ثمة من ينظر إلى الفيلسوف الألماني (فردريك نيتشة) ، نظرة إعجاب، ويدمجونه مع الرعيل الفلسفي المحسِّن للفكر والسلوك البشريَّيْن، ويجهرون بأن الفكر النيتشوي حفزّ العقل كي يغامر في غياهب المجهول الفلسفي، وينطلق المؤيدون من نقاط ارتكاز فكرية ينطلق منها نيتشة، وبالأخص فكرته الأساس (السوبر مان) أو (الإنسان الأرقى)، ولكن يتناسى هؤلاء المعجبون والمطبّلون له، بأنه كان يتوجع من عاهات عقلية أو دماغية ونفسية.
وقد أشهرت كتابات عديدة عن نيتشة، تلك المشكلات النفسية التي لازمته ردحاً من الزمن، فقد عاني نيتشه في حياته الشخصية من مشكلات عدة، منها علاقته السيئة بأهله، والتي تتلخص في قوله أنه لم يكن يحب أمه، وأن كان ينزعج ويتألم لمجرد سماع صوت أخته، ولم تكن حياته العاطفية أفضل حالا من العائلية، إذ رفض من قبل نساء كثيرات، وعاش أغلب حياته وحيدا، كما عاني من ضعف مبيعات كتبه. ولا نعرف كيف يتسنى لبشر مصاب بهذه العقد النفسية أن يُعتمَد فكرياً، وأن تسير العقول وراءه، وتبجّل أفكاره.
فالمرض النفسي يشترط وجود علّة في العقل، والفلسفة لا مصدر لها سوى العقل بالتحديد، وإذا كان مصدر الفلسفة والفكر مريضا، فماذا سينتج من أفكار وكيف يتم التيقّن من سلامتها؟؟، ولو اعتمدنا مقولة (فاقد الشيء لا يعطيه)، فإننا سوف نبقى ملزمين بالحذر من الفكر والفلسفة التي ينتجها العقل النيتشوي، لا أن نمجدها وننبهر بها، فالإبهار الناتج عن المغايرة الحادة الكلّية المتطرفة، من الممكن أن يدخل في دائرة القول المعروف (خالِف تُعرَف)، فقد يجذبك قول، أو فكرة، أو كلمات بعينها لا لشيء إلا لكونها تخالِف الدارج والمتَّفَق عليه.
وكنتيجة لا يمكن الإفلات منها، فإن ما يتضارب مع السائد، سيكون محطّ رغبة المطّلعين، لأنه لا يتساوق مع المتعارَف عليه وينبذهُ ويكذّبه، ونظراً للخيبة التي أصابت الغرب، فإن العقول كانت مهيّأة لزراعة الفكر النيتشوي المبالِغ بالقوة والإشادة بها، وقد عزا الكثير من النشاطات البشرية الى ما يختلف ويتضاد معها، لهذا أوغل كثيرا في الفكر المخالِف، ودفع باتجاه فكرته المركزية القائمة على (الرجل السوبر مان)، منتقدا الضعف بكل أنواع، وأهمل الأسباب التي تصنع الضعف، وهذه إحدى أكبر نقاط هزال الفكر النيتشوي.
فهناك بشر يولد ضعيفاً من رحم أمه، وآخر يولد في بيئة فقيرة، محيط عائلي أو بلد لا موارد فيه، وثمة أسباب لا حصر لها قادرة على تحطيم كل متبنيات الإنسان قسراً، فمثل هؤلاء هل على الفكر إهمال مسببات الضعف الذي دمَّر إمكانياتهم، ثم أليس من الأجدر أن نقدم المساندة لمن يحاصره الضعف، ونأخذ بيده كي ينهض ويقف على قدميه ليصبح مصدر قوة لنفسه ومحيطه؟ بديلا للتركيز على نبذه وتهميشه باعتباره ضعيفا، بالقياس الى القدحة الفكرية النيتشوية القائمة على فكرة (الإنسان الأرقى) أو (السوبر مان)؟.
وتنميطاً للسخرية النيتشوية، يوغل هذه المرة في الهزء من (القطيع)، وهي المفردة التي يسِم بها عامة البشر، أو الغلبة الغالبة منهم، فيُلصق بهم أوصافا تسخر من عاداتهم، وما درجوا عليه في علاقاتهم، مع أنهم ينظرون لها على أنها من مقومات ثبات المجتمع وجهوزيته للحفاظ على قيمه وأخلاقه، لكن هذا لا يروق للعقل النيتشوي الذي يجد فيه نفاقا، فهو يتهم العموم بأنهم يميلون مع القوة حيث مالت، وحين يجبرهم سبب ما لكسر إرادتهم، فإنهم يستجيبون، ولا يحركون ساكناً.
هذا الفكر مثبط للهمم، ومدمّر للضعفاء أصلا، فقد نسي نيتشة أن الناس ليسوا متشابهين، ولا هم متساوين بأسباب القوة والضعف، فاته ذلك تماما، وأصرّ على ما يرتئيه عقله وحسب، وبهذا يتهم (القطيع، كما يسمّي الجميع)، بأنهم يتهربون من المواجهة، ويتدفقون على الأسهل، نلحظ ذلك في هذه الكلمات المقتبسة:
لقد تحوَّلت بعض المفاهيم والممارسات لدى نتيشة تبعا لما يؤمن به وما ينتجه من أفكار، فقد تحول عند المجتمع "عدم ممارسة الجنس" إلى "النقاء والعذرية"، وتحول "الضعف" إلى "طيبة"، وتحول "الخنوع للمكروهين" إلى "طاعة"، وكذلك "عدم القدرة على الأخذ بالثأر" سمي خطأ بأنه "تسامح"، أو "الصفح والعفو".
ولا نعرف أين مكمن الإعجاب في فكر ينفي التسامح بين البشر، ويهزأ من الصفح والعفو، ويسخر من العذرية، فيما الأدب العربي وحتى الإنساني يتحصَّل على آلاف الأقلام والقرائح التي أُغرمت بهذا النوع من الأفكار البنّاءة التي تحيط الإنسان بأسوار شاهقة من الخلق المنضبط، فتقيه شر الانغمار في الإحباط والسقوط الحتمي في براثن الخطيئة، متخلصا من وباء الضعف برصيده الأخلاقي، على عكس مما يدبجه نيتشة بصيغة أفكار فلسفية كانت ولا تزال محطّ انتقاد المختص.
وقد حدا ذلك بنيتشة نفسه الى التخفيف من غلوائه الفكري، فيما يقترب من التراجع،
فعلى (الرغم من تحفظات نيتشه تجاه المسيحية، وقناعته بخطأ الاعتقادات والقناعات الدينية، فإنه لم يرَ أن "نهاية الإيمان" أمر إيجابي أو يستحق الاحتفال، إذ أن العقائد الدينية، وإن كانت "باطلة" فإنها كانت عونا للبعض في التعامل مع مشاكل ومعضلات الحياة). وهذا يجعل من نيتشة نفسه معرَّضا للتردد، وهو ما يتهم به الضعفاء، فهل يجيز لنا ذلك بوضعه ضمن قائمة الذين يعانون من التردد والضعف؟.
أما مجمل الفكر النيتشوي فهو ما يفتأ يوجّه إهانات بالغة للبشر الضعفاء ويدعو لتهميشهم وإهمالهم، ولو أنه يمتلك السلطة الكافية، فربما ذهب الى عزلهم عن المجموع البشري، وربما كان فكره عاملا مساعدا على صنع عالم متجبر، لحمته وسداه السلاطين الطغاة الذي خرجوا بالفعل في أمم وشعوب، ففرضوا طغيانهم على العالم، فدمروه وأحالوه الى خراب في خراب.
اضف تعليق