سنتناول الآن مغالطة أخرى شائعة في التخاطب اليومي بين النّاس، ونجد لها امتدادا ونفوذا ليس في إطار ما يجري من تخاطب وفق اللغة الطبيعية فحسب بل يمتدّ إلى أشكال التخاطب وفق اللغة الصناعية أيضا. ولذا فهي مغالطة جارية في خطاب الميديا وفي تقنيات التحكم بالمتلقّي، بل في الإعلام يزداد الأمر خطورة حينما تدخل تقنية الصورة في تعزيز هذه المغالطة: يتعلّق الأمر بمغالطة "سد باب الذرائع"(Slippery slope)، والعبارة هنا تفيد معنى مغالطة المنحدر الزّلق، وهي مغالطة تفرض الكثير من التّأمّل والتحدّي معا.
ونعني بالتّحدّي أنّ هذه التي تسمى هنا مغالطة هي من الإلتباس ما جعل بعض أعلام أصول الفقه يصنفونها من قبل كأحد أصول التشريع المعتبرة في عملية استنباط الأحكام. وطبعا لن نغوص أكثر في رأي المنافحين عن هذا الأصل والمخالفين، غير أنّ ما ينتصر له علم أصول الفقه العقلاني هو أن لا يصار إلى أصل يناقض القواعد العقلية والبديهية اليقينية، ولا يصار إلى إقرار قاعدة أو أصل فيها مخالفة لمبدأ التيسير أو مخالفة مبدأ قبح العقاب بلا بيان.
فهذا الأصل الذي يبدو في ظاهره منطقيا هو أصل خاطئ من حيث النظر ومن حيث العمل لأنّ نتائج سد باب الذرائع تؤدّي إلى مفاسد أخرى لا تقل عما يتم افتراضه عبثا. صورة هذا الأصل وأيضا صورته كمغالطة هو أنّ نفترض ترتّب جملة من الأحداث بناء على صدور أمر ما، وتنتهي هذه الأحداث في نهاية المطاف إلى ضرر ما، وهو كافي لكي يجعلنا نحكم بحرمة الفعل الأول، مع أن الحرمة في الأمر الأول ليست مقصودة في ذاته بل لغيره. ثم سرعان ما بنوها على المصالح والمقاصد، وفي قول ابن القيم: "لا يجوز الإتيانُ بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزًا"، وفي تعريف ابن حزم: "ذهب قوم إلى تحريم أشياء من طريق الاحتياط، وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت".
وتفتح الذرائع في مناسبات أخرى وعادة في موضوع التخريجات الفقهية مع خلاف ليس هاهنا مجال لذكره. وربّما سعى كل من الشاطبي والقرافي إلى التخفيف من ذلك عبر تقسيمات وتفريعات لسدّ الذرائع وفتحها بحسب ما يحدّده الظّن بالمصالح والمفاسد.
لسنا هنا في مورد نقض هذا الأصل كأصل في منظومة أصول الفقه بل نريد الإشارة إليه هنا كمغالطة منطقية. وباختصار شديد - حتى لا نستغرق في مطلب أصولي - فإنّ مقاصد المقاصديين وهم الأقوى ممن سعى إلى عقلنة الذرائع ليست محصّنة عن العمل بموجب مغالطة المغالطة، ذلك لأنّ الظّن بالأحكام هنا عادة ما يخرج من دائرة الظّن الخاص المعتبر في الاستنباط والذي له شروطه وحدوده وبين الظّن العام الذي لا يأبه به العقل ولا الشرع وهو مفتوح على سائر الاحتمالات والأوهام.
ثم إنّ ما يخشى منه مقرر في أصول وقواعد أخرى لا حاجة معها لإقرار أصل ملتبس، وأعني أنّ هناك غنى في قواعد وأصول نظير الاحتياط في موارده لا سيما في نوازل العلم الإجمالي بالأحكام كما هناك غنى في المصلحة السّلوكية التي تجعل المصلحة في صميم الجري العملي، وقاعدة لاضرر الفقهية ومقدّمة الواجب وما شابه. فلكلّ حادثة حكم خاص يصار إليه عند الاقتضاء.
وهكذا وجدنا الشاطبي نفسه رغم قوله بالمقاصد حرّم التعمق في العلوم بذريعة الافتتان والضلال كما أجاز فرض الخراج على المسلمين إذا اقتضت ذلك المصلحة، مع أنّ الصّواب الذي يتيحه روح الفقه هو أنّ المسألة هنا لن يعود لها عنوان الخراج بل قد تقتضي المصلحة فرض حقوق معينة تحت عناوين أخرى. وأمّا المقاصديون الجدد فقد أفتوا بجواز كلّ المحرّمات التي تؤدّي إلى غزو سوريا كما فعل القرضاوي وحوارييه استنادا إلى مقاصد مغشوشة وذرائع مسدودة ومفتوحة على المزاج وسياسات كي الوعي.
تكمن المغالطة هنا حينما نثير عددا من الافتراضات المترتبة على فعل شيء، كقول أحدهم: إذا أكلت لحم الخروف فإنك قد تصاب بدوران لأنه غني بالشحوم وبالتّالي الكوليسترول قد يعرضك لنوبة قلبية وبالتالي ستموت، إذن لحم الخروف حرام.
تشيع مغالطة سد الذرائع في التخاطب اليومي وفي كل مستويات الحجاج، لأنّها تقوم على خدعة تهويل النتائج المترتبة افتراضا مما يجعل الفعل الأول يقوم مقام السبب بما يوحي بجريان قاعدة مقدّمة الواجب، وهنا تكمن الخدعة لأنّ الاستنتاجات المذكورة ليست يقينية وإلاّ جرت عليها مقدمة الواجب التي مفادها أنّه ما توقّف عليه فعل الواجب فهو واجب من باب لزوم ذي المقدّمة للمقدّمة.
وأذكر لمّا كنت صغيرا استعملت هذه المغالطة مع أخي حيث كان لدينا مبلغان متساويان من المال، كان أخي يريد الدخول إلى السينما بينما كانت عيني على كتاب. والمبلغ الذي في يدي لا يكفي لكن لو أضفت مبلغه إلى مبلغي لتمكنت من شرائه. ولقد عملت جهدي لإقناعه بأن نشترك في شراء هذا الكتاب مع أنه كان رافضا ثم متردّدا. في الحقيقة استعملت الكثير من المغالطات بما فيها مغالطة التماس المشاعر لأنّني قدّمت له مقدمة في فلسفة الوجود جعلت الدنيا تبدو في عينه عبثا ولا قيمة لها إلاّ من علم ينتفع به، ثم لجأت إلى مغالطة سدّ الذرائع حيث قلت له إننا إذا دخلنا السينما قد تضيع منا فرصة قراءة هذا الكتاب وإذا ضاعت منا هذه الفرصة فسنظلّ في جهل كبير وسنحاسب على هذا الجهل ثم تركت مسلسل الافتراضات تكمل نفسها في ذهنه: أي إذا حوسبنا على الجهل شقينا واذا شقينا كان الموت أفضل لنا..المهمّ هو أنّني استطعت إقناعه. وكان الأمر مفيدا لكن الحجج التي استعملتها مغالطة مع أن مقدماتها ومعطياتها صحيحة. وهذا ما يعني أنّ بعضا من المغالطات لابدّ منه ومفيد وتتحقق به المصالح، ولكن ليس دائما، فلا يصار إلى فتح قاعدة "سد باب الذرائع" على مصراعيها. فأمام كل تسلسل سلبي ذرائعي يمكننا وضع تسلسل إيجابي مخالف فتبطل القاعدة رأسا.
وفي الميديا نجد استعمالا كبيرا لهذه المغالطة، وطبعا ليس حرصا على مصالح الجمهور أو دفعا لمفسدة، فالإمبريالية تخدم مصالحها وتذرأ فقط المفاسد التي قد تترتب عن يقظة الوعي لدى الشعوب. فلو فتحنا المبدأ على رهان المصلحة لما قام عقل أو شرع بل لساخت الدنيا بشعوبها.. وهاك أمثلة من مغالطة سدّ الذرائع كما تمارس في خطاب الإعلام المضلل:
- إنّنا نحارب اليمن وسوريا والعراق والبحرين لأنّنا إذا لم نحارب فسوف تصبح هذه الدول مناطق نفوذ صفوي، وإذا صارت مناطق نفوذ للصفويين فإنّهم سيحتلوننا وإذن وجبت الحرب ضد هذه الدّول..
- بما أنّ إيران قوة صاعدة في المنطقة وهي تسعى لامتلاك النووي، فليس لنا من طريقة لصدّ هذا العدوان إلاّ بالتطبيع مع إسرائيل والتعاون معها ضدّ الخطر الإيراني وهذا يقتضي أن تكون إيران هي العدو الأول لنا وليس إسرائيل، فإذا لم نطبّع ستحتلنا إيران وتقضي علينا لتعيد أمجادها القديمة، إذن أصبح التطبيع واجبا..
نحن أمام مغالطة تعمل على إخفاء العوامل والأسباب الحقيقية التي تؤدّي إلى النتائج السلبية، كما أنّها تخفي إيجابيات عدم الإقدام على فعل ما أو الامتناع عنه تحت طائلة سدّ الذرائع. فبمثل هذه المغالطة يتم شرعنة الحروب الاستباقية التي تهلك الحرث والنّسل، وهي من المغالطات التي قد تترك آثارا مأساوية.
في تشريح هذه المغالطة يبدو أنّها تتضمن صور لمغالطات أخرى، فثمة عدم ترابط حقيقي بين المقدمات لأنها تبدو وكأنها أسباب لبعضها البعض بينما هذا لا يصحّ بالضرورة. ذلك لأنّ صحة كل مقدمة يتوقف على مدى صحة ما قبلها وهو أمر غالبا غير محقّق منطقيا لأنّ المقدّمة الأولى أو الثانية أو الثالثة قد لا تكون هي نتيجة حتمية لما قبلها.
إنّ المغالط في هذه الحالة يسرد نتائج كثيرة تجعلك تخرج من استنتاج سيء إلى آخر أسوأ في تسلسل كارثي يجعل المتلقّي كمن يقع في منحدر زلق من الكوارث وهو ما يشكّل ضغطا على المتلقي يجعله يستسلم للحكم باعتباره حكما منطقيا.
اضف تعليق