يولَدُ بعض الناس وهم يشعرون أنهم مختلفون عن بقية البشر، والشعور الأخطر الذي قد يرافق حياة الإنسان الى النهاية، عندما يعاني نقصاً أو ألما لا يعرف ما هو، ولا يدري كيف يعالجه، أو كيف يتمكن من إكماله حتى لو امتلك كنوز العالم، فبعض النواقص، وبعض التمنيات، تبقى عصيّة على التحقيق، لا يأتي بها المال، ولا الوجاهة، ولا أعظم البدائل التي تضع نفسها بين يديك، وتقول لك: إنسَ ذلك النقص، وها أنا بين يديك، ملْكاً لك، هيا عالجْ نقصكَ المجهول.
وليس هناك أكثر عذابا من شعور الإنسان بأنه غير مكتمل، على الرغم من أن الناس يتمنون أن يحصلوا على أقل من صفاته وممتلكاته المعنوية والمادية، وطالما الشيء بالشيء يُذْكَر، وردتني الآن ذكرى من صديق ثري كان يمتلك أضعاف ما أمتلك من (مادة) وعقارات وما شابه، هذا الصديق قال لي ذات يوم: أريد أن أوجّه لك سؤالا وأرجو أن تجيبني عنه بثقة وصدق.
قلت له: أنا بانتظار سؤالك وسيكون جوابي صادقا تمام الصدق.
قال: أتمنى (وأنا جاد في كلامي هذا)، أن أتبادل معك كل ممتلكاتي المادية والمعنوية، فتصبح العقارات التي أمتلكها ملْكاً لك، وحتى رصيدي الضخم في البنوك سوف يكون من نصيبك بشرط؛ أن تبادلني ما تمتلك من جانب معنوي.
وقال بالحرف الواحد: حتى مسيرتك الثقافية والأدبية وكتبك التي صدرت باسمك كلها تتحول لي وتُصبح باسمي.
بالطبع قد يُطرَح مثل هذا الطرح على سبيل الفكاهة أو المزاح، وهذا كان جوابي للصديق إذ قلت له: لابد أنك تمزح. فصرخ بصوت عال وأقسم بأغلظ الأيمان، بأنه جاد مئة%، وأنه مستعد لذلك فورا، وكانت ملامح وجهه جادة بالفعل، عند هذه اللحظة فكرت بشكل عميق، وسألتُ نفسي (هل أوافق؟)، فجاء الجواب بالرفض القاطع.
أريد أن أصل بكلامي هذا الى أن جميع الناس تعتز بشخصيتها، ومواصفاتها، وتاريخها الشخصي، وسيرتها حتى لو كانت متعِبة وبالغة الشقاء، لدرجة أنها قد ترفض (مثلما فعلتُ أنا) أي عرض يسعى لتجريد الإنسان من مواصفاته وتاريخه وسيرته، وهذا يعني فيما يعنيه أننا يجب أن نحترم الآخرين، ولا نجرحهم في مشاعرهم أو شخصياتهم، وأن نراعي فيهم كلماتنا التي تخرج من أفواهنا سرّا أو علنا، أي يجب علينا أن لا ننتقص من أحد في السر أو العلن، وعلينا أن نعكس هذا الفعل علينا، أي ماذا سيكون شعورنا وموقفنا وردة فعلنا لو أننا عرفنا أن فلانا من الناس تكلّم ضدنا بما ينتقص من شخصيتنا وصفاتنا؟.
أسوق هذه المقدمة طالبا من الجميع أن يحذروا في كلامهم من استهداف الناس، حتى لو كان ذلك بصوت واطئ (همساً)، أو كان سرّا، لأن السر لن يبقى كذلك، بل سيأتي يوم وينكشف للجميع، وحينها سوف يكون جرح المقابل أعمق وأكبر وقد لا يندمل حتى نهاية العمر كما حدث ذلك معي.
وأنا صغير كنت مغرم بالسفر واكتشاف الجديد، وما أن يسافر أبي أو عمي أو عمتي، أو احد من الأقارب الذين نثق بهم، حتى ألتصق به كظله، وأذهب معه أينما يذهب لكي أطلع على الجديد، علّهُ يشبع النقص الذي يلبد في أقصى زاوية من أعماقي، وهكذا سافرتُ مع خالتي الى بغداد وقد اصطحبت إحدى بناتها معها، وذهبنا نحن الثلاثة الى (كراج بغداد) صباحا، وصعدنا في باص بغداد الذي انطلق بنا متهاديا صوب العاصمة.
كانت خالتي تحبني كثيرا فأنا ابن أختها التي تعزّها كثيرا، وقد توجّهت خالتي الى بغداد كي تزور ابنتها التي تزوجت حديثا أحد الغرباء في بغداد، واصطحبتنا معها أنا (الذي التصقت بها كالصمغ) وابنتها التي كانت تقاربني في العمر، فكلانا عمره عشر سنوات في ذلك الحين، وعندما وصلنا بغداد ونزلنا في الكراج، اقترب منا بائع متجول يحمل على رأسه (كيك محلّى يشبع شكل النجمة)، كنتُ جائعا وفكّرت أن خالتي وابنتها التي يساوي عمرها عمري جائعتين أيضا، فذهبت مسرعا الى بائع الكيك واشتريتُ منه ثلاثاً، واحدة لخالتي وأخرى لابنة خالتي والثالثة لي، فقدمتُ واحدة لخالتي كما تتطلب الأصول، ثم قدمتُ الثانية لابنة خالتي فرفضتْ بشدة وخرجت من بين شفتها كلمات مترفعة ورأيت علامات التعالي في وجهها وسلوكها، فتدخّلتْ خالتي وأجبرتها على أن تأخذ مني حصتها من الكيك، فأخذتها على مضض وهي تنظر لي شزرا، أما أنا فشعرت بجرح عميق يحدث في أعماقي، لكنني احتملتُ فعلها وموقفها هذا على مضض.
كان الفصل شتاء، وكنا قد قضينا وقتا طويلا في التسوق وفي متنزّه بالقرب من محطة السكك الحديد، ثم وصلنا الى بيت ابنة خالتي المتزوجة حديثا عند الغروب، رحبتْ بنا ترحيبا كبيرا، وأشعرتني بأنها تحبني وتحترمني كثيرا، فكان سلوكها هذا وحفاوتها بي الدواء الذي عالج جرح أختها الأصغر منها، تناولنا العشاء في غرفتها، فالبيت مكتظ بالبشر، لأن العائلة كبيرة، فاضطرّت أن تجعل من غرفتها الخاصة مكانا لنا نحن الثلاثة ومن حسن الصدف أن زوجها كان مسافرا، نمت في فراشي وكدتُ أغفو سريعا بسبب الإرهاق والتعب، لكن الكلمات التي كانت تدور بين خالتي وابنتها المتزوجة حديثا وابنتها الاخرى، جعلتني لا أنام وتسلّل الأرق لي، فرحتُ أستمعُ لحوارهنّ وأنا (مغمض العينين)، وقد تصورْنَ بأنني نائم تماما، لكنني كنت ألتقط ما يدور بينهنّ من كلام وكأنني بكامل وعيي، ليأتي جرح جديد من ابنة خالتي الصغرى، فقد سألت خالتي ابنتها المتزوجة عن زواجها وهل هي مرتاحة أم العكس، فأجابتها بأنها نادمة على هذا الزواج لاسيما أن زوجها لم يكن كما توقّعتْ.
كنتُ أستمع لكلامها والألم يسحقني حتى أنها ذكرت اسمي وقالت لو أن ابن خالتي كبيرا لتزوجتُ منه بدلا من هذا الزوج الغريب، لحظتها شعرتُ بأنني مرغوب وأن هذه البنت جعلها الله دواءً ناجعا للعقد والنواقص التي تحاصرني، فحلّقتُ في خيال جميل، واستعدتُ ثقتي بنفسي بعد أن نسفتها ابنة خالتي الصغرى، وبالفعل تلك الكلمات الرقيقة المشجعة التي سمعتها من ابنة خالتي الكبرى، أشعرتني بأنني إنسان مرغوب به فعلا، ثم أكملت ابنة خالتي الكبرى كلامها فقالت مخاطبة أختها الصغرى: لو أنكِ واعية وذكية تتزوجين من ابن خالتك هذا (وذكرت اسمي)، فجاء جواب أختها جرحاً جديدا لن يندمل حتى نهاية عمري، لقد رفضتني علنا بكلمات جارحة مشبّهةً إياي بأدنى مخلوقات الله مقداراً.
وما أن انتهت من كلامها الجارح، حتى سمعت صفعة قوية من أمها على خدّها، وانهالت عليها أختها الكبرى بكلمات قاسية، لكن كل هذا لم يزيل الألم الذي أخذ يتراكم في قلبي وأعماقي، وقد لا يصدق أحدكم، أن هذا الطفل الذي هو أنا جرحته تلك الكلمات لدرجة أنني لم أنم حتى الصباح، وتصوروا أن طفلا متعبا لم ينم (ليل الشتاء الطويل) بسبب كلمات جارحة من بنت صغيرة ربما كانت لا تعرف معنى ما تلفظّت به آنذاك.
والآن، ما أريد أن أصل إليه، علينا جميعا أن نتحسّب كثيرا لما نقوله بحق الآخرين، سرّا أو علنا، بحضورهم أم بغيابهم، أقارب أو غرباء، فالإنسان إنسان وله مشاعر بغض النظر إن كان قريباً أم غريبا، هذا الدرس المؤلم، جعلني طوال حياتي أحذر من أية كلمة أقولها بحق الآخرين، لأنني جربت (ألم الكلمة الجارحة)، فبعض الكلمات قد تزرع الألم في قلبكَ الى الأبد.
اضف تعليق