منذ قرابة الأسبوع تشهد إيران تظاهرات في عدة مدن؛ احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، من غلاء بالأسعار وارتفاع نسبة البطالة؛ وكذلك أزمة إفلاس بعض شركات الإقراض وتوظيف الأموال؛ والتي سبب انهيارها فقدان شريحة لا بأس بها من المواطنين لأموالهم، مما أدى إلى حالة من السخط الشعبي على أداء الحكومة المتراخي في التعامل مع كل تلك الأزمات التي تمس بعصب الحياة اليومية للشعب الإيراني، في حين تتعامل نفس الحكومة بحسم مع قضايا خارجية في الإقليم، وتسخر لها كل أنواع الدعم والعناية.

من رحم تلك الأوضاع خرج المتظاهرون الإيرانيون في أول احتجاجاتهم من مدينة مشهد، وانتشرت شرارة الاحتجاجات في كل المدن الإيرانية بما فيهم العاصمة طهران، ولكن سرعان ما استغلت تلك الاحتجاجات، وأُعيد تفسير أسبابها خارج إيران وداخلها كذلك، فعلى مستوى الداخل اتهمت حكومة الرئيس روحاني (والتي تنتمي للتيار الإصلاحي) التيار المتشدد في دعم تلك الاحتجاجات لزعزعة الثقة الشعبية فيه، كما أن جماعة المجلس الوطني للمقاومة المعارضة (مناضلي خلق) والتي تتخذ من فرنسا مقرا لها إدعت أن تلك الاحتجاجات ما هي إلا ثورة على نظام حكم الملالي ستنتهي بسقوطه، وأما خارجيا فقد تباينت ردود الفعل بين داعم ومؤيد لتلك الاحتجاجات؛ وممنى النفس بربيع فارسي لا يختلف في نتائجه عن ربيع العرب، كالولايات المتحدة وإسرائيل وبعض دول الخليج، وبين صامت مترقب ينتظر تطورات الأحداث تتواصل الاحتجاجات، في منطقة هي عصب العالم الاقتصادي، وفيها تتقاطع الحدود البالغة الحساسية للنفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري للقوى العالمية الكبرى.

وفي المقابل تستمر الاحتجاجات في المدن الإيرانية، وتستمر معها محاولات الحكومة الإيرانية في احتواءها وتهدئتها، لكن المؤكد أن هذه الاحتجاجات تعكس فشلاً داخلياً عميقاً للتيار الاصلاحي في إيران، والذي تصدر سدة الحكم منذ قرابة الخمس سنوات في إيجاد حلول ناجعة لأزمة الاقتصاد الإيراني المزمنة والمتفاقمة منذ عقود، والتي تتعدى في عمرها عمر الثورة الإيرانية الخومينية لعهد نظام الشاه، والذي انتهج النهج الرأس مالي الاقطاعي في إدارة الاقتصاد، والذي خلق في حينه فجوة اقتصادية كبرى بين طبقات المجتمع الإيراني، وهو ما ساهم في تردي الأوضاع الاقتصادية لغالبية الشعب، وكان لتلك الأوضاع إسهامات كبرى في التأييد الشعبي للثورة الخمينية، والتي أدت إلى سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي نهاية سبعينات القرن الماضي، ومع انتصار الثورة واعتلاء الزعيم الراحل أية الله الخميني؛ وجدت إيران نفسها في حرب استنزاف مع العراق، إضافة إلى ذلك العقوبات الدولية والأمريكية التي فرضت عليها بسبب السياسات الخارجية للنظام الإيراني، وهو ما أدى إلى تقويض الاقتصاد الإيراني، والذي تحول إلى اقتصاد حرب مسخر للمجهود العسكري والتسلح حتى بعد انتهاء الحرب الإيرانية العراقية ظل الاقتصاد الايراني على نفس النمط القديم.

ولكن استطاعت إيران خلال عقدين من الزمن بناء ترسانة تصنيع عسكرية وعلمية مرموقة ومتقدمة جداً، جعلت من إيران عضوا في النادي الدولي العالمي، وجعلت منها قوة ولاعب إقليمي أساسي يحسب له ألف حساب، لكن المواطن الايراني دفع فاتورة كل ذلك من قوته اليومي؛ ولم يتذمر قط، فلم تشهد إيران احتجاجات على الأوضاع الاقتصادية من قبل، وحتى احتجاجات 2009 لم تكن ذات مطالب اقتصادية بل كانت سياسية، تطعن في فوز مرشح التيار الراديكالي محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية، ولكن المفارقة اليوم أن الاحتجاجات على رئيس وحكومة وبرلمان إصلاحيين يتزعمهم رأس التيار الإصلاحي الرئيس حسن روحاني.

لقد أوصل الشعب الإيراني التيار الإصلاحي لسدة الحكم؛ وأعطاه الأغلبية لدورة ثانية في مجلس الشورى البرلمان ومجلس الخبراء؛ والذي يناط به انتخاب المرشد الأعلى، وهو رأس النظام آملاً في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وإيلاء الشأن الداخلي الإيراني الأولوية، لكن مع مرور خمس سنوات من الحكم لم يفلح الإصلاحيون في إنجاز المهمة رغم تحرر الاقتصاد الإيراني من العديد من القيود، وانفتاحه على العالم بعد انجاز الاتفاق النووي، إلا أن المواطن الإيراني لم يلمس أي تحسن يذكر في أحواله المعيشية، وهذا ما دفعه للخروج إلى الشارع ثائراً.

وعلى الرغم من كل ما يحاول البعض تضخيمه مما يحدث هناك إلا انه لا يوجد في الأفق ربيع إيراني على الأقل في المدى المنظور، فالنظام الإيراني ضارب بجذور عقائدية عميقة في الأرض لا يدركها إلا من درس طبيعة المجتمع الإيراني الكلاسيكي الموغل في العقائدية، لكن استمرار السياسات الايرانية وخاصة الاقتصادية على ما هي عليه؛ وعلى المدى البعيد ستؤدي إلى تيبس تلك الجذور وستسقط الشجرة من تلقاء نفسها دون الحاجة لرياح ربيع فارسي أو تدخل خارجي.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
Political2009@outlook.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق