دون اكتراث لتهديدات الرئيس الامريكي دونالد ترامب، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة لصالح قرار القدس بـ 128 صوتاً؛ ما يعادل 66.3% من الأصوات، فيما امتنعت 35 دولة وغاب عن التصويت 21 دولة من إجمالي الدول الأعضاء بالجمعية العامة البالغ عددها 193. واعترضت على القرار 9 دول من بينها أميركا وإسرائيل.
ويؤكد مشروع القرار الذي تقدمت به اليمن وتركيا على اعتبار مسألة القدس من قضايا الوضع النهائي، التي يتعين حلّها عن طريق المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفقاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. ويعرب المشروع عن الأسف البالغ إزاء القرارات الأخيرة المتعلقة بوضع المدينة، ويؤكد أن أية قرارات أو إجراءات "يقصد بها تغيير طابعها أو وضعها أو تكوينها الديمغرافي ليس لها أثر قانوني، وتعد لاغية وباطلة، ويتعين إلغاؤها امتثالاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة".
كما يطالب جميع الدول بأن "تمتنع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في مدينة القدس، عملاً بقرار مجلس الأمن رقم 478 الصادر عام 1980". في اشارة واضحة لعدم القبول بقرار الرئيس الامريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده الى القدس.
القرار يزعج امريكا واسرائيل كثيرا وخصوصا دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، اذ يمثل صفعة قوية لسياسة الاستهتار وعدم احترام اي قواعد للقوانين الدولية والاتفاقات المبرمة، وقد استبق ترامب هذه المسالة وهدد بشكل "صريح" بقطع المساعدات والمعونات المالية التي تقدّمها بلاده عن أي دولة ستصوت ضد قراره بشأن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل. ووصلت به الوقاحة الى توصية سفيرته لدى الامم المتحدة نيكي هيلي بمعرفة اسماء الدول التي ستصوت ضد القرار الامريكي بالاعتراف بالقدس.
الصحافة العالمية اجمعت على ان تأييد أغلبية أعضاء الجمعية العامة بالأمم المتحدة على قرار يرفض خطوة الرئيس دونالد ترمب بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، بمثابة هزيمة معنوية ويزيد من عزلة واشنطن، وبالرغم من أن القرار ليس ملزماً للدول فإن تداعياته تكمن في أن الـ 128 دولة لن تنقل سفارتها إلى القدس، وستلتزم بالقرارات الأممية، الأمر الذي يكذب ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن هناك دولاً عدة ستحذو حذو واشنطن. ويظهر التأييد الواسع فقدان واشنطن العديد من حلفائها، بينهم فرنسا وبريطانيا التي رفضتا الخطوة الأميركية.
ما من شك ان الولايات المتحدة الامريكية تعيش اليوم حالة من الارتباك في ظل سياسة الرئيس ترامب، وقد اوقع بلاده في مطبات اهانتها اكثر مما اعادت قوتها وفق شعاره "امريكا اولا"، فهي اليوم تظهر دولة مارقة ولا تلتزم بالقوانين ما يجعلها عرضة ليس للانتقاد فحسب، انما لتجاوزات من دول اخرى تتحين هذه الفرصة منذ سنوات، والحديث هنا عن الصين وروسيا وتركيا التي دخلت على الخط بقوة.
الصحافة الامريكية تؤكد ما ذهبنا اليه، ودقت ناقوس الخطر الذي يتربص بواشنطن، في هذا السياق اعتبرت صحيفة واشنطن بوست أن "المواجهة المريرة" التي تخوضها أمريكا في مجلس الأمن تشير مجدداً إلى تداعيات قرار ترامب الذي يعدّ تحدياً للرأي العام العالمي، بعد عقود طويلة من السياسة الأمريكية "الوسيطة". وأشارت إلى أن قرار ترامب تسبّب بعزلة دبلوماسية تعيشها الولايات المتحدة، إلى جانب "موجة العنف" التي تسبب بها في منطقة الشرق الأوسط.
التصويت ضد اعتراف ترامب بالقدس ليس انتصارا للفلسطينيين والعرب وحدهم، فالقضية كبيرة جدا، وتعطي مؤشرات قوية على ان موازين القوة العالمية قد تغيرت والى الابد، ولا يمكن للولايات المتحدة الامريكية ان تبقى هي القطب المسيطر على السياسة العالمية، والدول الكبرى الاخرى فهمت اللعبة جيدا ودارتها بذكاء منقطع النظير في ظل حماقات دونالد ترامب الذي لا يركز الا على امجاده الشخصية وتاكيد اختلافه عن اسلافه بتنفيذ وعود انتخابية غير واقعية.
والغضب الامريكي والاسرائيلي وصراخهما يدل على حجم الاهانة والهزيمة، وفي المقابل فان الصمت الروسي والصيني ومعه الدول الاوربية الاخرى مثل فرنسا وبريطانيا، يدل على تقدم حذر نحو ازاحة الولايات المتحدة من غطرستها العالمية وارادوا عن طريق هذا القرار ان يقولوا لواشنطن اننا قادرون على الاعتراض وتحديد معالم السياسة العالمية حتى وان امتلكتم اكبر ميزانية عسكرية بالعالم، فالامور لا تقاس دائما بالمال.
الا ان ذلك لا يعني نهاية القوة الامريكية مطلقا، هي تبقى مهيمنة ولا يستطيع احد انكار ذلك، لكنها ليست بالشكل الذي عرفت به بعد الحرب الباردة وولايتي جورج بوش الابن، وفي الوقت الذي يسعى دونالد ترامب اعادتها الى سابق عهدها فهذا يعني انه مستعد لتنفيذ خطوات غير متوقعة، تهدد المنظومة الدولية بشكل كامل، وتضعف دور الامم المتحدة ومجلس الامن الضعيف اصلا.
لا يمكن التنبؤ بخطوات الادارة الامريكية الحالية تجاه الاهانة الجديدة، والامور تتجه نحو التصعيد الخطير، بما يهدد المنظومة العالمية، وترامب مستعد لاشعال العالم من اجل ان يثبت وجهة نظر شخصية له، وله في هذا المجال سجل حافل من الغطرسة، خلال الاشهر الاول من رئاسته بعد اصراره على مرسوم منع المهاجرين لسبع دول اسلامية من دخول بلاده حتى عندما رفضت المحاكم الامريكية ذلك القرار.
الصين وروسيا ترقصان فرحا الان، وتود لو يعيد الامريكيون انتخاب ترامب لعشرين سنة قادمة، فقد اسهم عمليا باعادة رسم الخارطة العالمية وحقق مكاسب ما كانوا ليحصلوا عليها من دون قراراته الحمقاء، وفي عملية اعادة التموضع سوف يتسلق الكبار السلم، والاذكياء من الدول الطامحة نحو المكانة العالمية والاقليمية المحترمة.
اما الحديث عن فلسطين ورغم كل ما حدث نعتقد انها ستبقى كرة تتقاذفها الدول بحسب مصالحها القومية فقط، وهو ما يفرض على الفلسطينيين عدم الانشغال بالاحتفالات بالقرار الجديد لان نصرهم النهائي سيكون ببناء قوتهم العسكرية التي ستخلق معادلة الردع الحقيقي وحسب حاجتهم الوطنية دون الحاجة لطلب الدعم الخارجي.
اضف تعليق