كل من تابع تصميم البرزاني على اجراء الاستفتاء في 25 سبتمبر- أيلول الماضي في كردستان واطلع على ما سبقه من وفود كردية منكوكية الى اسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوربي وما جرى خلال ذلك من استعراضات استفزازية للقوة قامت بها البشمركة في المناطق المختلف عليها وكركوك يستنتج ان البرزاني ما كان سيتخذ قراره بإجراء الاستفتاء ومن ثم استقلاله عن الدولة العراقية ما لم يكن واثقا من دعم اسرائيلي وأمريكي مسبق. وهذا ما كان بالفعل، لكن للأمريكيين مأرب أخرى كانت مؤشراتها ارسال رسالتين واحدة للبرزاني تقول: سيروا ونحن ورائكم، وأخرى للعبادي تقول: سيروا على بركة الله، وكانت النتائج مرضية للجميع. فالبرزاني يعزز مواقع قواته العسكرية دفاعا عن مدينة كركوك "قدس الأقداس" وحدودا كما يدعي رسمها بالدماء.
والعبادي هو الآخر يعزز قواته تمهيدا لاستعادة مناطق بما فيها مدينة كركوك احتلها البرزاني خلافا للدستور الاتحادي. ولحسن الحظ كانت الصدامات التي حصلت بين قوات الطرفين محدودة قام الأمريكيون بجهود الوساطة بين الطرفين لمنع اتساع النزاع المسلح. والمطلوب هنا من كل الأطراف التصرف بحكمة ووعي عال بالمسئولية فالدم المراق كرديا كان أم عربيا هو في الواقع دم عراقي والأموال التي تهدر من جرائها هي أموال عراقية والخاسر الأكبر هو الشعب العراقي. والمهمة الآن هي العودة الى طاولة التفاوض وبذل أقصى الجهود لحل الخلاف الدستوري سلميا حفاظا على دوام العلاقات الأخوية بين الأكراد والعرب واعادة السلام والوئام الى العراق.
وليس سرا استثمر البرزاني خلال السنين الماضية أموالا طائلة لشراء الذمم في أمريكا وغيرها لتسويق مشروع الانفصال عن العراق لكسب تأييد ما أمكن من أعضاء الحكومة ومجلسي الكونغرس الأمريكي وان كانت على حساب جوع شعب كردستان. حيث بعثر من أجل ذلك موارد ضخمة كانت تأتيه من الحكومة المركزية في بغداد ( 17% من أموال الخزينة الاتحادية ) وهبات مالية هائلة من دول الاتحاد الاوربي هذا عدا شحنات الأسلحة التي كانت تأتيه من دول أوربية عديدة بما فيها فرنسا وألمانيا واسرائيل. فأمريكا وحدها تمنحه 400 مليون دولارا سنويا للإنفاق على قوات البيشمركة مقابل ان تلبي سلطة كردستان مطالب أمريكا تماما كما تفعل اسرائيل. جاء ذلك على لسان السفير الامريكي السابق في العراق ريان كروكر عام 2008 وفق ما أوردته صحيفة جيروسليم بوست الاسرائيلية.
وكما هو معروف ان الأمريكيين والأوربيين الغربيين واسرائيل وحتى تركيا قد دعموا سلطة البرزاني سياسيا وماليا وعسكريا منذ تسعينيات القرن الماضي تنفيذا لستراتيجية اسرائيل بتقسيم دول المنطقة الى دويلات قزمية لن تشكل أبدا أي تهديد لاسرائيل. والبرزاني هو أول شخصية سياسية تتطوع جهارا دون حرج بتنفيذ تلك الاستراتيجية بتقسيم الدولة العراقية تزامنا مع الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ليعلنه رسميا هذا العام. أما تقسيم سوريا فجاري على قدم وساق وستعلن قيادة التحالف الديمقراطي الكردي قيام دولتهم الكردية قريبا تمهيدا لإقصاء الأقلية العلوية عن حكم سوريا والبدء بتشكيل حكومات للكيانات الأخرى بما فيهم العلويين والشركز والعرب السنة وغيرهم. أما البرزاني فعلى ما يبدو قد اساء قراءة الموقف الدولي وبخاصة الموقف الأمريكي من توقيت استفتاء الاستقلال عن الدولة العراقية..
فالحكومة العراقية سبق وأن اتفقت مع الادارة الأمريكية السابقة العام الماضي على ترتيبات تشكيل التحالف الدولي للحرب على داعش في العراق اعتبر البرزاني حينها جزءا من ذلك التحالف وبموجب ذلك الاتفاق ضمن الأمريكيون على ما كانوا يحلمون به. فبحسب تلك الترتيبات حصل الأمريكيون على ما بدا وعودا من حكومة العراق ببقاء قوات أمريكية وقواعد عسكرية في مناطق عدة في البلاد بعد الانتهاء من حربهم على داعش. وقد مهد لذلك وزير الدفاع جيمس ماتيك ووزير الخارجية أريك تيليرسون بتصريحات أثناء زيارتيهما المتتاليتين للعراق العام الماضي أثناء الحملة العسكرية ضد داعش. فقد ورد في تصريحاتهم حينها تأكيدات بأنهم لم يأتوا الى العراق لأخذ نفطه في اشارة خفية الى مخاوف العراقيين من الأطماع الأمريكية في ثرواتهم النفطية وبأن وجود قوات أمريكية وقواعد عسكرية لن يؤثر على سيادة العراق وعلى سياسته النفطية..
التفسير الواقعي لازدواجية الموقف الأمريكي الراهن من قرار البرزاني بالانفصال ربما يعود في جزء منه الى قناعة كافية بأهمية العراق سياسيا وعسكريا وجغرافيا فتلك ميزات لا يتمتع بها أيا من الدول الحليفة لها في المنطقة وهي لذلك لن تستبدل العراق بكردستان كما حاول البرزاني ان يوهم نفسه للعروض التي قدمها للأمريكيين واسرائيل لتشجيعهم على جعل كردستان قاعدة موثوق بها لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة.
ان أي وجود مستقر وطويل الأمد للأمريكيين في العراق سيضعهم على حدود طولها أكثر من ألف ميل مع ايران وهو واحد من أهداف غزو العراق عام 2003. وليس ذلك فحسب فان وجودهم على هذه الحدود المترامية سيمكنهم بنفس الوقت من استكمال الطوق الأمني حول عدوهم الاستراتيجي روسيا والدول الدائرة في فلكها في أسيا الوسطى. ويبقى على الحكومة العراقية أن تختار بعناية فائقة بناء علاقات سياسية متوازنة مع كل من امريكا وايران وروسيا خدمة لمصالح العراق الوطنية سياسيا واقتصاديا تحافظ بموجبها على موقف محايد غير منحاز لأي من الدول الثلاثة..
فالانحياز العراقي سياسيا نحو طرف على حساب الأطراف الأخرى ليس في صالح عراق مستقر سياسيا وموحد وطنيا واثنيا، وقد أثبتت الاحداث خلال السنين الأربعة عشر الماضية ذلك وعلى الحكومة العراقية أن تعي هذا. فالمجتمع العراقي متعدد الطوائف والقوميات والأديان ومن الخطأ الجسيم عدم الاعتراف بذلك والتصرف عكسه في العلاقات التي تقيمها حكومات العراق مع دول جواره. الوحدة المجتمعية كما أثبتتها أحداث الفترة الماضية منذ ما بعد الاحتلال الأمريكي البغيض انها بناء هش ولولا ذلك لما انهارت بتلك السرعة وما تزال تبعات انهيارها شاخصة حتى اليوم للعام الرابع عشر على التوالي.
واذا كان انهيار ذلك البناء سريعا وشاملا فان اعادة بنائه ستكون طويلة ومريرة وبالغة الصعوبة، لكن قبل ذلك يجب اعادة بناء الثقة بين مكونات مجتمعنا بما فيها المجتمع الكردستاني الشقيق بفتح قنوات حوار جاد وصريح للأسباب التي قادت الى القطيعة. والطريق الصائب لذلك هو اعادة صياغة بعض بنود الدستور التي تمت على عجل خلال الاحتلال الأمريكي وبتأثير شخصيات أجنبية غريبة عن مجتمعنا تجهل واقعنا وتاريخه. وليس هذا وحسب فقد عملت تلك الشخصيات المشبوهة بوحي من مصالحها التي تتناقض ومصالح مجتمعنا ومستقبله السياسي. وفي الوقت نفسه وهو الأهم جرى تغييب ذوي الاختصاص بعلوم السياسة والاجتماع والفقه القانوني والدستوري في حين ترك المجال واسعا لقليلي الخبرة من عراقيين لم يطلعوا في حياتهم على نماذج من دساتير دول العالم المتقدمة
وأخيرا تتردد في الافق هذه الأيام رغبة أمريكية وربما اشاعة امريكية لإعادة النظر في ما اعتبروه فشلا لأدائهم بعد احتلالهم للعراق وتشكيل النظام السياسي الحالي. فاذا ما ثبتت صحة تلك الخطة\الاشاعة فانه توجه ايجابي رغم ان مدة أربعة عشر عاما تعتبر طويلة جدا لاكتشاف الفشل. التراجع عن الخطأ فضيلة وفق موروثنا الشعبي وهو امر حسن، لكن من يضمن ان ما ينوون فعله سيكون صائبا وفي صالح العراق؟
فهم على ما يبدو يعلقون آمالا على ما يعتبروه رجلهم في العراق السيد حيدر العبادي اذا ما ضمن الفوز في الانتخابات القادمة التي ستجري عام 2018. العبادي بعد تسلمه رئاسة الوزراء بناء على ضغوط من الادارة الأمريكية السابقة قام بعدد من التغييرات في قمة السلطة كما اتخذ بعض اجراءات ادارية هدفها وضع حد للفساد المالي لكنه للاسف فشل في ذلك. ويكمن السبب الرئيس لإخفاقه في تحقيق النجاح هو عدم امتلاكه الفريق الملائم والقوي الذي سينفذ بواسطته اصلاحاته الموعودة ولأن الفساد قد استشرى الى حدود لا يوقفه الا ادارة حازمة تعيد للذاكرة ثقافة الخوف من العقاب.
ان ثقافة النزاهة التي كانت سائدة طوال سنين الحكم الوطني قد تآكلت مع فرض نظام العقوبات الاقتصادية على العراقيين تحت تأثير الولايات المتحدة تمهيدا لاحتلالها العراق التي استشرت خلاله وبعده وما زالت حتى اليوم. البيئة التي يتحرك خلالها العبادي غارقة في الفساد من أعلاها الى أسفلها وتلك كانت خطيئة الأمريكيين التي أخرجت العراق من قبضة شيطان لترميه في وكر الشياطين. فمن يصدق أنهم جادون هذه المرة..؟؟
اضف تعليق