعدها تكريم المحاربين القدامى او المصابين وتعريفهم للجيل الجديد من طلبة المدارس والشباب بانهم ذووا فضل كبير على استقلالهم وحريتهم وتقدمهم، فان الحرب التي خاضها الشباب العراقي خلال السنوات الثلاث الماضية، تتميز عن سائر الحروب أنها ذات دوافع معنوية بامتياز، فالتعبئة لم تستدعي شعارات قومية او وطنية او طائفية كما شهد العالم من ذلك الكثير، وإنما القضية تتعلق بالعقيدة والانتماء، فقد هبّ الآلاف للقتال تلبية لفتوى المرجعية الدينية لجهاد من يدّعي الجهاد المزيّف، حتى أقرّ العالم بهذا الانجاز الذي عجز هو عنه.
إن مجاهدين من هذا النوع والطراز يجب ان يحضوا ببرامج خاصة للرعاية، وعدم تركهم للقدر وللإثارات الاعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي بما لا يليق بالمرة، بمكانة هؤلاء الابطال، فوجودهم على السرير او على الكرسي المتحرك، يجب ان يكون موضع فخر واعتزاز كل عراقي أمام شعوب العالم، وحسناً فعل الايرانيون خلال الحرب العراقية – الايرانية بإطلاق كلمة "جانباز" على معوقي الحرب، وهي تعني حرفياً؛ اللاعب بالموت، وترجمتها المعنوية؛ الشهيد الحيّ، ومما يجدر استذكاره من التجربة الايرانية في هذا المجال، أنهم اقترحوا تزويج المقاتلين المعوقين بمختلف النسب في العَوق، ولمن توافق على الزواج من هؤلاء، تحصل على مِنح مغرية مثل؛ السكن مع بعض المستلزمات الضرورية، وهو ما لاقى إقبالاً لافتاً من عديد الفتيات والنساء آنذاك.
ان مؤسسات الدولة معنية قبل غيرها بإعداد برامج ومشاريع خاصة لاحتواء هذه الشريحة من المجتمع مهما قلّ عددها، وذلك لدواعي عدّة تعنيها هي أولاً؛ ثم يكون للمجتمع مدخلية في هذا المشروع الانساني والثقافي:
1- عرفان الجميل
لاشيء يعوّض الفاقد أجزاء من جسده او فقد سلامته وحياته الطبيعية، إلا عرفان الجميل ووضع المصاب في منزلة المتفضّل على الجميع بما قدم من أجل ان يعيشوا بسلام وأمان، بما من شأنه تعزيز الثقة في نفسه وأنه ذو قيمة كبيرة في المجتمع، لانه قام بدور كبير ومصيري.
2- ترسيخ ثقافة المقاومة والممانعة لدى الجيل الجديد
إن تكريم هؤلاء المصابين يعني تكريم القيم والمبادئ التي ضحوا من أجلها، وصنع ثقافة المقاومة والممانعة لدى سائر ابناء الشعب، لاسيما النشء الجديد من طلبة المدارس والجامعات بحيث يجدون انفسهم في أجواء الحرب مع الاعداء، بصرف النظر عن مسمّياتهم، وهذا يكون من خلال إشراك معوقين الحرب في الفعاليات الطلابية والثقافية.
3- تعزيز الايمان بالقيم والمبادئ التي استوجبت كل هذه التضحيات
تولي الدول اهتماماً بالغاً بالدعم المعنوي، ربما بنفس حجم التسليح والتنظيم والدعم اللوجستي، وبعض الدول تنشئ وحدة خاصة في الجيش باسم "التوجيه المعنوي"، من اجل تعبئة المقاتلين بالروح المعنوية بما تحمل من اهداف وقيم يقاتلون من اجلها ويكونون مستعدين للدفاع عنها ولو كلفهم ذلك حياتهم، هذه التعبئة المعنوية تكتسب مصداقيتها عندما تتواصل مع حياة هؤلاء المعوقين الذين يشكلون نسخة مصغّرة من تلك الحرب.
وعندما يكون الحديث عن حرب بواعثها دينية وحضارية، مثل الحرب الجهادية التي خاضها أبطال الحشد الشعبي ومختلف صنوف القوات المسلحة في العراق، فان تكريم هؤلاء يعني تكريماً لتلك البواعث وتعزيز الايمان بها، والايمان بالقيم الدينية، متمثلة بفتوى الجهاد، هو الذي دفع بالشباب اليافع والرجال أن يتركوا زوجاتهم واطفالهم وعوائلهم وكل أجواء الهناء والراحة، ويسرعوا نحو خطوط التماس مع عناصر داعش وإيقاف زحفهم المتواصل، ثم تغيير المعادلة في الميدان وطردهم من جميع المدن والقرى العراقية.
ولابد من الاشارة الى أن في هذه الحرب المقدسة سقط الآلاف من الشهداء من خيرة ابناء الشعب العراقي، ولهؤلاء استحقاق لا تجهله مؤسسات الدولة، ومكانة يفترض الالتفات اليها في البنية الثقافية للعراق.
إن عدم الاكتراث بالمعوقين والمصابين وايضاً الشهداء بما يليق بمكانتهم وبالدور الذي قاموا به، يعطي رسائل خاطئة للجيل الجديد بحيث يعد نفسه غير معني بما قام به الآخرون من تضحيات، وربما يقول البعض: "إن أجر هذا المجاهد حيّاً او ميتاً يقع على الله، كونه قام بعمل في سبيل الله"! ولا علاقة لهم بالبناء الثقافي وصياغة الوعي الجمعي، وهذا مخالف لمنطق العقل والحكمة في استثمار هذه الطاقة المعنوية الجبارة في رفد الجيل الجديد بمزيد من الثقة بالنفس والأمل بالتغيير والتقدم.
اضف تعليق