كفلَتْ جميع الدساتير الديمقراطية الراسخة حرية المظاهرات للجمهور في أي مجال وحول أية قضية، ولكن يرافق هذه الحرية الممنوحة للمتظاهرين شرط أساس لا تنازل عنه، ألا وهو (سلمية المظاهرات)، فهذا الشرط في حالة عدم توافره في أية مظاهرة فإنها تعد فاشلة وخارجة على القانون، ولهذا لا يمكن أن تصب في الأهداف التي تم التخطيط لتحقيقها، خاصة إذا رافقتها أعمال عنف تطول الأرواح والممتلكات، لذا فإن حجر الزاوية في أية مظاهرات وحول أية قضية، سلمية تلك المظاهرات حتى تنتمي الى الجانب الحضاري سواء بالنسبة للفكر أو السلوك.
ومن ضمن القواعد التي تعتمدها الدول المدنية الراسخة، هي نشر السلوك المسالم المتحضر خصوصا في ممارسة حق التظاهر، وهناك مجموعة من العلامات والمؤشرات التي تنتمي للفكر والسلوك الحضاري، سبق الحديث عنها في سلسلة مقالات متتابعة، هذه المؤشرات ترتكز عليها الدولة المدنية، ومن دونها يغدو بناء الدولة التي تحمي الحقوق والحريات مستحيلا، بمعنى أوضح، لا يمكن بناء الدولة التي يطمح لها الفقراء وعموم الشعب، من دون اعتماد شروط الانتماء للتحضّر المذكورة، لأن غيابها أو ضعفها يشكل هدرا أكيدا لجميع الفرص التي تهدف الى بناء دولة المؤسسات الدستورية التي تحمي المواطنين تحت خيمة قوانين عادلة وقوية في الوقت نفسه، تحمي حقوق جميع الأطراف وتضمن سلوكا متحضرا حتى في أضخم التظاهرات عددا أو حدّةً.
ما هو مدى الاستجابة للمتظاهرين
وعندما تعترف الحكومة والدولة ودستورها بأحقية التظاهر، وتوفر الحماية للمتظاهرين، ينبغي أن يقابل ذلك سلوك راقي من المتظاهرين، على أن لا تمر المظاهرات والمطالب المعلنة فيها مرور الكرام، لذلك تعد قضية حق التظاهر، وإعلان المطالب التي يحتاجها الشعب، وإعلان التقصير والعجز التي تعاني منه الحكومات إزاء ما يحتاجه الشعب لتحقيق حياة كريمة تليق بالبشر، بهذا المعنى فإن حالة التظاهر تنتمي الى الحضارة الفكرية الأخلاقية السلوكية، والحالات المشروعة والخلاقة، كونها تهدف الى التصحيح، والى تنبيه الدولة والحكومة والجهات المعنية الى مواطن الخلل هنا او هناك، كما أنها قيمة جوهرية لمحاربة الفساد بشتى أشكاله وأصنافه، في مفاصل الحكومة والدولة والجهاز الحكومي الإداري عموما، فهناك شرط مهم يجب أن يرافق سلمية التظاهر ألا وهو تنفيذ المطالب من قبل الجهات المعنية وعدم مطالبة الحكومة بالسلمية في التظاهر ثم تغض الطرف عن المطالب المشروعة للجمهور وكأنها لم تسمع بها.
علما أننا في العراق، اعتاد بعض المسؤولين حتى من الدرجات العالية على عدم الاستجابة للمطالب خصوصا ما يتعلق بقضايا الفساد المنتشر في مفاصل المؤسسات الحكومية ،لذلك طالما أن التظاهرات مكفولة من قبل جميع التشريعات الدولية وحتى المحلية، فيجب أن تستجيب للمطالب المعروضة في التظاهرات، اذ ليس هناك دولة او حكومة تمنع حق التظاهر علنا، حتى الحكومات المتسلطة الفردية تخشى من إعلان منع التظاهرات علنا، لكنها تلجأ الى الكثير من الخطط والأساليب الخفية والعلنية لكي تشل التظاهرات وتمنعها من تحقيق النتائج المبتغاة، لأن التظاهرات طريقة عصرية وجوهرية لتصحيح الأخطاء الحكومية والإدارية، لاسيما الأخطاء والجرائم التي تتعلق بالفساد وغسيل الأموال والاختلاس والتجاوز على المال العام، واليوم ما نشده من مظاهرات في إقليم كردستان للجماهير الكردية التي تطالب بالقضاء على الفساد والاهتمام بقضايا الشعب تشكل دليلا على أهمية حق التظاهر، ولكن رافق بعضها أعمال عنف في حين كنا نتمنى عدم وجود مثل هذه الحالات التي تُخرج التظاهرات عن مسارها الطبيعي.
لا للعنف في المظاهرات
علما أن الجمهور إذا لجأ الى العنف فقد يكون السبب الأساس هو إهمال مطالبه المهمة، لهذا من الواضح أن الشعوب والمجتمعات وعت أهمية التظاهر ولكن يجب أن تتحلى بالسلوك الذي ينتمي الى الحضارة الإنسانية الراقية، وهذا الأسلوب المتحضر ينبغي أن يسم المظاهرات السلمية لتحقيق المطالب المشروعة للمتظاهرين، ولكن أحيانا قد تُستثمر هذه التظاهرات بطريقة خاطئة، فيتم توظيفها في غير محلها واهدافها، لاسيما اذا كانت خاضعة لأجندات خارجية او داخلية لا تهدف الى التصحيح السليم، بل تخضع لتصفية الحسابات السياسية بين الخصوم، الأمر الذي ينعكس بالضرر الفادح على الشعب، لذا من المهم جدا أن يتنبّه المتظاهرون جميعا، خاصة بسطاء الوعي والثقافة منهم، يتنبهون الى المحاولات التي قد تجر المتظاهرين والتظاهر الى طرق وأهداف ملتوية لا يريدها المتظاهرون ولا يبحثون عنها أصلا، لذا ينبغي أن تبقى الوحدة الوطنية هي الفنار العالي الذي ينظر إليه الجميع ويهتدي من خلاله الى الشاطئ الصحيح، ممثلا بالحفاظ على وحدة الشعب ووحدة البلاد أيضا، وعدم إتاحة الفرصة للمتصيدين بالماء العكر، كي يزيدوا من شحنات التنافر بين أبناء ومكونات الشعب الواحد، لذا من المهم أن تصب المظاهرات في تقوية وشائج الانسجام بين الشعب وليس العكس، وهذا هو الشرط الثاني المهم إضافة الى سلمية التظاهر.
ومن الأهمية بمكان أن يؤمن المتظاهرون وقادتهم بأهمية وحتمية شرط السلم والابتعاد عن العنف، لذا علينا جميعا وأعني العراقيين اولا، أن نعرف أهمية التظاهرات، وأهمية سلميتها، وعدم لجوء المتظاهرين الى الإضرار بموارد البلد ودورته الاقتصادية التي تهم ملايين العراقيين في شماله ووسطه وجنوبه وشرقه وغربه، وان لا يتحول حق التظاهر الى عائق لتقدم البلاد بدلا من أهدافها الحقيقية التي تبتغي تقدم وتطور البلد من خلال تصحيح الاخطاء الحكومية بحق الشعب، وهكذا يصبح حق التظاهر مكفولا من الدولة والحكومة طالما أنه يسير في الاتجاه الصحيح وضمن الضوابط الدستورية للحصول على هذا الحق بعيدا عن العنف، علما لا يمكن الاستغناء عن هذا الحق كونه الطريق الوحيد لتنبيه المسؤولين على أخطائهم، لكن يبقى شرط السلمية وعدم السماح باستخدامها كمعول لتهشيم الوحدة الوطنية، أمرا مفروضا على الجميع ومطلوب التمسك به كي تبقى ممارسة هذا الحق ضمن الإطار الحضاري الذي لا يمكن أن نغادره الى الهمجية والعنف والفوضى.
اضف تعليق