لم يسبق أن صنفّت هذه الظاهرة في باب المغالطة المنطقية مع أنّها الأكثر شيوعا والأخطر من سائر صور ووجوه المغالطة. سيساهم الواقع الافتراضي أي الواقع المعاد إنتاجه وفق منطق الصّورة للإجهاز على الواقع، ذلك الواقع الذي يبدو أكثر بطؤا وأكثر صلابة من أن يخضع للخداع، ومن هنا فإنّ مغالطة الواقع المغشوش في مجال السياسة الإعلامية المغالطة تقتضي إعادة تشكيل الواقع والمساهمة في الرّداءة باعتبارها شرطا في تدجين الواقع وسرعة التّحكّم به.
وهنا تكمن إحدى أخطر السياسات التي يساهم فيها الإعلام باعتباره يملك القدرة على تطويع الصورة واللعب بمضمون الخبر. وكما أكدنا سابقا فإنّ وظيفة الإعلام في زمن التّحكم والهيمنة في الرأي العام لا تقف عند إنتاج وتداول الإشاعة والتضليل بل تذهب حدّ تغيير بنية الواقع من خلال اختلاق عالم موازي له بل مهيمن عليه وتابع له: واقع افتراضي يسهل العبور من خلاله إلى واقع يبدو أكثر بيروقراطية في تقبّل الوجوه الغريبة.
ستلعب أيضا الثورة الرقمية والمعلوماتية دورا كبيرا في الانقلاب على نظام الواقع وجعله تابعا لقرارات الواقع الافتراضي البديل. تحوّل الواقع الافتراضي إلى مزرعة لكبرى أشكال المغالطة وإلى ساحة لصناعة الزّيف. وسوف تصبح وسائل التواصل الاجتماعي في حلّ من واجب التحقق من المعلومات وفي حلّ من امتلاك أدوات التحليل بحجّة موت الصحفي وتحول كلّ مواطن إلى مساهم في نقل المعلومة.
هذه الفوضى التي تبدو عارمة هي كذلك في عيون مستهلكي الواقع الافتراضي الجديد، بينما القوة المتحكّمة في لعبة الخداع البصري متحكّمة في دواليب الفوضى ومدركة لتفاصيل اللعبة ونهاياتها. ففي قلب الفوضى الخلاّقة للمعلومة هناك خيط ناظم يسوس الزّيف سياسة ويضع للفوضى منهاجا خفيّا تسلك عليه باتجاه وعي المتلقّي الذي يبدو في حالة دهشة وزهو، وهو في كل هذه اللعبة لا يتجاوز دور الضحية الذي يخرج من حالة استغلال إلى أخرى.
مغالطة الواقع المغشوش هي حينما يجد بعض المحللين الفاشلين في الواقع مرادهم في العالم الافتراضي، حيث تنتهك الحدود وتلغى الفوارق الموضوعية التي يفرضها الواقع فيفتعلون جدلا فارغا ثم يعود الإعلام ليقتبس من داخل هذا الجدل الافتراضي الذي يتحوّل إلى مغالطة المصدر التي تحدّثنا عنها، أي إنتاج الخبر من داخل العالم الافتراضي ثم تحوّله هناك إلى مصدر تنقله الصحافة ثم يسقط على الواقع بأساليب تبسيطية لكنها تفعل فعلها لدى متلقّي غير قادر على فهم مسار بناء هذه الحقيقة الزائفة. هنا نجد أن مغالطة الواقع المغشوش تستند إلى مغالطة المصدر في هذا المستوى من التّضليل.
يستطيع أي نصّاب في المشهد الإعلامي أن يثير قضية ما في وسائل التواصل الاجتماعي ثم يعود لتثبيتها في الواقع بوسائل الخداع: الخداع هنا ليس فقط يتعلق بالصورة أو جدلية الانتقال من الافتراضي إلى الواقعي بل خداع وسائل الإعلام نفسها من خلال تسامح هذه الوسائط في المضمون والتركيز على الشّكل والإثارة. وكان من المفترض أن يكون الممشى الطبيعي للحقيقة من الواقعي إلى الافتراضي لمزيد من متعة الخيال، لكن المغالطة هنا تجعل مسار الحقيقة ينتقل من الافتراضي إلى الواقعي.
إنّ قيمة الافتراضي هي حينما يكون امتدادا للواقع وليس بديلا عنه، أو يكون الواقع امتدادا للافتراضي فتلك هي الكارثة العظمى. وهنا وجب التذكير أن الافتراضي هو ليس المفترض أو الفرضي لأنّ هذه قضية علمية لها علاقة بتحقيق الواقع، بل الافتراضي هنا هو هروب من الواقع وخداع ومراوغة بل هو المزاج المدجّج بتقنية سحرية، تصوّر لو أنّ تافها امتلك ناصية التقنية، أي مصير للجودة ستبقى في عالمنا؟.
تصنع الوجوه المغشوشة وتثار القضايا المفتعلة في العالم الافتراضي ثم تنحدر كلعنة عبر الوسائط الإعلامية إلى الواقع. لقد أصبح الواقع خاضعا في كل تفاصيله للخداع الافتراضي. وهكذا أصبح الواقع في حدّ ذاته مشكلة لدى الوسائط الإعلامية لأنّ الواقع مثقل بشروط وتطلّبات الموضوعية، والمروءة، والتّحقق، وحفظ المسافات والتمييز بين السياقات والأزمنة والأهم من كلذ ذلك أنّ الواقع مثقل بشروط موصولة بالضمير والرقابة والحياء، وكلّها مفقودة في المزرعة الافتراضية..
فالواقع هو عدوّ المغالطة ومقبرتها لذلك يلجأ الإعلام التضليلي، وهو تضليلي بالسياسات التي تقف خلفه والأنماط من الإعلاميين الذي يؤثرون استغلال المهنة بدل القيام بها على أساس الضمير المهني، وهكذا لاحظنا في أزمنة الزيف هروبا يكاد يكون جماعيا نحو الافتراضي، مما يؤكّد أنّ الحاجة إلى المعلومة تجاوزت الحاجة إلى التحقق منها: المعلومة من دون شرط الحقيقة، المهم هو تأمين الوفرة في الاستهلاك والاستمتاع بالخبر الذي يجد من يبلغ به إلى قلب الشّبكة.
حالة مزرية تقوّض مشروعية الواقع وتملأ دنيا النّاس بصور مغشوشة وافتراضية يجد فيها أهل التضليل والإلتباس خير وسيلة للطّنز الافتراضي على المتلقّي. تستطيع أن تلاحظ على مساحة البرية الافتراضية نطّات وتحوّلات أسطورية لكائنات تصنع لنفسها لونا بين عشية وضحاها، ثم تخلع جلدها القديم حين لا يبدو لها مناسبا، فالافتراضي هو ليس عالما يعفيك من مسؤولية التّحقق والتحقيق فحسب بل هو أيضا مجال أو مزرعة للجبن، أي يمنح الجبناء وسيلة للطغيان الافتراضي من بعيد، أي إدارة معركة الخداع من داخل غرف النّوم.
وكما ذكرنا بأنّ لا أحد يملك أن يوقف هذا السيل العارم من الخداع بناء على مغالطة الواقع المغشوش ما دام لم يوجد تيّار إعلام مناهض للزّيف متتبّع لكل أساليب الخداع الافتراضي. فهذه المغالطة تقوم على خدعة الحضور، حيث لا أهمية لمضمون ونوعية الحضور، ذلك لأنّه رسخ في جبلّة البشر أنّ الحضور هو مساوق للوجود، والخير، والمشروعية.
تفتح وسائل الإعلام الباب على مصراعيه أمام هذا النّمط المغشوش وتغلق الباب على الغير وفق معايير غامضة لكنها عند الخبير باستراتيجيا استعمال الميديا هي واضحة. التّلفزيون في البيئة الميديولوجية الرجعية هو مفتوح أمام المرتزقة والمتعاونين الموصولين بأجندة محدّدة، لا سيما حين يتكرّرون في غياب الرموز الحقيقية والمثقّف الحقيقي. وعادة هم ضعفاء تعمل سلطة التوظيف على احتوائهم بناء على علم نفس أدلر ومركّب حقارة.
سوق المعلومة يفرض أن يتواجد اختصاصان هاهنا يتبادلان محصول الخبر وأحيانا إعادة إنتاجه. والإعلامي المرتزق شأنه شأن المحارب المرتزق وككل مساحات وأنواع المهام التي يقوم بها المرتزق هو مناهض للحقيقة ولا يمكن أن يعيش إلاّ داخل الإلتباس. هنا يصبح الهدف ليس إيصال المعلومة والرأي بل إعادة صياغة الواقع وتحريفه وبلبلة الوعي: مهمّة الإعلامي/المظروف، أي الذي يعمل تحت ضغط "الظرف" والمال، وهو هنا مستعدّ للاغتيال الحقيقة لأنّ سهرة من الشامبانيا تنتظره عند المساء، بعد أن يدخل في دورة استهلاك لن يؤمّنها له مردود المهنية.
تتعرّض البيئة الإعلامية فضلا عن حالة التطفّل القصوى إلى الانتهازية والرداءة، لقد بات مجالا لمافيا التحريف والتحكم في صناعة الرأي العام. يقول بعضهم:
- لا تهمّني الحقيقة أو مدى صحة الخبر، يهمني أن أبيع أكبر عدد من الجريدة
ـ لا يهمّني الضمير المهني، أنا أريد ان أعيش
ـ لا أأبه بالمجتمع فهو قطيع وعليّ أن أقدّم له أي شيء حتى لو كان فاسدا
ـ عن أي ضمير مهني تتحدّث، وهؤلاء كلّهم بلا ضمير
ـ لا يوجد إعلام نظيف، فلماذا أكون نظيفا؟
ـ أنا أريد أن أؤمّن لنفسي شرابا يوميا وسهرة أسبوعية ودفع ثمن أقساط البيت
ـ أنا جزء من هذا الواقع الرديء، أنا لست نبيّا
وإذا كان هذا الصنف يملك على الأقل ملكت التعبير عن انحطاطه فإنّ قسما آخر يفضّل المزايدة بالمبدأ ويقدم نفسه بوصفه مناضلا وحرّا. وهناك تواطؤ بين هذا الصنف من الإعلامي/المظروف وبين خبراء مغشوشين امتلأ به المشهد، حيث لم يعد هناك بالإمكان إحاطة هذه الرداءة بكساء خادع من الأضواء بل بلغ الهوس والسباق إلى حدّ تجريد الرداءة من قناعها وأضوائها، لتصبح رداءة وقحة تؤدّي إلى حالة من النفور والقرف.
تحاول مغالطة الواقع المغشوش الاستناد إلى خدعة الحضور الذي يأخذ طابعا ممسرحا يحوّل الواقع إلى خداع وتمسرح مستدام فاقد للمضمون الجدّي في المعنى والموقف. إنّ التّآمر على الواقع جزء من لعبة الميديا المتحكّم في أدواتها وسياساتها. ولا يمكن للإمبريالية وقوى الرجعية أن تحقق هيمنتها على الجمهور من دون خداع للوعي عبر تصدير واقع افتراضي بل واحتلال الواقع بالزيف.
إنّ المتلقّي المعاصر هو ضحية خداع ميديولوجي يرهن وجوده لهذا النوع من الاستهلاك المفرط للزّيف، حتى الواقع ورموزه مدين للعبة الخداع البصري والافتراضي. إنّها صناعة الرداءة التي تتورّط فيها الوسائط وربما وعن طريق العدوى ينتقل الزّيف إلى وسائل إعلام تبدو أكثر ممانعة لكنها تقع في فخ الإعلام المضلّل. إنّ للمغالطة آثارا وعدوى في المشهد.
تؤمّن مغالطة الواقع المغشوش تهريبا ممنهجا للواقع بكل ما يحبل به من اشتراطات، كالموضوعية أو الحدّ الأدنى منها والمروءة والحياء والمصداقية والتحقّق. إنّه أشبه بأحلام يقظة أحمق تفرض بوسائل الإتصال على وعي الجمهور وتصبح واقعا يجد صلابته في العناد الافتراضي الملوّن والخادع وسلطة التّفاهة التي تقضّ حتى روح الحداثة باعتبارها ثورة ضدّ كل أشكال الوهم والتساهل مع الحقيقة(بتعبير إغناسيو راموني بأنّ الأنوار والثورة العلمية تطورت ضدّ هذه الفكرة= أي انظر تفهم) هنا لمزيد من التدقيق، انظر بمعنى شاهد، فبين المشاهدة والفهم يفترض أن توجد مسافة منهجية علمية، ذلك لأنّ البصر المجرد هو معرّض للخداع فما بالك بالبصر المستند إلى تقنية قابلة للتّصرف المطلق بالصورة.
وجوه هذا الواقع الافتراضي المصطنع تؤثّث للرداءة والاندحار المنهجي للواقع. إنّنا في عصر نهاية الواقع وموت الحقيقة وسيادة الزّيف وهيمنة الرداءة، فكل وجه من الوجوه وجدته يحتل وسائل إعلام رجعية من دون عناء وبتواطؤ على خدمة أجندة ما، فهو عميل مهما حاول أن يتمسرح في الخطاب أو يتلوّى في القول أو يترنّح في الجدل أو حتى حين يلجأ للهروب إلى الأمام بافتعال إثارات فارغة وادعاءات زائفة وتمثّل صورة أكبر من حجم كينونته. إنّ الرداءة تقضم الجودة، والوهم يلتهم الحقيقة، والافتراضي يطلق رصاصة الرحمة على الواقع، والعملاء يملؤون المشهد بالتّفاهة والإدعاء.
بعض المحلّلين أو المثقفين أو النجوم المغشوشين الذي يتم إنتاجهم داخل وسائل الإعلام التضليلية سرعان ما يتم قبولهم في وسائل إعلام ممانعة لا تملك حصانة ميديولوجيا ضدّ العدوى، وهكذا تصبح البيئة الإعلامية برمتها موبوءة، وهذا الوباء الذي يتربّص بالوعي الجماعي لا يقلّ عن الطّاعون الذي يضرب البلاد والعباد.
في القادم: مغالطة السلطة الرابعة
اضف تعليق