ليس شرطا في تكوين المغالطة أن يتحقق الوعي بها، بل هي خلل في الاستنتاج يمارس في الحياة العادية وهي غالبة على البيئة التواصلية العامّة، لكن حينما تصبح المغالطة مقصودة وعن خبرة ووعي وتعزّز بتقنيات تواصلية، هنا نتحدّث عن مؤامرة ممنهجة ضدّ الدّماغ. لقد كان الإعلام وسيلة لنقل المعلومات والأفكار منذ أقدم العصور حتى قبل ظهور وسائل الإعلام والصحافة. ولا شكّ أنّنا لا نبتعد عن هذه الوضعية إلاّ في مستوى التقدم التقني أمّا من حيث الأنماط فإنّنا عائدون إلى أكثرها بدائية، أي مع تحوّل الصناعة الخبرية إلى يد الجمهور وتصبح الصحافة ممارسة الجميع حينما ينتهي دور الصحافي في لجّة ثورة شبكات التواصل الاجتماعي.
فنقل المعلومة كان يعتمد وسائل بدائية لكن كانت الإشاعة ملازمة للخبر الذي يقضّي مسافة طويلة حتى يصل إلى الاستهلاك العمومي. الإشاعة اليوم ليست مكثّفة فحسب بل لها سرعة الضوء ونستطيع أن نكيّف الصورة بحسب منحى الإشاعة بعد الثورة التي استطاعت تحرير الصورة من حدود المادّة وفي زمن الهولغرام الذي يبشّر بنهاية الواقع.
حينما ظهرت وسائل الإعلام حدث بموازاة ذلك تطوّر هائل في مجال استهلاك المعلومة. وكانت الصحافة مجالا مفتوحا للمثقفين بل لآباء الفكر الحديث والمعاصر ممن يعود لهم الفضل في ضخّ الدّنيا بالأفكار والمفاهيم. إنّنا نتحدّث عن صحافة في حجم هيغل وروسو وهنري دي بالزاك وهيغو وفي الحقبة المعاصرة صحافة في حجم ميشيل فوكو ودلوز وألتوسير وأمبرتو إيكوو.. كانت الصحافة هي وسيلة المثقّف وأداة للتثقيف.. تطوّر الأمر بفعل السياسة والاقتصاد إلى حدّ حصل التآمر على المثقف حارس جودة الأفكار ومتانتها ودخلنا مرحلة الاستعمال المفرط للرداءة.
وفي عهد نيكسون كان للصحافة دور كبير في ووترغيت التي انتهت بسقوط رئيس أقوى دولة في العالم، مع أنّ المغالطة تبدأ من هنا، فهي أقوى دولة في العلاقات العامة أيضا ولعبة الإعلام. هذه الأخيرة هي أقوى وأهم من رئاسة الحكومة، لأنّ من امتلك الإعلام هناك امتلك السياسة وخلف هذه الوضعية يلعب المال الدور الأهم على الإطلاق. بدأ الحديث منذ ذلك الوقت عن السلطة الرابعة، واستمر هذا الشّعار إلى يومنا هذا بعد أن تحوّل إلى مغالطة حقيقية.
تكمن مغالطة شعار السلطة الرابعة من خلال تحويل الكلام من الخاص إلى العام ومن المجاز إلى الحقيقة. لقد كان الأمر يتعلّق بالإعلام في أمريكا وفي سياق أصبح فيه الإعلام هو اليد التي تضرب بها قوى المصالح فوق الرؤوس وصناعة رأي عام معيّن، ولكن الإعلام لم يكن كذلك إلا حينما يصبح وسيلة في يد قوّة اقتصادية وسياسية. وكذلك فالمجاز هنا تحول إلى حقيقة دائمة. يردد إعلاميون في العالم العربي مثلا هذه العبارة بما يوحي أنّهم بالفعل مستقلون وأحرار وهم في خدمة الحقيقة والجمهور. وربما اليوم فقط وعووا أنّ الإعلام الأقدر على التغلّب على الوعي هو المقاولة الإعلامية التي تفوق كبرى الشركات في العالم. وهكذا يستعملون ذلك ليكتسبوا سلطة تحريف الحقيقة والتآمر على الرأي العام لصالح قوى خفية في المجتمع. الإعلام الوظيفي المساهم في تزييف الحقيقة هو يفعل ذلك ليس للإمتاع بل خدمة لمصالح أخرى. ومن هنا فهو يناضل للتهرب من المتابعة والخضوع للقانون الجنائي باعتبار أنّ في ذلك تقييدا لمهنة الصحافة وشكل من الاستبداد والتعسف.
قد يكون للاستبداد دور في خلط الأوراق والتضييق على المهنة لكن هناك قطاع المافيا الذي يستغلّ هذا التمييز بين جرائم خاضعة للجنائي وجرائم خاضعة لقانون الصحافة حتى لو كانت صورة الجريمة ومادتها هي نفسها. تستعير المافيا أعضاء من داخل مهنة الصحافة يجري عليهم قانونها المخفّف ليكملوا مسار الجريمة المنظّمة. وكل شيء يجري وفق مغالطة السلطة الرابعة.
إنّ البيئة الإعلامية تكسبك خبرة في اكتشاف الخبر أو التحقيق لكنها ليست معنيّة بالمعالجة النفسية للصحفي الذي ينحدر من بيئة الانتماءات الحاقدة والذي يجد في الإعلام وسيلة لممارستها بكيفية أكثر خداعا وفتكا والموصول بقطاع المافيا غير الوفي للضمير المهني. وتماما كما أنّه حينما تحلّ الفوضى كما في المراحل الانتقالية من سقوط الدول يسعى كل من له ثأر من جهة أن يبادر إليه في فترة الفراغ وتراخي قبضة الأمن فإنّ الكثير من الإعلاميين يقومون بتصفية الحساب مع خصومهم القدامى والجدد من خلال سلاح الصحافة.
إنّ الصحافة لا يمكنها أن تكون سلطة لمجرد حادثة التأثير في مسار رئيس دولة، بل تظلّ أداة فتّاكة في يد قوى هي من يمارس سلطتها من خلال احتكار وسيلة الإعلام. وفي ظل هذه الفوضى كان يفترض أن تضاعف العقوبة في قانون الصحافة لأنّ القانون الرادع وحده قد يحمي المجتمع من هذه السلطة التي تستهدف وعيه وتساهم في الإساءة. لا يوجد طريق آخر غير تنظيم المهنة وتقنينها وفرض قوانين صارمة بالمعايير التي يفسرها القانون ومقاصده. فالمجرم مجرم سواء أكان قاطع طريق أو محرّض على التّعسّف والجريمة بالإعلام.. التمييز هنا بمبرر المهنة لا معنى له. فالمشارك في القتل ماديا ومعنويا هو مجرم سواء أكان إسكافيا أو طبيبا أو صحفيا أو قاضيا..
أمام مغالطة السلطة الرابعة بات المجتمع في حالة خضوع لهذا الوهم، وبات يستعين بالصحافة أكثر مما يستعين بالقضاء.. وأحيانا يعتقد بعضهم أنّ اللجوء إلى الصحافة هو ضرورة يفرضها العطب الذي تعاني منه عملية الترافع والتقاضي. والحال، أنّنا حينما لا نكون في دولة القانون والحقوق فإنّ كلّ شيء سيان، لأنّ أكبر وهم تستند إليه مغالطة السلطة الرابعة هو وهم الصحافة الحرّة أو المستقلة، بينما لا شيء مستقل في الصناعة الإعلامية لا في المجتمعات المتقدّمة ولا في المجتمعات المتخلفة..
يقوم الترويض الإعلامي للرأي العام في الدول المتقدمة على نوع من الاحتواء الناعم للوعي بينما في المجتمعات المتخلّفة تعتمد طرق إعلامية عنيفة لا تخفي العدوانية ويصبح الإعلامي أحيانا طرفا في معركة بين اليد الخفية التي تحرك الإعلام وبين الضحية، هنا تظهر بين الفينة والأخرى الصحفي - الحاقد الذي يمارس المهنة بعدوانية وتحيّز وحسابات مفيوزية.
في مجتمعات التخلّف والأحقاد يتخيّل الإعلامي نفسه يتبختر في نياشين السلطة الرابعة الذي يوفّر له حصانة الانقضاض على حقوق النّاس والتآمر مع المافيا في عمليات تصفية الحساب، وهو أخطر على مهنة الإعلام التي يفترض فيها العلم والنبل. وهكذا فإنّ مضاعفة العقوبة في حالة الإعلامي المتورّط ليس لأنه إعلامي بل لأنّه مسيء إلى المهنة التي واحدة من متاعبها اختراقها من قبل المافيا.
وللتذكير، فإنّ هذه مجرد صورة من صور المغالطة التي تقوم على الاستدلال الخاطئ بناء على مخاتلات منطقية، وهي ترتكز على صور أخرى من المغالطة، نذكر واحدة منها على سبيل التمثيل لا الحصر: مغالطة الحجة الدائرية (Circular Reasoning)، أي حينما نجعل من شيء ما هو هدف في الحجاج والاستنتاج مقام إحدى المقدّمات، ذلك لأنّ مفهوم السلطة الرابعة هو استنتاج سرعان ما تحوّل إلى مقدّمة تنبني عليها سلسلة من الاستنتاجات الأخرى.
الإعلامي المكافح من أجل الحقيقة لا يبحث عن حصانة ولا عن سلطة بل يبحث عن الحقيقة بأساليب نضالية. الذين يبحثون عن السلطة الرابع بالمعنى العسكري للعبارة هم الطابور الخامس للمافيا داخل قطاع الإعلام. وفي مثل هذه الحالة شيء واحد يوقف المافيا هو النضال من داخل الصحافة ضدّ محاولة احتوائها. فعدوّ الإعلامي المفيوزي هو الإعلامي المناضل الحرّ الذي يستعمل ذات الوسائل ولو بإمكانات متفاوتة. لذا قلنا بأنّ تصحيح الإعلام هو بالإعلام ومن داخل المهنة لأنّ لا أحد يراقب الإعلامي أكثر وأفضل من الإعلامي.
في القادم: مغالطة الموضوعية
اضف تعليق